أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل



https://adlat.net/showthread.php?t=392726
36 0
#1

افتراضي لطائف من كتاب الداء والدواء

(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)




بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإن من أنفع الكتب في علاج أدواء القلوب كتابَ العلَّامة ابن القيم المشهور باسم: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، والذي سُمِّي أيضًا: "الداء والدواء"، ولا عجب في ذلك؛ فمؤلِّفه رحمه الله من أمهر أطباء القلوب، وأعرفهم بأسقامها وما يصلح لها من دواء، مُنتهجًا في طبِّه نهجَ السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ بالرجوع لكتاب الله المنزَّل هدًى ورحمةً وشفاءً للمؤمنين، وسُنَّة نبيِّه المبعوث رحمةً للعالمين.



والكتاب إنما جاء جوابًا لاستفتاء وَرَدَ على مؤلفه رحمه الله، قال فيه السائل: "ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتُلِيَ ببليَّة، وعلِم أنها إن استمرت به، أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما تزداد إلا توقُّدًا وشدةً، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟"، بَيدَ أن السائل هنا لم يُسمِّ البليَّة، ولم يخبر عن ماهيتها، فما كان من ابن القيم رحمه الله إلا أن ألَّف في الرد على هذا الاستفتاء فصولًا طوالًا شافياتٍ، استعرض فيها أمراض القلوب، شارحًا أسبابها وأعراضها، وسُبُلَ علاجها والوقاية منها.



والإجزال في إجابة السائل ليس بغريب عنه، فهو دَيْدَنُه وديدن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه؛ كما قال في مدارج السالكين: "الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال، والناس في الجود به على مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ ألَّا ينفع به بخيلًا أبدًا.



ومن الجود به: أن تبذله لمن لم يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحًا.



ومن الجود به: أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيتَ له جوابها شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفُتيا «نعم» أو «لا»، مقتصرًا عليها.



ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سُئِل عن مسألة حُكْمِيَّة، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر عليه، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته.



وهذه فتاوَاه بين الناس، فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك.



فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل، بل يذكر له نظيرها ومتعلقها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه".



وقد قمت - بفضل من الله - بالوقوف على لطائف هذا الكتاب القيِّم، وجمعِها في سلسلة من المقالات، سائلًا المولى سبحانه وتعالى التوفيقَ والسداد.



لكل داء دواء:

حيث ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)).



وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أُصيب دواءُ الداءِ، بَرَأ بإذن الله)).



وفي مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن شريك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لم يُنزِل داءً إلا أنزل له شفاءً، علِمه من علِمه، وجهِله من جهِله)).



وفي لفظ: ((إن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً، إلا داءً واحدًا، قالوا: يا رسول الله، ما هو؟ قال: الهَرَمُ))؛ [قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح].



وهذا يعُمُّ أدواء القلب والروح والبدن، وأدويتها.



القرآن كله شفاء:

وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت: 44].



وقال: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82]، و"من" ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فإن القرآن كله شفاء، كما قال في الآية الأخرى؛ فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والرَّيب، فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاءً قط أعمَّ ولا أنفع، ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن، ولو أحْسَنَ العبدُ التداويَ بالفاتحة[1]، لرأى لها تأثيرًا عجيبًا في الشفاء.



ومكثتُ بمكة مدةً تعتريني أدواء، ولا أجد طبيبًا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرًا عجيبًا، فكنت أصِف ذلك لمن يشتكي ألمًا، وكان كثيرٌ منهم يبرأ سريعًا.



ولكن ها هنا أمرٌ ينبغي التفطُّن له؛ وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يُستشفى بها ويُرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحلِّ، وقوة هِمَّةِ الفاعل وتأثيره، فمتى تخلَّف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قويٍّ فيه يمنع أن ينجَعَ فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية؛ فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثرَه، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تامٍّ، كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرُّقى والتعاويذ بقبول تامٍّ، وكان للراقي نفسٌ فعَّالة وهمة مؤثِّرة، أثَّر في إزالة الداء.



أسباب تخلف أثر الدعاء:

وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله؛ لِما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقتَ الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا، فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها[2].



فهذا دواء نافع مُزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تُبطل قوله.



وكذلك أكل الحرام يُبطل قوته ويضعفها[3].



الدعاء من أنفع الأدوية:

والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخفِّفه إذا نزل.


ومن أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء؛ وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن قتادة قال: "قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلًا إلا رجلًا في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجِّيَه".



ومن الآفات التي تمنع ترتُّب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويَدَعَ الدعاء، وهو بمنزلة من بَذَرَ بذرًا، أو غرس غراسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه، تركه وأهمله[4].



شروط قبول الدعاء:

وإذا جمع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة؛ وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلًّا له، وتضرعًا ورقةً، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قدَّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألح عليه في المسألة، وتملَّقه، ودعاه رغبةً ورهبةً، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقة، فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مَظِنَّة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم[5].



قد يُستجاب الدعاء للأحوال المقترنة به، لا لسرٍّ في لفظه:

وكثيرًا ما تجد أدعيةً دعا بها قومٌ، فاستُجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه، وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه جَعَلَ الله سبحانه إجابة دعوته شكرًا لحسنته، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك، فأُجيبت دعوته، فيظن الظانُّ أن السرَّ في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردًا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي، وهذا كما إذا استعمل رجلٌ دواءً نافعًا في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ في حصول المطلوب، كان غالطًا، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس.



ومن هذا أنه قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيُجاب، فيظن الجاهل أن السر للقبر، ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحبَّ إلى الله.



الدعاء كالسلاح، والسلاح بضاربِهِ لا بحدِّه فقط:

والأدعية والتعوُّذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربِهِ لا بحدِّه فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفةَ به، والساعدُ ساعدًا قويًّا، والمانع مفقودًا، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلَّف واحدٌ من هذه الثلاثة، تخلَّف التأثير.



فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمَّ مانعٌ من الإجابة، لم يحصل الأثر.



بين الدعاء والقَدَر:

وها هنا سؤال مشهور؛ وهو أن المدعوَّ به إن كان قد قُدِّر لم يكن بدٌّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يَدْعُ، وإن لم يكن قد قُدِّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله.



فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة فيه، وهؤلاء مع فَرْطِ جهلهم وضلالهم متناقضون، فإن طَرْدَ مذهبهم يُوجِب تعطيل جميع الأسباب.



فيُقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قُدِّرا لك، فلا بد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل، وإن لم يُقدَّرا لم يقعا، أكلت أو لم تأكل.



وإن كان الولد قُدِّر لك فلا بد منه، وَطِئتَ الزوجة والأَمَةَ أو لم تَطَأْ، وإن لم يُقدَّر لم يكن، فلا حاجة إلى التزوج والتسرِّي، وهلم جرًّا.



فهل يقول هذا عاقلٌ أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قِوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلًا.



وتكايَسَ بعضهم، وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبُّد المحض، يُثيب الله عليه الداعي، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما، ولا فرق عند هذا الكَيسِ بين الدعاء وبين الإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب، وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق.



وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارةً على قضاء الحاجة، فمتى وُفِّق العبد للدعاء، كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قُضِيَت، وهذا كما إذا رأينا غيمًا أسودَ باردًا في زمن الشتاء، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يُمطر.



قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب، لا أنها أسباب له.



وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحريق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سببًا ألبتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي، لا التأثير السببي.



وخالفوا بذلك الحس، والعقل، والشرع، والفطرة، وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء!



والصواب أن ها هنا قسمًا ثالثًا غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قُدِّر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يُقدَّر مجردًا عن سببه، ولكن قُدِّر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأتِ بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قُدِّرَ الشبع والري بالأكل والشرب، وقُدِّر الولد بالوطء، وقُدِّر حصول الزرع بالبذر، وقُدِّر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قُدِّر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال.




ترتيب الجزاء على الأعمال يزيد في القرآن على ألف موضع:

وقد رتَّب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال، ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبَّب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع[6].



وبالجملة، فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتُّب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتُّب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.



ومن فقِهَ هذه المسألة، وتأمَّلها حقَّ التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتَّكِل على القدر جهلًا منه وعجزًا وتفريطًا وإضاعةً، فيكون توكله عجزًا، وعجزه توكلًا.



بل الفقيه كل الفقيه الذي يرُدُّ القَدَرَ بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن الإنسان يعيش إلا بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنول المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخَلْقُ كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

أمران تتم بهما سعادة المرء وفلاحه:

أحدهما: أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير، ويكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم، وما جرَّبه في نفسه وغيره، وما سمعه من أخبار الأمم قديمًا وحديثًا.



ومن أنفع ما في ذلك تدبُّر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه، وفيه أسباب الشرِّ والخير جميعًا مفصَّلة مبيَّنة، ثم السُّنَّة، فإنها شقيقة القرآن، وهي الوحي الثاني، ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما، وهما يُرِيانِك الخير والشرَّ وأسبابهما، حتَّى كأنَّك تُعاين ذلك عيانًا.



وبعد ذلك إذا تأملتَ أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمتَه من القرآن والسنة، ورأيت تفاصيل ما أخبر الله به ووعد به، وعلمتَ من آياته في الآفاق ما يدلُّك على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة. فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرَّفنا الله ورسوله به من الأسباب الكلية للخير والشر.



والأمر الثاني: أن يحذر مغالطةَ نفسِه له على هذه الأسباب. وهذا من أهم الأمور، فإنَّ العبد يعرف أنَّ المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته، ولا بدَّ، ولكن تغالطه نفسه بالاتِّكال على عفو الله ومغفرته تارةً، وبالتسويف بالتوبة تارةً، وبالاستغفار باللسان تارةً، وبفعل المندوبات تارةً، وبالعلم تارةً، وبالاحتجاج بالقدر تارةً، وبالاحتجاج بالأشباه والنظراء والاقتداء بالأكابر تارةً.



وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: "أستغفر الله" زال أثر الذنب، وراح هذا بهذا!


وهذا الضرب من الناس قد تعلَّق بنصوص الرَّجاء، واتَّكل عليها، وتعلَّق بها بكلتا يديه. وإذا عُوتِب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء.



حسن الظن بالرب إنما يكون مع طاعته:

ولا ريب أنَّ حسن الظن إنَّما يكون مع "الإحسان"، فإنَّ المحسن حسن الظن بربه أنَّه يُجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصرُّ على الكبائر والظلم والمخالفات، فإنَّ وحشة المعاصي والظلم والإجرام تمنعه من حسن الظن بربِّه. وهذا موجود في الشاهد، فإنَّ العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به.



ولا يجامع وحشةَ الإساءة إحسانُ الظنِّ أبدًا، فإنَّ المسيء مستوحش بقدر إساءته. وأحسنُ الناس ظنًّا بربِّه أطوعُهم له، كما قال الحسن البصري: إنَّ المؤمن أحسن الظنَّ بربِّه، فأحسن العمل، وإنَّ الفاجر أساء الظنَّ بربِّه، فأساء العمل.



وكيف يكون محسنَ الظن بربِّه مَنْ هو شارد عنه، حالٌّ مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرض لِلَعْنَتِه، قد هان حقُّه وأمرُه عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه، وأصرَّ عليه!



وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفَتْه به رُسُلُه، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟



وكيف يحسن الظنَّ به من يظن أنه لا يتكلَّم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يرضى، ولا يغضب؟



حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه:

ومن تأمل هذا الموضع حقَّ التأمل علِمَ أنَّ حسنَ الظن بالله هو حسنُ العمل نفسه، فإنَّ العبد إنما يحمله على حُسْنِ العمل حُسْنُ ظنِّه بربِّه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبَّلها منه، فالذي حمله على العمل حُسْنُ الظن، وكلَّما حسُن ظنُّه حسُن عملُه، وإلا فحُسْنُ الظن مع اتِّباع الهوى عجز.



وبالجملة، فحسن الظن إنَّما يكون مع انعقاد أسباب النجاح، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك، فلا يتأتَّى إحسان الظن.



فإن قيل: بل يتأتَّى ذلك، ويكون مستندُ حسن الظن سعةَ مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده، وأنَّ رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضرُّه العفو.



قيل: الأمرُ هكذا، واللهُ فوق ذلك، وأجلُّ وأكرم وأجوَد وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به، فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كان معوَّلُ حُسنِ الظنِّ على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرُّ والفاجرُ، والمؤمن والكافر، ووليُّه وعدوُّه، فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته، وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرَّض لِلَعْنَتِه، وأوضعَ في محارمه، وانتهك حرماته؛ بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدَّل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حسَّن الظنَّ، فهذا حسن الظن، والأول غرور! والله المستعان.



قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة: 218]، فجعل هؤلاء أهل الرَّجاء، لا البطَّالين والفاسقين.



وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110]، فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها، فالعالِم يضع الرَّجاء مواضعه، والجاهل المغترُّ يضعه في غير مواضعه.



أحاديث وآثار لردع الجُهَّال العصاة المغترين برحمة الله:

وكثيرٌ من الجُهَّال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، وضيَّعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يردُّ بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار فهو كالمعاند.



وقال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخِذلان والحمق.



وقيل للحسن: نراك طويل البكاء! فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي.



وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد، كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوِّفونا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمْنًا خيرٌ لك من أن تصحب قومًا يؤمِّنونك حتى تلحقك المخاوف[1].



اغترار بعضهم على ما أنعم الله عليه في الدنيا:

وربما اتَّكل بعض المغترِّين على ما يرى من نِعَم الله عليه في الدنيا، وأنه لا يغيَّر به، ويظنُّ أنَّ ذلك من محبة الله له، وأنَّه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك، وهذا من الغرور[2].



وقال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع نعمَه عليك، وأنت مقيم على معاصيه، فاحذره؛ فإنما هو استدراج يستدرجك به.



وقد قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 33- 35].



