أم أمة الله |
17-10-2019 05:56 PM |
رد: فوائد هامة للشيخ ابن تيمية ،فوائد من المجلد العاشر من فتاوى شيخ الإسلام
ص405:فَأَمَّا الْخَلْوَةُ وَالْعُزْلَةُ وَالِانْفِرَادُ الْمَشْرُوعُ فَهُوَ مَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ . فَالأَوَّلُ: كَاعْتِزَالِ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ وَمُجَانَبَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } ...
وَأَمَّا اعْتِزَالُ النَّاسِ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ وَمَا لا يَنْفَعُ وَذَلِكَ بِالزُّهْدِ فِيهِ = فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ ، وَقَدْ قَالَ طاوس : نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهِ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ .
وَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ تَحْقِيقَ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ فَتَخَلَّى فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ مَعَ مُحَافَظَتِهِ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ « أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا يَتَتَبَّعُ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ ، وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَدَعُ النَّاسَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ » . وَقَوْلُهُ : { يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ مَالًا يُزَكِّيهِ وَهُوَ سَاكِنٌ مَعَ نَاسٍ يُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فِيهِمْ فَقَدْ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ { مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً إلَّا وَقَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ } وَقَالَ : { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ } .
ص418: وَكُنْت فِي أَوَائِلِ عُمْرِي حَضَرْت مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ " فَكَانُوا مِنْ خِيَارِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ . فَبِتْنَا بِمَكَانِ وَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا سَمَاعًا وَأَنْ أَحْضُرَ مَعَهُمْ فَامْتَنَعْت مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلُوا لِي مَكَانًا مُنْفَرِدًا قَعَدْت فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا وَحَصَلَ الْوَجْدُ وَالْحَالُ صَارَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ يَهْتِفُ بِي فِي حَالِ وَجْدِهِ وَيَقُولُ : يَا فُلَانُ قَدْ جَاءَك نَصِيبٌ عَظِيمٌ تَعَالَ خُذْ نَصِيبَك فَقُلْت فِي نَفْسِي ثُمَّ أَظْهَرْته لَهُمْ لَمَّا اجْتَمَعْنَا : أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ فَكُلُّ نَصِيبٍ لَا يَأْتِي عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَا آكُلُ مِنْهُ شَيْئًا . وَتَبَيَّنَ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَعِلْمٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ سَكْرَانُ بِالْخَمْرِ . وَاَلَّذِي قُلْته مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا النَّصِيبَ وَهَذِهِ الْعَطِيَّةَ وَالْمَوْهِبَةَ وَالْحَالَ سَبَبُهَا غَيْرُ شَرْعِيٍّ لَيْسَ هُوَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا شَرَعَهَا الرَّسُولُ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ يَقُولُ : تَعَالَ اشْرَبْ مَعَنَا الْخَمْرَ وَنَحْنُ نُعْطِيك هَذَا الْمَالَ أَوْ عَظِّمْ هَذَا الصَّنَمَ وَنَحْنُ نُوَلِّيك هَذِهِ الْوِلَايَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
ص420:
وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ [النذر] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إلا الْتِزَامُ مَا الْتَزَمَهُ وَقَدْ لَا يَرْضَى بِهِ فَيَبْقَى آثِمًا .
وَإِذَا فَعَلَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ بِلا نَذْرٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ.
وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ بِالنَّذْرِ تَحْصِيلَ مُطَالِبِهِمْ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّذْرَ لا يَأْتِي بِخَيْرِ فَلَيْسَ النَّذْرُ سَبَبًا فِي حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاذِرَ إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ حَفَّظَنِي اللَّهُ الْقُرْآنَ أَنْ أَصُومَ مَثَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ إنْ عَافَانِي اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ أَوْ إنْ دَفَعَ اللَّهُ هَذَا الْعَدُوَّ أَوْ إنْ قَضَى عَنِّي هَذَا الدَّيْنَ فَعَلْت كَذَا فَقَدْ جَعَلَ الْعِبَادَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي تِلْكَ الْحَاجَةَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمَنْذُورَةِ بَلْ يُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ لِيَبْتَلِيَهُ أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ ؟ وَشُكْرُهُ يَكُونُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا تِلْكَ الْعِبَادَةُ الْمَنْذُورَةُ فَلَا تَقُومُ بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَلَا يُنْعِمُ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِيَعْبُدَهُ الْعَبْدُ تِلْكَ الْعِبَادَةَ الْمَنْذُورَةَ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً فَصَارَتْ وَاجِبَةً ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوجِبْ تِلْكَ الْعِبَادَةَ ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ يَرْضَى مِنْ الْعَبْدِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبَ الْمَحَارِمَ ، لَكِنَّ هَذَا النَّاذِرَ يَكُونُ قَدْ ضَيَّعَ كَثِيرًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ثُمَّ بَذَلَ ذَلِكَ النَّذْرَ لِأَجْلِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَتِلْكَ النِّعْمَةُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ بِهَا لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْمَبْذُولِ الْمُحْتَقَرِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ كَثِيرًا وَالْعَبْدُ مُطِيعٌ لِلَّهِ : فَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يحوجه إلَى ذَلِكَ الْمَبْذُولِ الْكَثِيرِ ؛ فَلَيْسَ النَّذْرُ سَبَبًا لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ كَالدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إذَا فَعَلَهَا الْعَبْدُ ابْتِدَاءً ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجْلِبُ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً لَكِنَّهُ كَانَ بَخِيلًا فَلَمَّا نَذَرَ لَزِمَهُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُعْطِي عَلَى النَّذْرِ مَا لَمْ يَكُنْ يُعْطِيهِ بِدُونِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَم .
ص427:
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ ؛ فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهِ بِتَفْوِيتِ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْ الْكَسْبِ ؛ فَفِعْلُ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَتَنَوَّعُ " تَارَةً " بِحَسَبِ أَجْنَاسِ الْعِبَادَاتِ ؛ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ ، وَجِنْسَ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ ، وَجِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ .
و " تَارَةً " يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الصَّلَاةِ .
و " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرِ كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ مَشْرُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ فَفِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ .
و " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ : كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَعِنْدَ الْجِمَارِ وَعِنْدَ الصَّفَا والمروة هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ دُونَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ لِلْوَارِدِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ لِلْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ .
وَ " تَارَةً " بِاخْتِلَافِ مَرْتَبَةِ جِنْسِ الْعِبَادَةِ : فَالْجِهَادُ لِلرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَجِهَادُهُنَّ الْحَجُّ ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ طَاعَتُهَا لِزَوْجِهَا أَفْضَلُ مِنْ طَاعَتِهَا لِأَبَوَيْهَا ؛ بِخِلَافِ الْأَيِّمَةِ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِطَاعَةِ أَبَوَيْهَا .
و " تَارَةً " يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَعَجْزِهِ :
فَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ أَفْضَلَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَغْلُو فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ .
فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمُنَاسَبَةِ لَهُ وَلِكَوْنِهِ أَنْفَع لِقَلْبِهِ وَأَطْوَع لِرَبِّهِ = يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَفْضَلَ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَيَأْمُرَهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ ! وَاَللَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ وَهَدْيًا لَهُمْ يَأْمُرُ كُلَّ إنْسَانٍ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ .
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْجِهَادِ أَفْضَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ - كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ - أَفْضَلَ لَهُ وَالْأَفْضَلُ الْمُطْلَقُ مَا كَانَ أَشْبَهَ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
ص440: ... وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ كَالْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالِ فَلا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْفَرْضَ لا لِعُذْرِ وَلا لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ كَمَا لا يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْهُ وَلا تَسْقُطُ بِحَالِ؛ كَمَا لَا يَسْقُطُ الْإِيمَانُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ أَفْعَالِهَا، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ الأَفْعَالِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَقْوَالِ ، فَهَلْ يُصَلِّي بِتَحْرِيكِ طَرْفِهِ وَيَسْتَحْضِرُ الْأَفْعَالَ بِقَلْبِهِ ؟
فِيهِ قَوْلانِ لِلْعُلَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
ص445: وَأَمَّا " الْجُنُونُ " فَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نَقَائِصِ الْإِنْسَانِ ؛ إذْ كَمَالُ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ إزَالَةَ الْعَقْلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَحَرَّمَ مَا يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى إزَالَةِ الْعَقْلِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ فَحَرَّمَ الْقَطْرَةَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُزِلْ الْعَقْلَ ؛ لِأَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَ هَذَا زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مُقَرِّبًا إلَى وِلَايَةِ اللَّهِ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ : «هُمْ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَقُوا السِّيَاجَ فَلَا فَرْضٌ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلٌ مَجَانِينُ إلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ »
فَهَذَا كَلَامُ ضَالٍّ ؛ بَلْ كَافِرٍ يَظُنُّ أَنَّ لِلْمَجْنُونِ سِرًّا يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ عَجِيبٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ . وَيَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ كَمَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَاشَفَ أَوْ خَرَقَ عَادَةً كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِسَبَبِ شَيَاطِينِهِمْ أَضْعَافُ مَا لِهَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَضَلَّ وَأَكْفَرَ كَانَ الشَّيْطَانُ إلَيْهِ أَقْرَبَ ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ فِي جَمِيعِ مُكَاشَفَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ...
ص449: وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَاذِبًا وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ سبيعة الأسلمية وَقَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ قَلَائِلَ فَقَالَ لَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بعكك : مَا أَنْتَ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْكِ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ بَلْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي }
وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ عَامِرًا قَتَلَ نَفْسَهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ فَقَالَ : " كَذَبَ مَنْ قَالَهَا ؛ إنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ " وَكَانَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أسيد بْنَ الحضير ؛ لَكِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ كَذَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا يُفْتُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَهُوَ مِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ .
فَإِذَا كَانَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ الْمَغْفُورِ لَهُ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ ؟ فَهَذَا خَطَؤُهُ أَيْضًا مِنْ الشَّيْطَانِ مَعَ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ وَالْمُجْتَهِدُ خَطَؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ ؛ كَمَا أَنَّ الِاحْتِلَامَ وَالنِّسْيَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ ، بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ فَهَذَا كَاذِبٌ آثِمٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِلُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ وَيُوحِي إلَيْهِ بِحَسَبِ مُوَافَقَتِهِ لَهُ وَيُطْرَدُ بِحَسَبِ إخْلَاصِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } .
ص 480: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إذَا وَافَقَ هَوَاهُ وَيُخَالِفُهُ إذَا خَالَفَ هَوَاهُ فَإِذَا أَنْتَ لا تُثَابُ عَلَى مَا اتَّبَعْته مِنْ الْحَقِّ ، وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا خَالَفْته . وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا قَصَدَ اتِّبَاعَ هَوَاهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ .
ص 503: وَقَالَتْ عَائِشَةُ : « كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ يُعَاقِبُ لِلَّهِ وَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَسٌ أَنَّهُ كَانَ يَعْفُو عَنْ حُظُوظِهِ وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ :{ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الْإِرَادَةِ ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَكَرِهَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
وَأَمَّا لِحَظِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ وَلا يَنْتَقِمُ بَلْ يَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ ، وَيَعْفُو عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ وَفِي حَظِّ نَفْسِهِ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ . فَيَقُولُ : " لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ " وَفِي حَقِّ اللَّهِ يَقُومُ بِالأَمْرِ فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْجِهَادِ الْمُمْكِنِ فَجَاهَدَهُمْ أَوَّلًا بِلِسَانِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } .
ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا لَامَ مُوسَى آدَمَ لِكَوْنِهِ أَخْرَجَ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنْ الْجَنَّةِ بِالذَّنْبِ الَّذِي فَعَلَهُ فَأَجَابَهُ آدَمَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى " وَذَلِكَ لأَنَّ مَلامَ مُوسَى لآدَمَ لَمْ يَكُنْ لِحَقِّ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا لَحِقَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ
الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْمُصِيبَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَذَكَرَ لَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ أَمْرًا مُقَدَّرًا لا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ، وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْعِبَادَ يُؤْمَرُونَ فِيهَا بِالصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ .
وَأَمَّا لَوْمُهُمْ لِمَنْ كَانَ سَبَبًا فِيهَا فَلا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الأُمُورِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ يُؤْمَرُونَ فِي ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَدَرِ، وَأَمَّا التَّأَسُّفُ وَالْحُزْنُ فَلا فَائِدَةَ فِيهِ، فَمَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ مِنْ فَوْتِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ حُصُولِ مَضَرَّةٍ لَهُمْ فَلْيَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْقَدَرِ، وَأَمَّا مَا كَانَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ فَلْيَجْتَهِدُوا فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي، وَالْإِصْلَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْفَعُهُمْ وَهُوَ مَقْدُورٌ لَهُمْ بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ .
ص511: وَ " الزُّهْدُ " النَّافِعُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ: الزُّهْدُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَالزُّهْدُ فِيهِ زُهْدٌ فِي نَوْعٍ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَالزُّهْدُ إنَّمَا يُرَادُ لِأَنَّهُ زُهْدٌ فِيمَا يَضُرُّ أَوْ زُهْدٌ فِيمَا لا يَنْفَعُ فَأَمَّا الزُّهْدُ فِي النَّافِعِ = فَجَهْلٌ وَضَلَالٌ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ } " .
وَالنَّافِعُ لِلْعَبْدِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَكُلَّمَا صَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ= فَإِنَّهُ ضَارٌّ لا نَافِعَ، ثُمَّ الْأَنْفَعُ لَهُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَعْمَالِهِ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ.
وَإِنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ وَفَعَلَ مُبَاحًا لا يُعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ .
وَكَذَلِكَ " الْوَرَعُ " الْمَشْرُوعُ هُوَ الْوَرَعُ عَمَّا قَدْ تُخَافُ عَاقِبَتُهُ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ، وَمَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْ فِعْلِهِ ....
[أما] مَنْ يَتْرُكُ أَخْذَ الشُّبْهَةِ وَرَعًا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَيَأْخُذُ بَدَلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بَيِّنًا تَحْرِيمُهُ أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبًا تَرْكُهُ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ فِعْلِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ كَمَنْ يَكُونُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ عَلَيْهِ دُيُونٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ إلَّا مِنْ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَتَوَرَّعُ عَنْهَا وَيَدَعُ ذِمَّتَهُ أَوْ ذِمَّةَ أَبِيهِ مُرْتَهِنَةً [فهذا ورع غير مشروع] .
وَكَذَلِكَ مِنْ " الْوَرَعِ " الِاحْتِيَاطُ بِفِعْلِ مَا يَشُكُّ فِي وُجُوبِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
وَتَمَامُ " الْوَرَعِ " أَنْ يَعلم الْإِنْسَانَ خَيْرُ الْخَيْرَيْنِ وَشَرُّ الشَّرَّيْنِ ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا.
وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُوَازِنْ مَا فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيَفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ . وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ؛ كَمَنْ يَدْعُ الْجِهَادَ مَعَ الْأُمَرَاءِ الظَّلَمَةِ وَيَرَى ذَلِكَ وَرَعًا وَيَدَعُ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ فِيهِمْ بِدْعَةٌ أَوْ فُجُورٌ وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الصَّادِقِ وَأَخْذِ عِلْمِ الْعَالِمِ لِمَا فِي صَاحِبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ خَفِيَّةٍ وَيَرَى تَرْكَ قَبُولِ سَمَاعِ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ سَمَاعُهُ مِنْ الْوَرَعِ !
وجاء في 615:
" الزُّهْدُ " هُوَ عَمَّا لَا يَنْفَعُ؛ إمَّا لِانْتِفَاءِ نَفْعِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا ؛ لِأَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ، أَوْ مُحَصِّلٌ لِمَا يَرْبُو ضَرَرُهُ عَلَى نَفْعِهِ .
وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْخَالِصَةُ أَوْ الرَّاجِحَةُ : فَالزُّهْدُ فِيهَا حُمْقٌ .
وَأَمَّا " الْوَرَعُ " فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا قَدْ يَضُرُّ فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ لِأَنَّهَا قَدْ تَضُرُّ . فَإِنَّهُ مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ .
وَأَمَّا " الْوَرَعُ " عَمَّا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَضَرَّةٌ مَرْجُوحَةٌ - لِمَا تَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى رَاجِحَةٍ - فَجَهْلٌ وَظُلْمٌ .
وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ " ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهَا :
الْمَنَافِعُ الْمُكَافِئَةُ ، وَالرَّاجِحَةُ ، وَالْخَالِصَةُ : كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ، أَوْ الْمُسْتَحَبِّ، أَوْ الْوَاجِبِ فَإِنَّ الْوَرَعَ عَنْهَا ضَلَالَةٌ . ...
ص544: " حُسْنُ الْقَصْدِ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ وَدَرْكِهِ .
وَ " الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ، فَإِنْ وَنَى قَائِدُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِسَائِقِهَا، وَإِنْ وَنَى سَائِقُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِقَائِدِهَا فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ حَارَ السَّالِكُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْلُكُ فَغَايَتُهُ أَنْ يستطرح لِلْقَدَرِ، وَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ حَارَ السَّالِكُ عَنْ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ غَيْرَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ ، فَهَذَا حَائِرٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ مَعَ كَثْرَةِ سَيْرِهِ، وَهَذَا حَائِرٌ عَنْ الطَّرِيقِ زَائِغٌ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . هَذَا جَاهِلٌ وَهَذَا
ظَالِمٌ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ الْجَاهِلَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ ظَالِمٌ ، وَالظَّالِمُ جَهِلَ الْحَقِيقَةَ الْمَانِعَةَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ ...
ص546: فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلْإِنْسَانِ هُوَ تَكْمِيلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عِلْمًا وَقَصْدًا ... وَ " عِبَادَتُهُ " طَاعَةُ أَمْرِهِ ، وَأَمْرُهُ لَنَا مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ عَنْهُ ؛ فَالْكَمَالُ فِي كَمَالِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَتَرَكَ هَوَاهُ وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَدَرِ، أَوْ اجْتَهَدَ فِي الطَّاعَةِ فَأَخْطَأَ ، فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ فَتَوَقَّفَ عَمَّا هُوَ طَاعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهَؤُلَاءِ مُطِيعُونَ لِلَّهِ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَاسْتَفْرَغُوهُ مِنْ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَمَا عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهِ فَأَخْطَئُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَمَغْفُورٌ لَهُمْ .
وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ فِتَنٍ تَقَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِيهَا وَقَدْ أَخْطَئُوا فَتَبْلُغُ أَقْوَامًا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فِيهَا الذَّنْبَ، أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْخَطَأ،ِ وَهُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ، فَيَكُونُ هَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي إنْكَارِهِ، وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ لَهُمْ .
وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُذْنِبًا؛ كَمَا قَدْ يَكُونَانِ جَمِيعًا مُذْنِبِينَ .
ص551: سُئِلَ عَنْ " إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ " و " قُوتِ الْقُلُوبِ " إلَخْ
الْجَوَابُ
. فَأَجَابَ : أَمَّا ( كِتَابُ قُوتِ الْقُلُوبِ ) و ( كِتَابُ الْإِحْيَاءِ )
تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ : مِثْلَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْحُبِّ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَبُو طَالِبٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ ، وَكَلَامِ أَهْلِ عُلُومِ الْقُلُوبِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَكَلَامُهُ أَسَدُّ وَأَجْوَدُ تَحْقِيقًا، وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدْعَةِ مَعَ أَنَّ فِي " قُوتِ الْقُلُوبِ " أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً ، وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَرْدُودَةً .
وَأَمَّا مَا فِي ( الْإِحْيَاءِ ) مِنْ الْكَلَامِ فِي " الْمُهْلِكَاتِ "
مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَالِبُهُ مَنْقُولٌ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ فِي الرِّعَايَةِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَقْبُولٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْدُودٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ .
و " الْإِحْيَاءُ " فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ ؛ لَكِنْ فِيهِ مَوَادُّ مَذْمُومَةٌ فَإِنَّهُ فِيهِ مَوَادُّ فَاسِدَةٌ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَعَارِفَ الصُّوفِيَّةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى " أَبِي حَامِدٍ " هَذَا فِي كُتُبِهِ .
وَقَالُوا : مَرَّضَهُ " الشِّفَاءُ " يَعْنِي: شِفَاءَ ابْنِ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ .
وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَثِيرَةٌ .
وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ أَغَالِيطِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ .
وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَالْأَدَبِ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَرِدُ مِنْهُ؛ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ اجْتِهَادُ النَّاسِ وَتَنَازَعُوا فِيهِ .
ص573: فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ إبَاحَتِهِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ وَخَشْيَةِ الْعَنَتِ قَالَ : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الصَّبْرُ مَعَ خَشْيَةِ الْعَنَتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ النِّكَاحُ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ مَنْ أَبَاحَ " الِاسْتِمْنَاءَ " عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَالصَّبْرُ عَنْ الِاسْتِمْنَاءِ أَفْضَلُ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : «أَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الزِّنَا » فَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ أَفْضَلَ فَعَنْ الِاسْتِمْنَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَفْضَلُ .
لَا سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَجْزِمُونَ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ - يَعْنِي عَنْ أَحْمَد - أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ .
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ قَالَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَفِيهِ أَوْلَى . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ . فَإِذَا كَانَ قَدْ أَبَاحَ مَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ فَذَلِكَ لِتَسْهِيلِ التَّكْلِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } .
و " الِاسْتِمْنَاءُ " لَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا سَوَاءٌ خُشِيَ الْعَنَتُ، أَوْ لَمْ يُخْشَ ذَلِكَ . وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَد فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَشِيَ " الْعَنَتَ " ـ وَهُوَ: الزِّنَا وَاللِّوَاطُ ـ خَشْيَةً شَدِيدَةً خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ؛ فَأُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لِتَكْسِيرِ شِدَّةِ عَنَتِهِ وَشَهْوَتِهِ. وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا، أَوْ تَذَكُّرًا، أَوْ عَادَةً ؛ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ فِي حَالِ اسْتِمْنَائِهِ صُورَةً كَأَنَّهُ يُجَامِعُهَا = فَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحْمَد، وَلَا غَيْرُهُ، وَقَدْ أَوْجَبَ فِيهِ بَعْضُهُمْ الْحَدَّ ، وَالصَّبْرُ عَنْ هَذَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ .
وَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَوَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ تَشْتَهِيهَا وَتَهْوَاهَا .
ص588 - 591 كلام طويل نفيس عن الشح والبخل والفرق بينهما .
ص599: وَطَالِبُ الرِّئَاسَةِ - وَلَوْ بِالْبَاطِلِ - تُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمُهُ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا ، وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِيهَا ذَمُّهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا . وَالْمُؤْمِنُ تُرْضِيهِ كَلِمَةُ الْحَقِّ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَتُغْضِبُهُ كَلِمَةُ الْبَاطِلِ لَهُ وَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ وَيُبْغِضُ الْكَذِبَ وَالظُّلْمَ . فَإِذَا قِيلَ :
الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالْعَدْلُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ أُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ هَوَاهُ . لِأَنَّ هَوَاهُ قَدْ صَارَ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَإِذَا قِيلَ : الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ فَاَللَّهُ يُبْغِضُهُ وَالْمُؤْمِنُ يُبْغِضُهُ وَلَوْ وَافَقَ هَوَاهُ .
ص601: وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْعَبْدَ كَأَصْدِقَائِهِ، وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ كَأَعْدَائِهِ فَاَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ يَجْذِبُونَهُ إلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَحَبَّةُ مِنْهُمْ لَهُ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُهُ عَنْ اللَّهِ، وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ يُؤْذُونَهُ وَيُعَادُونَهُ فَيَشْغَلُونَهُ بِأَذَاهُمْ عَنْ اللَّهِ، وَلَوْ أَحْسَنَ إلَيْهِ أَصْدِقَاؤُهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْجَبَ إحْسَانُهُمْ إلَيْهِ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ وَانْجِذَابَ قَلْبِهِ إلَيْهِمْ وَلَوْ كَانَـ[ـوا] عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقَامَةِ وَأَوْجَبَ مُكَافَأَتَهُ لَهُمْ فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ .
ص602-606:
وَأَمَّا حُبّ النَّاسِ لَهُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَجْذِبُوهُ هُمْ بِقُوَّتِهِمْ إلَيْهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ يَدْفَعُهُمْ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِلَّا جَذَبُوهُ وَأَخَذُوهُ إلَيْهِمْ ، كَحُبِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ " يُوسُفَ " وَمَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَإِخْلَاصَهُ وَخَشْيَتَهُ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ جَمَالِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَحُسْنِهَا وَحُبِّهِ لَهَا ، هَذَا إذَا أَحَبّ أَحَدُهُمْ صُورَتَهُ مَعَ أَنَّ هُنَا الدَّاعِيَ قَوِيٌّ مِنْهُ وَمِنْهُمْ ، فَهُنَا الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَإِلَّا فَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَحَبَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْضُ الشَّرِّ بَيْنَهُمْ .
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } .
وَقَدْ يُحِبُّونَهُ لِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ إحْسَانِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا أَعْظَمُ ؛ إلَّا إذَا كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ إيمَانِيَّةٌ وَخَشْيَةٌ وَتَوْحِيدٌ تَامٌّ ؛ فَإِنَّ فِتْنَةَ الْعِلْمِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ .
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ مَقَاصِدَهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَإِلَّا نَقَصَ الْحُبُّ .
أَوْ حَصَلَ نَوْعُ بُغْضٍ وَرُبَّمَا زَادَ أَوْ أَدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حُبِّهِ = فَصَارَ مَبْغُوضًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْبُوبًا !
فَأَصْدِقَاءُ الْإِنْسَانِ يُحِبُّونَ اسْتِخْدَامَهُ وَاسْتِعْمَالَهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ حَتَّى يَكُونَ كَالْعَبْدِ لَهُمْ !