وقد ردَّ سبحانه على من يظن هذا الظن بقوله: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الفجر: 15 - 21]؛ أي: ليس كلُّ من نعَّمتُه ووسَّعتُ عليه رزقَه أكون قد أكرمتُه، ولا كلُّ من ابتليتُه وضيَّقت عليه رزقه أكون قد أهنتُه؛ بل أبتلي هذا بالنعمة، وأكرم هذا بالابتلاء.



وقال بعض السلف: رُبَّ مستدرج بنعم الله عليه، وهو لا يعلم، ورُبَّ مغرور بسَتْر الله عليه، وهو لا يعلم، ورُبَّ مفتون بثناء الناس عليه، وهو لا يعلم.



أعظم الخلق غرورًا من اغترَّ بالدنيا وعاجلها:

فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة، حتى يقول بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أنفع من النسيئة! ويقول بعضهم: ذَرّة منقودة، ولا دُرّة موعودة! ويقول آخر منهم: لذاتُ الدنيا متيقَّنة، ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين للشك!



وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله، والبهائم العُجْم أعقل من هؤلاء، فإنَّ البهيمة إذا خافت مضرةَ شيء لم تُقْدِم عليه ولو ضُرِبَتْ، وهؤلاء يُقدِم أحدُهم على عطَبه، وهو بين مصدِّق ومكذِّب، فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء، فهو من أعظم الناس حسرةً؛ لأنه أقدم على علم، وإن لم يؤمن بالله ورسوله، فأبْعِدْ له!



وقول هذا القائل: "النقد خير من النسيئة"، فجوابه أنَّه إذا تساوى النقد والنسيئة، فالنقد خير، وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكثر وأفضل، فهي خير، فكيف والدنيا كلُّها من أوَّلِها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة![3]



أسباب تخلُّف العمل مع التصديق الجازم بالمعاد:

فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار، ويتخلَّف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدًا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشدَّ عقوبة، أو يكرمه أتمَّ كرامة، ويبيت ساهيًا غافلًا، لا يتذكر موقفه بين يدي الملك، ولا يستعدُّ له، ولا يأخذ له أهبته؟ قيل: هذا - لَعمرُ الله - سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق، واجتماعُ هذين الأمرين من أعجب الأشياء.



وهذا التخلُّف له عدة أسباب:

أحدها: ضعف العلم ونقصان اليقين، ومن ظنَّ أن العلم لا يتفاوت، فقولُه من أفسد الأقوال وأبطلها. وقد سأل إبراهيم الخليل ربَّه أن يُريه إحياءَ الموتى عيانًا، بعد علمه بقدرة الربِّ على ذلك، ليزداد طمأنينةً، ويصير المعلوم غيبًا شهادةً[4].



فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدمُ استحضاره وغَيبتُه عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها، لاشتغاله بما يضادُّه، وانضمَّ إلى ذلك تقاضي الطبع، وغلَباتُ الهوى، واستيلاءُ الشهوة، وتسويلُ النفس، وغرورُ الشيطان، واستبطاءُ الوعد، وطولُ الأمل، ورقدةُ الغفلة، وحبُّ العاجلة، ورُخَصُ التأويل، وإلفُ العوائد، فهناك لا يمسك الإيمانَ إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا؛ ولهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان حتى ينتهي إلى أدنى أدنى مثقال ذرة في القلب.



وجِمَاعُ هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر؛ ولهذا مَدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين، وجعلهم أئمة الدين، فقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24].



الفرق بين حسن الظن والغرور:

فقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور، وأنَّ حسن الظن إن حمل على العمل، وحثَّ عليه، وساق إليه، فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي، فهو غرور.



وحسن الظن هو الرجاء. فمن كان رجاؤه حاديًا له على الطاعة، زاجرًا له عن المعصية، فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاءً، ورجاؤه بطالةً وتفريطًا، فهو المغرور.



ولو أن رجلًا له أرض يؤمِّل أن يعود عليه من مُغَلِّها ما ينفعه فأهملها، ولم يبذُرها، ولم يحرثها، وأحسن ظنه بأنه يأتي من مغلِّها ما يأتي مَن حَرَث، وبَذَر، وسقَى، وتعاهَد الأرضَ، لعدَّه الناس من أسفه السفهاء.



وسرُّ المسألة أنَّ الرَّجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه، وقدَره، وثوابه وكرامته؛ فيأتي العبد بها، ثم يحسن ظنَّه بربه، ويرجوه ألَّا يكِلَه إليها، وأن يجعلها موصلةً إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها، ويبطل أثرها.



وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة: 218]، فتأمَّلْ كيف جعل رجاءَهم إتيانَهم بهذه الطاعات! وقال المغترون: إنَّ المفرِّطين المضيِّعين لحقوق الله، المعطِّلين لأوامره، الباغين على عباده، المتجرِّئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله!



لوازم الرجاء:

ومما ينبغي أن يعلم أنَّ من رجا شيئًا استلزم رجاؤه أمورًا:

أحدها: محبة ما يرجوه.

الثاني: خوفه من فواته.

الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.



وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك، فهو من باب الأماني، والرجاء شيء، والأماني شيء آخر، فكلُّ راجٍ خائفٌ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرَعَ السيرَ مخافةَ الفوات.



كل راجٍ خائف:

وهو سبحانه كما جعل الرَّجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال لا البطَّالين، فعُلِمَ أنَّ الرَّجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 57- 61][5].



والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن. ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير - بل التفريط - والأمن!



خوف الصحابة على أنفسهم من النفاق:

قال البخاري في صحيحه: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التَّيمي: ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون مكذَّبًا. وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنَه إلا منافق".



وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: أنشُدك الله، هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني في المنافقين فيقول: لا، ولا أزكِّي بعدك أحدًا.



فسمعتُ شيخنا[6] - رحمه الله - يقول: ليس مراده أنِّي لا أبرِّئ غيرك من النفاق، بل المراد: لا أفتح عليَّ هذا الباب، فكلُّ من سألني: هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأزكيه.



قلت: وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله أن يدعو له أن يكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "سبقك بها عكاشة". ولم يُرِد أنَّ عكاشة وحده أحقُّ بذلك ممن عداه من الصحابة، ولكن لو دعا له لقام آخر وآخر، وانفتح الباب، وربَّما قام من لم يستحق أن يكون منهم، فكان الإمساك أولى، والله أعلم.

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,



كلُّ شرٍّ وداءٍ في الدنيا والآخرة سببُه الذنوب:

فمما ينبغي أن يُعلَم أن الذنوب تضر ولا بد، وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرٌّ وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟



فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجُعِلت صورته أقبحَ صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع؟ وبُدِّل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظَّى، وبالإيمان كفرًا، وبموالاة الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك، والكذب والزور والفحش، وبلِباس الإيمان لباسَ الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضب الرب تعالى فأهواه، ومقته أكبر المقت فأرداه، فصار قوَّادًا لكل فاسق ومجرم رضِيَ لنفسه بالقيادة، بعد تلك العبادة والسيادة، فعياذًا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك.



وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: "إنكم لَتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشَّعر، إن كنا لَنَعُدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات".



وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عُذِّبت امرأة في هرَّةٍ حبستها حتى ماتت، فدخلت النار، لا هي أطعمتها، ولا سَقَتْها، ولا تركتها تأكل من خَشَاشِ الأرض)).



وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمنَ إذا أذنب نُكِت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب، ونزع، واستغفر، صُقِل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلوَ قلبه، فذلك الرَّانُ الذي ذكر الله عز وجل: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]))؛ [قال الترمذي: هذا حديث صحيح].



غلط الناس في تأخر تأثير الذنب:

ذكر عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن محمد بن سيرين: أنه لما ركبه الدَّين اغتمَّ لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة.



وها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب، وهي أنهم لا يَرَون تأثيره في الحال، وقد يتأخر تأثيره فيُنسى، ويظن العبد أنه لا يغبر بعد ذلك، وأن الأمر كما قال القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه لطائف من كتاب الداء والدواء
فليس له بعد الوقوع غبارُ لطائف من كتاب الداء والدواء

لطائف من كتاب الداء والدواء
لطائف من كتاب الداء والدواء


وسبحان الله! ماذا أهلكت هذه البلية من الخلق! وكم أزالت من نعمة! وكم جلبت من نقمة! وما أكثر المغترين بها من العلماء، فضلًا عن الجهَّال! ولم يعلم المغترُّ أن الذنب ينقض، ولو بعد حين، كما ينقض السُّمُّ، وكما ينقض الجرح المندمِل على الغش والدَّغَل.



من أضرار المعاصي للعبد في دينه ودنياه وآخرته:

حرمان العلم والرزق:

فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.



ولما جلس الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه؛ فقال: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تُطفئه بظلمة المعصية".



وقال الشافعي:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي لطائف من كتاب الداء والدواء
فأرشدني إلى ترك المعاصي لطائف من كتاب الداء والدواء

وقال اعلم بأن العلم فضل لطائف من كتاب الداء والدواء
وفضلُ الله لا يُؤتاه عاصِ لطائف من كتاب الداء والدواء




وكما أن تقوى الله مَجْلَبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استُجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي.



الوحشة في قلب العاصي بينه وبين الله:

ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله، لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلًا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تَفِ بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحُسُّ به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت ٍإيلامُ.



فلو لم يترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريًّا بتركها.



وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشةً يجدها في نفسه؛ فقال له:
إذا كنت قد أوحشتك الذنوب لطائف من كتاب الداء والدواء
فَدَعْها إذا شئتَ واستأنس لطائف من كتاب الداء والدواء

لطائف من كتاب الداء والدواء
لطائف من كتاب الداء والدواء


وليس على القلب أمرُّ من وحشة الذنب على الذنب، فالله المستعان.



الوحشة بينه وبين الناس:

ومنها: الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشةً بينه وبينهم، وكلما قَوِيت تلك الوحشة، بعُد منهم ومن مجالستهم، وحُرِمَ بركة الانتفاع بهم، وقرُب من حزب الشيطان بقدر ما بعُد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم، فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشًا من نفسه.



وقال بعض السلف: "إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي".



تعسير الأمور:

ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه، أو متعسرًا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، فمن عطَّل التقوى جعل له من أمره عسرًا.



ويا لله العجب! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودةً عنه، وطرقها معسرةً عليه، وهو لا يعلم من أين أُتِيَ؟



ظلمة في القلب:

ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقةً، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمَّ، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره؛ فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قَوِيَتِ الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور الْمُهْلِكة، وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده، وتَقْوَى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سوادًا فيه يراه كل أحد.



وهن القلب والدين:

أما وهنها للقلب، فأمر ظاهر بل لا تزال تُوهنه حتى تُزيل حياته بالكلية.



وأما وهنها للبدن، فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوِيَ قلبه قوِيَ بدنه، وأما الفاجر، فإنه وإن كان قوي البدن، فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، وتأمَّل قوة أبدان فارس والروم، كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟



حرمان الطاعة:

ومنها: حرمان الطاعة، فلو لم يكن للذنب عقوبةٌ إلا أنه يصد عن طاعة تكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه طريق ثالثة، ثم رابعة، وهلم جرًّا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خيرٌ له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجل أكل أكلةً أوجبت له مرضة طويلةً منعته من عدة أكلات أطيب منها، فالله المستعان.



قصر العمر:

ومنها: أن المعاصي تقصر العمر، وتمحق بركته، ولا بد؛ فإن البِرَّ كما يزيد في العمر، فالفجور يقصر العمر.



وقد اختلف الناس في هذا الموضع، فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه، وهذا حقٌّ، وهو بعض تأثير المعاصي، وقالت طائفة: بل تنقصه حقيقة، كما ينقص الرزق، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابًا تكثره وتزيده، وللبركة في العمر أسبابًا تكثره وتزيده.



وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب؛ ولهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتًا غير حيٍّ؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل: 21]، فالحياة في الحقيقة حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبِرُّ والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها.



وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي، ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غِبَّ إضاعتها يوم يقول: ﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر: 24]، فلا يخلو إما أن يكون له مع ذلك تطلُّع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية، أو لا، فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك، فقد ضاع عليه عمره كله، وذهبت حياته باطلًا، وإن كان له تطلع إلى ذلك، طالت عليه الطريق بسبب العوائق، وتعسرت عليه أسباب الخير، بحسب اشتغاله بأضدادها، وذلك نقصان حقيقي من عمره.



وسرُّ المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته، ولا حياة له إلا بإقباله على ربه، والتنعم بحبه وذكره، وإيثار مرضاته.



المعاصي تولِّد أمثالها:

ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولِّد بعضها بعضًا، حتى يعِزَّ على العبد مفارقتها والخروج منها؛ كما قال بعض السلف: "إن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها، وإن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها"، فالعبد إذا عمِل حسنة، قالت أخرى إلى جانبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها، قالت الثانية كذلك، وهلم جرًّا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات، وكذلك جانب السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئاتٍ راسخةً، وصفاتٍ لازمةً، ومَلَكَاتٍ ثابتةً، فلو عطَّل المحسن الطاعة، لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتى يعاودها، فتسكن نفسه، وتقر عينه.



ولا يزال العبد يعاني الطاعة، ويألفها، ويحبها، ويُؤثِرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكة تؤزُّه إليها أزًّا، وتُحرِّضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها، ولا يزال يألف المعاصي، ويحبها، ويؤثرها، حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه إليها أزًّا.



فالأول قوَّى جند الطاعة بالمدد، فصاروا من أكبر أعوانه، وهذا قوَّى جند المعصية بالمدد، فكانوا أعوانًا عليه.



المعاصي تُضعِف القلب عن إرادته:

ومنها - وهو من أخوفها على العبد - أنها تُضعِف القلب عن إرادته، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه، لما تاب إلى الله، فيأتي من الاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مُصِرٌّ عليها، عازم على مواقعتِها متى أمكنته، وهذا من أعظم الأمراض، وأقربها إلى الهلاك.



المعاصي تُذهِب من القلب استقباحها:

ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحُها، فتصير له عادةً، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه.



وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التَّهتُّك وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدِّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملت كذا وكذا.



وهذا الضرب من الناس لا يُعافَون، وتُسَدُّ عليهم طريق التوبة، وتُغلَق عنهم أبوابها في الغالب[1].



كل معصية ميراث عن أُمَّة من الأمم المعذَّبة:

ومنها: أن كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فاللوطية: ميراث عن قوم لوط، وأخذ الحق بالزائد، ودفعه بالناقص: ميراث عن قوم شعيب، والعلو في الأرض والفساد: ميراث عن فرعون وقومه، والتكبُّر والتجبُّر: ميراث عن قوم هود، فالعاصي لابسٌ ثيابَ بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.



المعصية سبب لهوان العبد على ربه:

ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحدٌ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18]، وإن عظَّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرِّهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.



ومنها: أن العبد لا يزال يرتكب الذنب، حتى يهون عليه، ويصغُرَ في قلبه، وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغُر في عين العبد، عظُم عند الله؛ وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا، فطار".



عودة ضرر معصيته على غيره من الناس والدواب:

ومنها: أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤمُ ذنوبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم، وقال مجاهد: "إن البهائم تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدت السَّنة، وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم".


وقال عكرمة: "دواب الأرض وهوامُّها حتى الخنافس والعقارب يقولون: مُنِعْنا القَطْرُ بذنوب بني آدم".


فلا يكفيه عقاب ذنبه، حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له.



المعاصي تُورِث الذُّلَّ:

ومنها: أن المعصية تُورث الذل، ولا بد؛ فإن العزَّ كل العز في طاعة الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10]؛ أي: فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته.



وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزَّني بطاعتك، ولا تُذِلَّني بمعصيتك.



قال الحسن البصري: "إنهم، وإن طَقْطَقَتْ بِهِمُ البِغال، وهَمْلَجَتْ بهم البَراذِينُ[2]، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذلَّ من عصاه".



وقال عبدالله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب لطائف من كتاب الداء والدواء
وقد يُورِث الذُّلَّ إدمانُها لطائف من كتاب الداء والدواء

وترك الذنوب حياة القلوب لطائف من كتاب الداء والدواء
وخير لنفسك عصيانها لطائف من كتاب الداء والدواء

وهل أفسد الدين إلا الملوك لطائف من كتاب الداء والدواء
وأحبار سوء ورهبانها لطائف من كتاب الداء والدواء




المعاصي تفسد العقل:

ومنها: أن المعاصي تفسد العقل؛ فإن للعقل نورًا، والمعصية تُطفئ نور العقل، ولا بد، وإذا طُفِئَ نوره ضعُف ونقص.



وقال بعض السلف: "ما عصى الله أحدٌ حتى يغيبَ عقله".



وهذا ظاهر، فإنه لو حضره عقله، لَحجَزه عن المعصية، وهو في قبضة الرب تعالى وتحت قهره، وهو مُطَّلع عليه، وفي داره وعلى بساطه، وملائكته شهود عليه ناظرون إليه، وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ الإيمان ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يُقدِم على الاستهانة بذلك كله والاستخفاف به ذو عقل سليم؟



كثرة الذنوب تؤدي إلى الطبع على القلب:

ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ كما قال بعض السلف في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]، قال: هو الذنب بعد الذنب.



وقال الحسن: "هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب".

وقال غيره: "لما كثُرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم".



وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإن زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلًا وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغِلاف، فإن حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة، انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوه، ويسوقه حيث أراد.



المعاصي التي لعن الله عليها ورسوله صلى الله عليه وسلم:

ومنها: أن الذنوب تُدخِل العبد تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لعن على معاصٍ، وغيرها أكبر منها، فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة.



فلعن الواشمة والمستوشمة، والواصلة والموصولة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، ولعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهدَيه، ولعن المحلِّل والمحلَّل له، ولعن السارق، ولعن شارب الخمر، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه.



ولعن من غيَّر منار الأرض، وهي أعلامها وحدودها، ولعن من لعن والديه، ولعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا يرميه بالسهام، ولعن المخنثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء.



ولعن من ذبح لغير الله، ولعن من أحدث حدثًا، أو آوى محدِثًا، ولعن المصوِّرين، ولعن من عمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ولعن من سبَّ أباه ومن سبَّ أمه، ولعن من كمَّه أعمى عن الطريق.



ولعن من أتى بهيمة، ولعن من وسم دابة في وجهها، ولعن من ضارَّ بمسلم أو مكر به، ولعن زوَّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج.



ولعن من أفسد امرأة على زوجها، أو مملوكًا على سيده، ولعن من أتى امرأةً في دبرها، وأخبر أن من باتت مهاجرةً لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح.



ولعن من انتسب إلى غير أبيه، وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، ولعن من سب أصحابه.



وقد لعن الله من أفسد في الأرض، وقطع رحِمه، وآذاه وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعن من كتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى، ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة.



ولعن من جعل سبيل الكافر أهدى من سبيل المؤمن، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبَس لِبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل، ولعن الراشي، والمرتشي، والرائش، وهو الواسطة في الرشوة.



ولعن على أشياءَ أُخَرَ غير هذه؛ فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضا فاعله بأن يكون ممن يلعنه الله ورسوله وملائكته، لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه.



حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة:

ومنها: حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة، فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر: 7 - 9].



فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين، الْمُتَّبعين لكتابه وسنة رسوله، الذين لا سبيل لهم غيرهما، فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة؛ إذ لم يتصف بصفات المدعوِّ له بها، والله المستعان.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
المعاصي تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد:
ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه، والهواء، والزروع، والثمار، والمساكن، قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].

قال مجاهد: إذا ولَّى الظالم سعى بالظلم والفساد، فيحبس اللهُ بذلك القَطْرَ، فيهلك الحرث والنسل، والله لا يحبُّ الفساد. ثم قرأ: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الآية، ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كلُّ قرية على ماءِ جارٍ فهو بحر.

ومن تأثير معاصي الله في الأرض ما يحِلُّ بها من الخسف، والزلازل، ومَحْقِ بركتِها. وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود، فمنعهم من دخول ديارهم، ومن شرب مياههم، ومن الاستقاء من آبارهم، حتى أمر ألا يُعلَف العجينُ الذي عُجنَ بمائهم للنواضح؛ لتأثير شؤم المعصية في الماء.

وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما تُرمَى به من الآفات. وقد ذكر الإِمام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال: وُجِدَت في خزائن بني أمية حنطةٌ، الحبةُ بقدر نواة التمر. وهي في صُرَّة مكتوبٍ عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل.

وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه بما أحدث العباد من الذنوب. وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء أنهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن، وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها، وإنَّما حدثت من قرب.

وأما تأثير الذنوب في الصور والخلق، فقد روى الترمذي في جامعه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلق الله آدم، وطولُه في السماء ستُّون ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقصُ حتَّى الآن".