وَأَعْدَاؤُهُ يَسْعَوْنَ فِي أَذَاهُ وَإِضْرَارِهِ ، وَأُولَئِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ انْتِفَاعَهُمْ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا لَهُ مُفْسِدًا لِدِينِهِ لَا يُفَكِّرُونَ فِي ذَلِكَ .
وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ .
فَالطَّائِفَتَانِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَقْصِدُونَ نَفْعَهُ وَلَا دَفْعَ ضَرَرِهِ ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ أَغْرَاضَهُمْ بِهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِنْسَانُ عَابِدًا اللَّهَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُوَالِيًا لَهُ وَمُوَالِيًا فِيهِ وَمُعَادِيًا وَإِلَّا أَكَلَتْهُ الطَّائِفَتَانِ ، وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ وَمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْمُحَارَبَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ .
قَوْمٌ يُوَالُونَ زَيْدًا وَيُعَادُونَ عَمْرًا .
وَآخَرُونَ بِالْعَكْسِ ؛ لِأَجْلِ أَغْرَاضِهِمْ فَإِذَا حَصَلُوا عَلَى أَغْرَاضِهِمْ مِمَّنْ يُوَالُونَهُ وَمَا هُمْ طالبونه مِنْ زَيْدٍ انْقَلَبُوا إلَى عَمْرٍو ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَمْرو كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّاسِ .
وَكَذَلِكَ " الرَّأْسُ " مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَمِيلُ إلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ ، وَهُمْ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُوَالَاةُ لِلَّهِ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ أُولَئِكَ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ إفْسَادَ دُنْيَاهُ : إمَّا بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالِهِ ، وَإِمَّا بِإِزَالَةِ مَنْصِبِهِ وَهَذَا كُلُّهُ ضَرَرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذَا سَلمَ الْعَبْدُ ، وَهُوَ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَمُحِبِّيهَا الَّذِينَ لَا يَعْتَدُّونَ بِفَسَادِ دِينِهِمْ مَعَ سَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ .
فَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ .
وَأَمَّا " دِينُ الْعَبْدِ " الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ لِلْأَغْرَاضِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ مِنْهُ فَسَادَ دِينِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ انْقَلَبُوا أَعْدَاءً .
فَدَخَلَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ الْأَذَى مِنْ " جِهَتَيْنِ " : مِنْ جِهَةِ مُفَارَقَتِهِمْ . وَمِنْ جِهَةِ عَدَاوَتِهِمْ . وَعَدَاوَتُهُمْ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ أَعْدَائِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْهُ، وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَعْدَاؤُهُ . فَاسْتَجْلَبُوا بِذَلِكَ عَدَاوَةَ غَيْرِهِمْ فَتَتَضَاعَفُ الْعَدَاوَةُ .
وَإِنْ لَمْ يُحِبّ مُفَارَقَتَهُمْ احْتَاجَ إلَى مُدَاهَنَتِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَسَادُ دِينِهِ .
فَإِنْ سَاعَدَهُمْ عَلَى نَيْلِ مَرْتَبَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ نَالَهُ مِمَّا يَعْمَلُونَ فِيهَا نَصِيبًا وَافِرًا وَحَظًّا تَامًّا مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ، وَلَوْ فَاتَتْ أَغْرَاضُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ .
فَكَيْفَ بِالدِّينِيَّةِ إنْ وُجِدَتْ فِيهِ ، أَوْ عِنْدَهُ ؟!
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ ظَالِمٌ جَاهِلٌ لَا يَطْلُبُ إلَّا هَوَاهُ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْبَاطِنِ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، وَيَقْضِي حَوَائِجَهُمْ لِلَّهِ وَتَكُونُ اسْتِعَانَتُهُ عَلَيْهِمْ بِاَللَّهِ تَامَّةً وَتَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَامٌّ = وَإِلَّا أَفْسَدُوا دِينَهُ وَدُنْيَاهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ يَطْلُبُ الرِّئَاسَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ ؛ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْمَعَاصِي مَا يَنَالُ بِهِ تِلْكَ الرِّئَاسَةَ وَيُحْسِنُ لَهُ هَذَا الرَّأْيَ ، وَيُعَادِيهِ إنْ لَمْ يَقُمْ مَعَهُ كَمَا قَدْ جَرَى ذَلِكَ مَعَ غَيْرِ وَاحِدٍ . وَذَلِكَ يَجْرِي فِيمَنْ يُحِبُّ شَخْصًا لِصُورَتِهِ فَإِنَّهُ يَخْدِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُعْطِيه مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ مَا يُفْسِدُ دِينَهُ .
وَفِيمَنْ يُحِبُّ صَاحِبَ " بِدْعَةٍ " لِكَوْنِهِ لَهُ دَاعِيَةً إلَى تِلْكَ الْبِدْعَةِ يحوجه إلَى أَنْ يَنْصُرَ الْبَاطِلَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِلَّا عَادَاهُ ، وَلِهَذَا صَارَ عُلَمَاءُ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ يَنْصُرُونَ ذَلِكَ الْبَاطِلَ ؛ لِأَجْلِ الْأَتْبَاعِ وَالْمُحِبِّينَ وَيُعَادُونَ أَهْلَ الْحَقِّ وَيَهْجُنُونَ طَرِيقَهُمْ .