المعاصي تُطفئ من القلب نار الغيرة:
ومن عقوبات الذنوب أنّها تطفئ من القلب نارَ الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن. فالغيرة حرارته وناره التي تُخرج ما فيه من الخَبَث والصفات المذمومة، كما يُخرج الكِيرُ خَبَث الذهب والفضة والحديد. وأشرف الناس وأعلاهم همّةً أشدُّهم غيرة على نفسه، وخاصته، وعموم الناس.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغيرَ الخلق على الأمة، والله سبحانه أشدُّ غيرةً منه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغيَرُ منه، والله أغيَرُ منِّي"[1].

فالغيور قد وافق ربَّه سبحانه في صفة من صفاته، ومن وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلَتْه على ربِّه، وأدْنَتْه منه، وقرّبتْه من رحمته، وصيَّرتْه محبوبًا له. فإنه سبحانه رحيم يحبُّ الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحبُّ العلماء، قويٌّ يحبُّ المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حييّ يحبُّ أهل الحياء، جميل يحبُّ الجمال، وِتْر يحبُّ الوتر.

ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي إلَّا أنها توجب لصاحبها ضدَّ هذه الصفات، وتمنعه من الاتصاف بها لكفى بها عقوبةً.

المعاصي تضعف الحياء وربما تذهبه:
ومن عقوباتها ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابُه ذهابُ الخير أجمعه.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحياء خيرٌ كُلُّه"، وقال: "إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستَحْي فاصنَعْ ما شئتَ!"[2].

والمقصود أنَّ الذنوب تُضْعِف الحياء من العبد حتى ربَّما انسلخ منه بالكلية، حتى إنَّه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطِّلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبيح ما يفعله، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء. وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبقَ في صلاحه مَطْمَع، كما قيل:
وإذا رأى إبليسُ طلعةَ وجهه لطائف من كتاب الداء والدواء
حَيَّا، وقال: فديتُ مَن لا يفلحُ لطائف من كتاب الداء والدواء

لطائف من كتاب الداء والدواء
لطائف من كتاب الداء والدواء

المعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله:
ومن عقوبات الذنوب أنَّها تُضْعِف في القلب تعظيمَ الربِّ جَلَّ جلاله، وتُضْعِف وقارَه في قلب العبد، ولا بدَّ، شاء أم أبى. ولو تمكَّن وقارُ الله وعظمتُه في قلب العبد لما تجرَّأ على معاصيه.

وربما اغترَّ المغترُّ وقال: إنما يحملني على المعاصي حُسْنُ الرَّجاء وطمعي في عفوه، لا ضعف عظمته في قلبي. وهذا من مغالطة النفس، فإنَّ عظمةَ الله وجلالَه في قلب العبد وتعظيمَ حرماته تحول بينه وبين الذنوب. فالمتجرِّئون على معاصيه ما قدروه حقَّ قدره، وكيف يقدره حقَّ قدره أو يعظِّمه ويكبِّره ويرجو وقاره ويُجِلُّه من يهون عليه أمرُه ونهيُه؟ هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل! وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحلَّ من قلبه تعظيمُ الله جل جلاله، وتعظيمُ حرماته، ويهونَ عليه حقُّه.

ومن بعض عقوبة هذا أن يرفع الله عز وجل مهابتَه من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفُّون به، كما هان عليه أمره، واستخفَّ به. فعلى قدر محبة العبد لله يحبُّه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماتِه يعظِّم الناس حرماته.


المعاصي تستدعي نسيان الله لعبده:
ومن عقوباتها: أنَّها تستدعي نسيانَ الله لعبده، وتركَه، وتخليتَه بينه وبين نفسه وشيطانه. وهناك الهلاك الذي لا يُرجى معه نجاة، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 18، 19].

فأمر بتقواه، ونهى أن يتشبَّه عباده المؤمنون بمن نسيَه بترك تقواه، وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه؛ أي: أنساه مصالحَها، وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية وكمال لذَّتها وسرورها ونعيمها، فأنساه ذلك كلَّه جزاءً لما نسيه من عظمته وخوفه والقيام بأمره.

وأعظمُ العقوبات نسيانُ العبد لنفسه، وإهمالُه لها، وإضاعتُه حظَّها ونصيبَها من الله، وبيعُها ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن. فضيَّعَ من لا غنى له عنه، ولا عوض له منه، واستبدل به مَن عنه كلُّ الغنى، ومنه كلُّ العِوَض.
من كلِّ شيء إذا ضيَّعتَه عوضٌ لطائف من كتاب الداء والدواء
وما من الله إنْ ضيَّعتَه عوضُ لطائف من كتاب الداء والدواء

لطائف من كتاب الداء والدواء
لطائف من كتاب الداء والدواء

فالله سبحانه يعوِّض عن كلِّ ما سواه، ولا يعوِّض منه شيء، ويغني عن كل شيء، ولا يُغني عنه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء. ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء، فكيف يستغني العبد عن طاعةِ مَن هذا شأنُه طرفةَ عين؟

وكيف ينسى ذكره ويضيِّع أمرَه حتى يُنسيَه نفسَه، فيخسرها، ويظلمها أعظمَ الظلم؟ فما ظلم العبدُ ربَّه، ولكن ظلم نفسَه، وما ظلمه ربُّه، ولكن هو الذي ظلم نفسَه!

المعاصي تخرج العبد من دائرة الإحسان والمحسنين:
ومن عقوباتها أنَّها تُخرِجُ العبدَ من دائرة الإحسان، وتمنعه ثوابَ المحسنين. فإنَّ الإحسان إذا باشر القلبَ منَعَه من المعاصي، فإن من عَبَدَ الله كأنَّه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك يحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مواقعتها. فإذا خرج من دائرة الإحسان فاته صحبةُ رُفَقِه الخاصة، وعيشُهم الهنيء، ونعيمُهم التام.

فإن أراد الله به خيرًا أقرَّه في دائرة عموم المؤمنين، فإن عصاه بالمعاصي التي تخرجه من دائرة الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبةً ذاتَ شرفٍ يرفع إليه فيها الناسُ أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن. فإيَّاكم إيَّاكم، والتوبةُ معروضهٌ بعد"، خرَج من دائرة الإيمان، وفاته رفقةُ المؤمنين وحسنُ دفاع الله عنهم، فإنَّ الله يدفع عن الذين آمنوا، وفاته كلُّ خير رتَّبه الله في كتابه على الإيمان، وهو نحو مائة خصلة، كلُّ خصلة منها خيرٌ من الدنيا وما فيها[3].

المعاصي تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة:
ومن عقوباتها أنها تُضْعِفُ سيرَ القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه، أو توقفه وتقطعه عن السير، فلا تدَعه يخطو إلى الله خطوةً، هذا إن لم تردَّه عن وجهته إلى ورائه! فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنَّما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيِّره. فإن زالت بالكلِّية انقطع عن الله انقطاعًا يبعُد تداركُه، والله المستعان.

فالذنب إما أن يميت القلب، أو يُمرضَه مرضًا مخوفًا، أو يضعف قوته، ولا بدَّ، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم. وهي: الهمُّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلَع الدَّين وغلبة الرجال[4].

والمقصود أنَّ الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله وتحوُّل عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سَخَطه.

المعاصي تزيل النعم وتحل النقم:
ومن عقوبات الذنوب أنها تُزيل النِّعَم وتُحِلُّ النِّقَم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِعَ بلاء إلا بتوبة.

وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال: 53].

فأخبر تعالى أنه لا يُغيِّر نعَمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغيِّر ما بنفسه، فيُغيِّر طاعةَ الله بمعصيته، وشكرَه بكفره، وأسبابَ رضاه بأسباب سخطه. فإذا غَيَّرَ غُيِّرَ عليه جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلَّام للعبيد. فإنْ غيَّر المعصيةَ بالطاعة غيَّر الله عليه العقوبةَ بالعافية، والذلَّ بالعِزِّ.

المعاصي تورث الرعب والخوف في قلب العاصي:
ومن عقوباتها: ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلَّا خائفًا مرعوبًا.

فإنَّ الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب. فمَنْ أطاعَ اللهَ انقلبت المخاوفُ في حقِّه أمانًا، ومَن عصاه انقلبت مآمِنُه مخاوفَ. فلا تجد العاصي إلا وقلبُه كأنَّه بين جناحَي طائرٍ، إنْ حرَّكت الريحُ الباب قال: جاء الطلب، وإن سمع وقعَ قدَمٍ خاف أن يكون نذيرًا بالعطب، يحسب كل صيحةٍ عليه، وكل مكروه قاصدًا إليه، فمن خاف الله آمنه من كلِّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كلِّ شيء.
بذا قضى اللهُ بين الناس مذ خُلِقوا لطائف من كتاب الداء والدواء
أنَّ المخاوفَ والإجرامَ في قَرَنِ لطائف من كتاب الداء والدواء

لطائف من كتاب الداء والدواء
لطائف من كتاب الداء والدواء

المعاصي توقع الوحشة العظيمة في القلب:
ومن عقوباتها: أنها تُوقعُ الوحشةَ العظيمةَ في القلب، فيجد المذنب نفسَه مستوحشًا، قد وقعت الوحشة بينه وبين ربِّه، وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلَّما كثرت الذنوب اشتدَّت الوحشة. وأمرُّ العيشِ عيشُ المستوحشين الخائفين، وأطيبُ العيش عيشُ المستأنسين. فلو نظر العاقل، ووازن بين لذة المعصية وما تُوقِعُه من الخوف والوحشة، لَعلِمَ سوءَ حاله وعظيم غَبْنه؛ إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف.
فإن كنتَ قد أوحشتك الذنوبُ لطائف من كتاب الداء والدواء
فدَعْها إذا شئتَ واستأْنسِ لطائف من كتاب الداء والدواء

لطائف من كتاب الداء والدواء
لطائف من كتاب الداء والدواء

وسرُّ المسألة أنَّ الطاعة تُوجب القربَ من الربِّ، وكلَّما اشتدَّ القرب قوي الأنس؛ والمعصية توجب البعدَ من الربِّ، وكلَّما ازداد البعد قويت الوحشة؛ ولهذا يجد العبد وحشةً بينه وبين عدوِّه للبعد الذي بينهما، وإن كان ملابسًا له قريبًا منه، ويجد أُنْسًا وقُرْبًا بينه وبين من يحبُّ، وإن كان بعيدًا عنه.

المعاصي تُورِث القلب مرضًا وانحرافًا:
ومن عقوباتها: أنها تصرِفُ القلبَ عن صحَّته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضًا معلولًا، لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه. فإنَّ تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب وأدواؤها، ولا دواء لها إلا تركها.

وقد أجمع السائرون إلى الله أنَّ القلوب لا تعطَى مُناها حتَّى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحةً سليمةً، ولا تكون صحيحةً سليمةً حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها. ولا يصحُّ لها ذلك إلا بمخالفة هواها، فهواها مرضها، وشفاؤها مخالفته، فإن استحكم المرضُ قتَلَ أو كاد.

وكما أنَّ من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنَّة مأواه، فكذا يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيمَ أهلها نعيمٌ البتة، بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة. وهذا أمر لا يُصدِّق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا.

ولا تحسبْ أنَّ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13، 14]، مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة هم كذلك، أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم. وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟

المعاصي تُعمي القلب وتطمس نوره:
ومن عقوباتها: أنَّها تُعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسدُّ طرق العلم، وتحجب موادَّ الهداية.





وقد قال مالك للشافعي لمَّا اجتمع به ورأى تلك المخايل: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تُطفِئه بظلمة المعصية.

ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحلُّ، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مَهْلكٍ يسقط فيه، وهو لا يبصره، كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب. فيا عزَّةَ السلامة، ويا سرعةَ العطب!

المعاصي تقمع النفس وتُدنِّسها:
ومن عقوباتها أنَّها تصغِّر النفس، وتقمَعها، وتدسيها، وتحقِّرها، حتى تصير أصغر شيء وأحقره، كما أنَّ الطاعة تنمِّيها وتزكِّيها وتكبِّرها، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9، 10]. والمعنى قد أفلح من كبَّرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقَّرها وصغَّرها بمعصية الله.

وأصل التدسية الإخفاء، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل: 59]، فالعاصي يدسُّ نفسَه في المعصية، ويخفي مكانها، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به، قد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق.

فالطاعة والبرُّ تكبِّر النفس، وتعزُّها، وتعليها، حتى تصير أشرف شيء، وأكبره، وأزكاه، وأعلاه؛ ومع ذلك فهي أذلُّ شيء وأحقره وأصغره لله تعالى. وبهذا الذلِّ حصل لها هذا العزُّ والشرفُ والنموُّ، فما صغَّر النفوسَ مثلُ معصية الله، وما كبَّرها وشرَّفها ورفعها مثلُ طاعة الله.

العاصي دائمًا في أسر شيطانه:
ومن عقوباتها أنَّ العاصي دائمًا في أسْر شيطانه، وسجن شهواته، وقيود هواه؛ فهو أسير مسجون مقيد. ولا أسيرَ أسوأ حالًا من أسير أسَرَه أعدى عدوٍّ له، ولا سجنَ أضيقُ من سجن الهوى، ولا قيدَ أصعبُ من قيد الشهوة، فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟! وكيف يخطو خطوةً واحدةً؟! وإذا تقيَّد القلب طرقته الآفاتُ من كل جانب بحسب قيوده. ومثل القلب مثل الطائر، وكلَّما علا بعد عن الآفات، وكلَّما نزل احتوَشَتْه الآفات.

وأصل هذا كلِّه أنَّ القلب كلَّما كان أبعد من الله كانت الآفات إليه أسرع، وكلَّما قَرُب من الله بعدت عنه الآفات.

والبُعْد من الله مراتب بعضها أشدُّ من بعض. فالغفلة تُبْعِد العبد عن الله، وبُعْدُ المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله.