فَمَنْ أَحَبّ غَيْرَ اللَّهِ وَوَالَى غَيْرَهُ كَرِهَ مُحِبَّ اللَّهِ وَوَلِيَّهُ وَمَنْ أَحَبَّ أَحَدًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ ضَرَرُ أَصْدِقَائِهِ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِ أَعْدَائِهِ ؛ فَإِنَّ أَعْدَاءَهُ غَايَتُهُمْ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمَحْبُوبِ الدُّنْيَوِيِّ ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ ، وَأَصْدِقَاؤُهُ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى نَفْيِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَذَهَابِهَا عَنْهُ ، فَأَيُّ صَدَاقَةٍ هَذِهِ ؟!
وَيُحِبُّونَ بَقَاءَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ لِيَسْتَعْمِلُوهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ وَفِيمَا يُحِبُّونَهُ وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ .
قَالَ تَعَالَى : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } . قَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَالْوَصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } .
فَالْأَعْمَالُ الَّتِي أَرَاهُمْ اللَّهُ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ : هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمِنْهَا الْمُوَالَاةُ وَالصُّحْبَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِغَيْرِ اللَّهِ . فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْئًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
ص607: لا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ لِذَاتِهِ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ ، فَكُلُّ مَحْبُوبٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ لِغَيْرِهِ لا لِذَاتِهِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحَبّ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مِنْ مَعَانِي إلَهِيَّتِهِ و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فَإِنَّ مَحَبَّةَ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ شِرْكٌ فَلا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إلا اللَّهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّتِهِ فَلا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ إنْ لَمْ يُحَبّ لأجْلِهِ أَوْ لِمَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ .
ص609: مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يُعْطِيه فَمَا أَحَبّ إلَّا الْعَطَاءَ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعْطِيه لِلَّهِ فَهَذَا كَذِبٌ وَمُحَالٌ وَزُورٌ مِنْ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يَنْصُرُهُ إنَّمَا أَحَبّ النَّصْرَ لَا النَّاصِرَ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ اتِّبَاعِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنَّهُ لَمْ يُحِبّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَهُوَ إنَّمَا أَحَبَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ وَإِنَّمَا أَحَبّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ هَذَا حُبًّا لِلَّهِ وَلَا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ . وَعَلَى هَذَا تَجْرِي عَامَّةُ مَحَبَّةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَهَذَا لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ بَلْ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى النِّفَاقِ وَالْمُدَاهَنَةِ فَكَانُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَخِلَّاءِ الَّذِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَمَّا مَنْ يَرْجُو النَّفْعَ وَالنَّصْرَ مِنْ شَخْصٍ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ فَهَذَا مِنْ دَسَائِسِ النُّفُوسِ وَنِفَاقِ الْأَقْوَالِ .
وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ الْحُبُّ لِلَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَوْنِ حُبِّهِمْ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُمْ .
ص611: وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ الْمُتَمَثِّلَةُ فِي النَّفْسِ يَتَحَرَّكُ لَهَا الْمُحِبُّ وَيُرِيدُ لَهَا وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَبْتَهِجُ وَيَنْشَرِحُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ فَتَبْقَى هِيَ كَالْآمِرِ النَّاهِي لَهُ ؛ وَلِهَذَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهَا تُخَاطِبُهُ بِأَمْرِ وَنَهْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَيُخْبِرُهُ بِأُمُورِ .
وَالْمُشْرِكُونَ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي صُوَرِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ ؛ تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ ...
... وَقَدْ يُخَاطَبُونَ بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ رَشْوَةً مِنْهُ لَهُمْ وَلَا يُخَاطَبُونَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِئَلَّا يُنَفَّرُونَ مِنْهُ بَلْ الشَّيْطَانُ يُخَاطِبُ أَحَدَهُمْ بِمَا يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ ...
وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَرَى الرَّسُولَ فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَكَذَلِكَ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ يَكُونُ مِنْ
أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَيُخَاطَبُ بِهِ وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْآمِرُ لَهُ بِذَلِكَ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشِّرْكِ إذْ لَوْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ لَمَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ فِيهِ شِرْكٌ فِي عِبَادَتِهِ، أَوْ عِنْدَهُ بِدْعَةٌ، وَلَا يَقَعُ هَذَا لِمُخْلِصِ مُتَمَسِّكٍ بِالسُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ .
ص620: وَقَالَ فَصْل : قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .... وَلَوْ قِيلَ :
الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ = لَكَانَ صَحِيحًا .
ص645: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ قَوْله تَعَالَى { حَقُّ الْيَقِينِ } وَ { عَيْنَ الْيَقِينِ } وَ { عِلْمَ الْيَقِينِ } فَمَا مَعْنَى كُلِّ مَقَامٍ مِنْهَا ؟
وَأَيُّ مَقَامٍ أَعْلَى ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَقَالَاتٌ مَعْرُوفَةٌ .
مِنْهَا : أَنْ يُقَالَ : { عِلْمَ الْيَقِينِ } مَا عَلِمَهُ بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ .
وَ { عَيْنَ الْيَقِينِ } مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ بِالْبَصَرِ .
وَ { حَقُّ الْيَقِينِ } مَا بَاشَرَهُ وَوَجَدَهُ وَذَاقَهُ وَعَرَفَهُ بِالِاعْتِبَارِ .
" فَالْأُولَى " مِثْلُ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ عَسَلًا وَصَدَّقَ الْمُخْبِرَ .
أَوْ رَأَى آثَارَ الْعَسَلِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ .
وَ " الثَّانِي " مِثْلُ مَنْ رَأَى الْعَسَلَ وَشَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ ، وَهَذَا أَعْلَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الْمُخْبِرُ كَالْمُعَايِنِ } .
وَ " الثَّالِثُ " مِثْلُ مَنْ ذَاقَ الْعَسَلَ وَوَجَدَ طَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ...
ص660: وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ؛ لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ : أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ
...
ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَتَصَوَّرَهُ الْقَلْبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ = فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
وَلِهَذَا مَنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ بَعْدَ أَدَاءِ
الْفَرَائِضِ أَوْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَتَفَقَّهُ، أَوْ يُفَقِّهُ فِيهِ الْفِقْهَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِقْهًا = فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَفْضَلِ ذِكْرِ اللَّهِ .
وَعَلَى ذَلِكَ إذَا تَدَبَّرْت لَمْ تَجِدْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ فِي كَلِمَاتِهِمْ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَبِيرَ اخْتِلَافٍ .
ص663: ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا يَأْخُذُهُ بِإِشْرَافِ وَهَلَعٍ ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْقَلْبِ مَكَانَةٌ ، وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا سَعَى كَإِصْلَاحِ الْخَلَاءِ .
ص664:
وَأَمَّا مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ فِي الْعُلُومِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَهُوَ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَشْءِ الْإِنْسَانِ فِي الْبِلَادِ، فَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، لَكِنَّ جِمَاعَ الْخَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عِلْمًا ، وَمَا سِوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا فَلَا يَكُونُ نَافِعًا ؟ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ عِلْمًا وَإِنْ سُمِّيَ بِهِ .
وَلَئِنْ كَانَ عِلْمًا نَافِعًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِيرَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِثْلُهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ .
وَلْتَكُنْ هِمَّتُهُ فَهْمَ مَقَاصِدِ الرَّسُولِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَسَائِر كَلَامِهِ .
فَإِذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الرَّسُولِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَعَ النَّاسِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ .
وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَعْتَصِمَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِأَصْلِ مَأْثُورٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ = فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ : { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ } .
وَأَمَّا وَصْفُ " الْكُتُبِ وَالْمُصَنِّفِينَ " فَقَدْ سُمِعَ مِنَّا فِي أَثْنَاءِ الْمُذَاكَرَةِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ .
وَمَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْمُبَوَّبَةِ كِتَابٌ أَنْفَع مِنْ " صَحِيحِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ " لَكِنْ هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقُومُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ . وَلَا يَقُومُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ لِلْمُتَبَحِّرِ فِي أَبْوَابِ الْعِلْمِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَكَلَامُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ أَوْعَبَتْ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ إيعَابًا فَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ هَدَاهُ بِمَا يَبْلُغُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْمَاهُ لَمْ تَزِدْهُ كَثْرَةُ الْكُتُبِ إلَّا حَيْرَةً وَضَلَالًا.
ص732: لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ الْقُدْرَةَ الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُكْنَةُ خَالِيَةً عَنْ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ أَوْ مُكَافِئَةٍ .
ص 720: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ فِي مَنْ عَزَمَ عَلَى " فِعْلِ مُحَرَّمٍ " كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَزْمًا جَازِمًا - فَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ : إمَّا بِمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ . هَلْ يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ أَمْ لا ؟
وَإِنْ قُلْتُمْ : يَأْثَمُ فَمَا جَوَابُ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ بِقَوْلِهِ : { إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ } وَبِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ } ، وَاحْتَجَّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَزْمُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ، وَالْعَزْمُ وَالْهَمُّ وَاحِدٌ . قَالَهُ ابْنُ سيده .
الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ التَّجَاوُزَ مُمْتَدًّا إلَى أَنْ يُوجَدَ كَلَامٌ أَوْ عَمَلٌ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ التَّجَاوُزِ وَيَزْعُمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذْ الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِدُخُولِ الْمَقْتُولِ فِي النَّارِ مُوَاجَهَتُهُ أَخَاهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَا مُجَرَّدُ قَصْدٍ، وَأَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي قَالَ :
{ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَفَعَلْت وَفَعَلْت أَنَّهُمَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَفِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ } و، َهَذَا قَدْ تَكَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهَا مُطَوَّلًا مَكْشُوفًا مُسْتَوْفًى .
فَأَجَابَ : شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَحْتَاجُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهَا إلَى حُسْنِ التَّصَوُّرِ لَهَا فَإِنَّ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَعَ عَامَّتُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا عَدَمُ تَحْقِيقِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَصِفَاتِهَا الَّتِي هِيَ مَوْرِدُ الْكَلَامِ . وَ ( الثَّانِي عَدَمُ إعْطَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَقَّهَا ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ اضْطِرَابُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَجِدَ النَّاظِرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ إجماعات مُتَنَاقِضَةً فِي الظَّاهِرِ ....
[قلت : أجاب بجواب طويل نفيس من ص720 إلى 769 ، ومن العجيب قوله في ص765: وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان به على الجواب ؛ فإن له موارد واسعة .اهـ
رحمه الله رحمة واسعة ، وجعل أعلى الجنة مسكنه .
إلى هنا انتهى النقل من هذا المجلد النفيس الذي يحسن بك أن تقرأه، وتمعن النظر فيه .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم .
عبد الرحمن بن صالح السديس
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...6b258bade4.gif
|