المعاصي تسقط كرامة العاصي عند الخالق والمخلوق:
ومن عقوباتها سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه، فإنَّ أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وأقربُهم منه منزلةً أطوعُهم له، وعلى قدر طاعة العبد له تكون منزلته عنده. فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه، فأسقطه من قلوب عباده. وإذا لم يبق له جاء عند الخلق وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش خاملَ الذِّكْر، ساقط القدر، زريَّ الحال، لا حرمة له، فلا فرح له ولا سرور. فإنَّ خمول الذكر وسقوط القدر والجاه معه كلُّ غمٍّ وهمٍّ وحزنٍ، ولا سرور معه ولا فرح. وأين هذا الألم من لذة المعصية، لولا سكر الشهوة؟

ومن أعظم نِعَم الله على العبد أن يرفع له بين العالمين ذكرَه ويُعْلي قدرَه؛ ولهذا خصَّ أنبياءه ورُسُله من ذلك بما ليس لغيرهم، كما قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: 45، 46]؛ أي: خصصناهم بخصيصة، وهو الذكر الجميل الذي يُذكَرون به في هذه الدار، وهو لسان الصدق الذي سأله إبراهيم الخليل؛ حيث قال: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84]، وقال سبحانه عنه وعن بنيه: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50]، وقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4].

فأتباع الرُّسُل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم. وكلُّ من خالفهم فاته من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم.

المعاصي تسلب العاصي أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذم والصغار:
ومن عقوباتها أنَّها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذمِّ والصَّغار؛ فتسلبه اسم المؤمن، والبَرِّ، والمحسن، والمتقي، والمطيع، والمنيب، والولي، والوَرِع، والمصلح، والعابد، والخائف، والأوَّاب، والطيِّب، والمرضي، ونحوها. وتكسوه اسم الفاجر، والعاصي، والمخالف، والمسيء، والمفسد، والخبيث، والمسخوط، والزاني، والسارق، والقاتل، والكاذب، والخائن، واللوطي، والغادر، وقاطع الرحم، وأمثالها.

فهذه أسماء الفسوق و﴿ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات: 11] التي توجب غضب الديَّان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان. وتلك أسماء توجِب رضا الرحمن، ودخول الجِنان، وتوجب شرف المسمَّى بها على سائر نوع الإنسان.

فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجَباتها لكان في العقل ناهٍ عنها. ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجَباتها لكان في العقل آمِرٌ بها، ولكن لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مقرِّب لمن باعد، ولا مُبعِّد لمن قرَّب ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18].

[1] وفي الصحيح أيضًا عنه أنَّه قال في خطبة الكسوف: "يا أمَّةَ محمَّد، ما أحدٌ أغيرَ من الله أن يزنيَ عبدُه، أو تزنيَ أمَتُه".
وفي الصحيح أيضًا عنه أنَّه قال: "لا أحدَ أغيرُ من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين. ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه".
فجمع في هذا الحديث بين الغيرةِ التي أصلُها كراهةُ القبائح وبغضُها، ومحبةِ العذرِ الذي يوجب كمال العدل والرحمة والإحسان. وأنَّه سبحانه مع شدَّة غيرته يحِبُّ أن يعتذر إليه عبدُه، ويقبل عذرَ من اعتذر إليه، وأنَّه لا يؤاخذ عبيده بارتكاب ما يَغار من ارتكابه حتى يُعذِرَ إليهم. ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه إعذارًا وإنذارًا.

[2] وفيه تفسيران: أحدهما: أنه على التهديد والوعيد، والمعنى: من لم يستح فإنَّه يصنع ما شاء من القبائح؛ إذ الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يزَعُه من القبائح، فإنَّه يواقعها. وهذا تفسير أبي عبيد.
والثاني: أنَّ الفعلَ إذا لم تستح منه من الله فافعله، وإنما الذي ينبغي تركه ما يستحى منه من الله. وهذا تفسير الإِمام أحمد في رواية ابن هانئ.
فعلى الأول يكون تهديدًا؛ كقوله: ﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40]، وعلى الثاني يكون إذنًا وإباحةً.
والحياء مشتقٌّ من الحياة، والغيث يسمَّى "حيًا" بالقصر؛ لأنَّ به حياةَ الأرض والنبات والدوابِّ، وكذلك بالحياء حياةُ الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه ميِّتٌ في الدنيا شقيٌّ في الآخرة.

[3] فمنها: الأجر العظيم ﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 146].
ومنها: الدفع عنهم شرورَ الدنيا والآخرة ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38].
ومنها: استغفار حملة العرش لهم ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7].
ومنها: موالاة الله لهم، ولا يذلُّ من والاه الله ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 257].
ومنها: أمر ملائكتَه بتثبيتهم ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12].
ومنها: أنَّ لهم الدرجات عند ربهم، والمغفرة، والرزق الكريم ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 4].
ومنها: العزة ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8].
ومنها: معية الله لأهل الإيمان ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 19].
ومنها: الرفعة في الدنيا والآخرة ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
ومنها: إعطاؤهم كِفْلَين من رحمته، وإعطاؤهم نورًا يمشون به، ومغفرةُ ذنوبهم ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28].
ومنها: الودُّ الذي يجعله سبحانه لهم، وهو أنَّه يحبُّهم ويحبِّبُهم إلى ملائكته وأنبيائه وعباده الصالحين ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96].
ومنها: أمانهم من الخوف يومَ يشتدُّ الخوف ﴿ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام: 48].
ومنها: أنَّ القرآن إنَّما هو هدًى لهم وشفاء ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44].
ومنها: أنهم المنعَم عليهم الذين أمرنا أن نسأله أن يهديَنا إلى صراطهم في كلِّ يوم وليلة سبعَ عشرةَ مرَّةً.

[4] وكل اثنين منها قرينان: فالهمُّ والحزنُ قرينان، فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقَّعه أحدثَ الهمَّ، وإن كان من أمر ماضٍ قد وقع أحدثَ الحزَنَ.
والعجز والكسل قرينان، فإنَّ تخلَّفَ العبد عن أسباب الخير والفلاح؛ إن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل.
والجبن والبخل قرينان، فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل.
وضلَع الدَّيْن وقهر الرجال قرينان، فإنَّ استعلاء الغير عليه؛ إن كان بحق فهو من ضلَع الدَّيْن، وإن كان بباطل فهو قَهْر الرجال.



سائد بن جمال دياربكرلي


شبكة الالوكة









قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
فوائد من كتاب " 1000 سؤال وجواب فى القرآن " لقاسم عاشور امانى يسرى القرآن الكريم
لماذا كان صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى؟ امانى يسرى السنة النبوية الشريفة
أنور الجندي نشأته، مشواره في الكتابة، إسهاماته، تكريمه، وفاته، أم أمة الله شخصيات وأحداث تاريخية
[♥] المدارس قربت ومش عارفه تجيبى كتب خارجية إيه لولادك؟ طب تعالى وهتستفيدى [♥] ♥العدوله لولو♥ العناية بالطفل
الداء والدواء بجناحي الذباب,الاعجاز العلمي في الداء والدواء بجناحي بعوضه,ما هو الاعجا جنا حبيبة ماما الارشيف والمواضيع المكررة


الساعة الآن 08:24 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل