أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم

(السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم





بسم الله الرحمن الرحيم





الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، فجعلهشاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعل فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا‏.‏ اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفجّرلهم ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرا‏.
وبعد:-

السيرة النبوية كاملة من مولده وحتى لحوقه بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم مستخرج تلك الأحداث والروايات من كتب السيرة ‏ النبوية

يتبع



إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#2

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

النسب والمولد والنشأة


*نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته :




نسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أجزاء‏:‏ جزء اتفقعليه كافة أهل السير والأنساب، وهو الجزء الذي يبدأ منه صلى الله عليهوسلم وينتهي إلى عدنان‏.‏


وجزء آخر كثر فيه الاختلاف، حتى جاوز حد الجمع والائتلاف، وهو الجزء الذييبدأ بعد عدنان وينتهي إلى إبراهيم عليه السلام فقد توقف فيه قوم،وقالوا‏:‏ لا يجوز سرده، بينما جوزه آخرون وساقوه‏.‏ ثم اختلف هؤلاالمجوزون في عدد الآباء وأسمائهم، فاشتد اختلافهم وكثرت أقوالهم حتى جاوزتثلاثين قولًا، إلا أن الجميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إسماعيلعليه السلام‏.‏


أما الجزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السلام وينتهي إلى آدمعليه السلام، وجل الاعتماد فيه على نقل أهل الكتاب، وعندهم فيه من بعضتفاصيل الأعمار وغيرها ما لا نشك في بطلانه، بينما نتوقف في البقيةالباقية‏.‏


وفيما يلى الأجزاء الثلاثة من نسبه الزكى صلى الله عليه وسلم بالترتيب ‏:‏


الجزء الأول ‏:‏ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسمه شَيْبَة بن هاشمواسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قُصَىّ واسمه زيد بن كِلاب بنمُرَّة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهْر وهو الملقب بقريش وإليه تنتسبالقبيلة بن مالك بن النَّضْر واسمه قيس بن كِنَانة بن خُزَيْمَة بنمُدْرِكة واسمه عامر بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان‏.‏


الجزء الثانى ‏:‏ ما فوق عدنان، وعدنان هو ابن أُدَد بن الهَمَيْسَع بنسلامان بن عَوْص بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداسبن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيض بن عبقر بن عبيد بنالدعا بن حَمْدان بن سنبر بن يثربى بن يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بنديشان بن عيصر بن أفناد ابن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزىبن عوضة بن عرام بن قيدار ابن إسماعيل بن إيراهيم عليهما السلام‏.‏


الجزء الثالث ‏:‏ ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارَح واسمه آزر بنناحور بن ساروع أو ساروغ بن رَاعُو بن فَالَخ بن عابر بن شَالَخ بنأرْفَخْشَد بن سام بن نوح عليه السلام بن لامك بن مَتوشَلخَ بن أَخْنُوخيقال ‏:‏ هو إدريس النبي عليه السلام بن يَرْد بن مَهْلائيل بن قينان بنأنُوش بن شِيث بن آدم عليهما السلام‏.‏



*الأسرة النبوية :


تعرف أسرته صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف وإذن فلنذكر شيئًا من أحوال هاشم ومن بعده ‏:‏



1 هاشم ‏:‏


قد أسلفنا أن هاشمًا هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد مناف حينتصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما، وكانهاشم موسرًا ذا شرف كبير، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وكان اسمهعمرو فما سمى هاشمًا إلا لهشمه الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش، رحلةالشتاء والصيف، وفيه يقول الشاعر ‏:‏


عمرو الذي هَشَمَ الثريدَ لقومه ** قَومٍ بمكة مُسِْنتِين عِجَافِ


سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهما ** سَفَرُ الشتاء ورحلة الأصياف


ومن حديثه أنه خرج إلى الشام تاجرًا، فلما قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمروأحد بني عدى بن النجار وأقام عندها، ثم خرج إلى الشام وهي عند أهلها قدحملت بعبد المطلب فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين، وولدت امرأته سلمى عبدالمطلب سنة 497 م، وسمته شيبة؛ لشيبة كانت في رأسه، وجعلت تربيه في بيتأبيها في يثرب، ولم يشعر به أحد من أسرته بمكة، وكان لهاشم أربعة بنينوهم‏:‏ أسد وأبو صيفي ونضلة وعبد المطلب‏.‏ وخمس بنات وهن‏:‏ الشفاء،وخالدة، وضعيفة، ورقية، وجنة‏.‏



2 عبد المطلب ‏:‏


قد علمنا مما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بنعبد مناف ‏[‏وكان شريفًا مطاعًا ذا فضل في قومه، كانت قريش تسميه الفياضلسخائه‏]‏ لما صار شيبة عبد المطلب وصيفًا أو فوق ذلك ابن سبع سنين أوثماني سنين سمع به المطلب‏.‏ فرحل في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه،وأردفه على راحلته فامتنع حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه،فامتنعت، فقال ‏:‏ إنما يمضى إلى ملك أبيه وإلى حرم الله فأذنت له، فقدمبه مكة مردفه على بعيره، فقال الناس‏:‏ هذا عبد المطلب، فقال‏:‏ ويحكم،إنما هو ابن أخى هاشم، فأقام عنده حتى ترعرع، ثم إن المطلب هلك ب‏[‏دمان‏]‏ من أرض اليمن، فولى بعده عبد المطلب، فأقام لقومه ما كان آباؤهيقيمون لقومهم،وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظمخطره فيهم‏.‏


ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح بد المطلب فغصبه إياها، فسأل رجالًامن قريش النصرة على عمه، فقالوا‏:‏ لا ندخل بينك وبين عمك، فكتب إلىأخواله من بني النجار أبياتًا يستنجدهم، فسار خاله أبو سعد بن عدى فيثمانين راكبًا، حتى نزل بالأبطح من مكة، فتلقاه عبد المطلب، فقال‏:‏المنزل يا خال، فقال‏:‏ لا والله حتى ألقى نوفلًا، ثم أقبل فوقف على نوفل،وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش، فسل أبو سعد سيفه وقال‏:‏ ورب البيت،لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لأمكنن منك هذا السيف، فقال‏:‏ رددتهاعليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثًا،ثم اعتمر ورجع إلى المدينة‏.‏ فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبدمناف على بني هاشم‏.‏ ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا‏:‏نحن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره وذلك أن أم عبد مناف منهم فدخلوادار الندوة وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل، وهذا الحلف هو الذيصار سببًا لفتح مكة كما سيأتى‏.‏


ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان‏:‏



حفر بئر زمزم ووقعة الفيل


وخلاصة الأول‏:‏ أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها، فقام يحفر،فوجد فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء، أي السيوفوالدروع والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في البابالغزالين صفائح من ذهب، وأقام سقاية



زمزم للحجاج‏.‏


ولما بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد المطلب، وقالوا له ‏:‏ أشركنا‏.‏قال‏:‏ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلىكاهنة بني سعد هُذَيْم، وكانت بأشراف الشام، فلما كانوا في الطريق، ونفدالماء سقى الله عبد المطلب مطرًا، م ينزل عليهم قطرة، فعرفوا تخصيص عبدالمطلب بزمزم ورجعوا، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء،وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة‏.‏


وخلاصة الثانى‏:‏ أن أبرهة بن الصباح الحبشى، النائب العام عن النجاشى علىاليمن، لما رأي العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبيرة بصنعاء، وأراد أن يصرفحج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلًا فلطخ قبلتهابالعذرة‏.‏ ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألفجندى إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وكان فيالجيش 9 فيلة أو 13 فيلا، وواصل سيره حتى بلغ المُغَمَّس، وهناك عبأ جيشهوهيأ فيله، وتهيأ لدخول مكة، فلما كان في وادى مُحَسِّر بين المزدلفة ومنىبرك الفيل، ولم يقم ليقدم إلى الكعبة، وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أوالشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبيناهم كذلك إذأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصفمأكول‏.‏ وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر ثلاثة أحجار؛حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحدًا إلا صارتتتقطع أعضاؤه وهلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض،فتساقطوا بكل طريق وهلكوا على كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داءتساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدرهعن قلبه ثم هلك‏.‏


وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب، وتحرزوا في رءوس الجبال خوفًا علىأنفسهم من معرة الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين‏.‏


وكانت هذه الوقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسينيومًا أو بخمسة وخمسين يومًا عند الأكثر وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائلمارس سنة 571 م، وكانت تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته؛ لأنّا حين ننظر إلىبيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء الله استولوا على هذه القبلة مرتينبينما كان أهلها مسلمين، كما وقع لبُخْتُنَصَّر سنة 587 ق‏.‏م، والرومانسنة 70 م، ولكن لم يتم استيلاء نصارى الحبشة على الكعبة وهم المسلمون إذذاك، وأهل الكعبة كانوا مشركين‏.‏


وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبؤها إلى معظم المعمورةالمتحضرة إذ ذاك‏.‏ فالحبشة كانت لها صلة قوية بالرومان، والفرس لا يزالونلهم بالمرصاد، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم؛ ولذلك سرعان ما جاءتالفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالمالمتحضر في ذلك الوقت‏.‏ فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيتالله، وأنه هو الذي اصطفاه الله للتقديس، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوىالنبوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة، وكان تفسيرًا للحكمة الخفيةالتي كانت في نصرة الله للمشركين ضد أهل الإيمان بطريق يفوق عالمالأسباب‏.‏


وكان لعبد المطلب عشرة بنين، وهم‏:‏ الحارث، والزبير، وأبو طالب، وعبدالله، وحمزة، وأبو لهب، والغَيْدَاق، والمُقَوِّم، وضِرَار، والعباس‏.‏وقيل‏:‏ كانوا أحد عشر، فزادوا ولدًا اسمه‏:‏ قُثَم، وقيل ‏:‏ كانوا ثلاثةعشر، فزادوا‏:‏ عبد الكعبة وحَجْلًا، وقيل‏:‏ إن عبد الكعبة هو المقوم،وحجلا هو الغيداق، ولم يكن من أولاده رجل اسمه قثم، وأما البنات فست وهن‏:‏ أم الحكيم وهي البيضاء وبَرَّة، وعاتكة، وصفية، وأرْوَى، وأميمة‏.‏



3 عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏


أمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظَة بن مرة، وكانعبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وأحبهم إليه، وهو الذبيح؛ وذلك أنعبد المطلب لما تم أبناؤه عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه،فقيل ‏:‏ إنه أقرع بينهم أيهم ينحر ‏؟‏ فطارت القرعة على عبد الله، وكانأحب الناس إليه‏.‏فقال‏:‏اللهم هو أو مائة من الإبل‏.‏ثم أقرع بينه وبينالإبل فطارت القرعة على المائة من الإبل، وقيل‏:‏إنه كتب أسماءهم فيالقداح،وأعطاها قيم هبل، فضرب القداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذه عبدالمطلب، وأخذ الشفرة،ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه،فمنعته قريش،ولاسيماأخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب‏.‏ فقال عبد المطلب ‏:‏ فكيف أصنعبنذري‏؟‏ فأشاروا عليه أن يأتى عرافة فيستأمرها، فأتاها، فأمرت أن يضربالقداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبد الله يزيد عشرًامن الإبل حتى يرضى ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع بين عبدالله وبين عشر من الإبل، فوقعت القرعة على عبد الله، فلم يزل يزيد منالإبل عشرًا عشرًا ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعتالقرعة عليها، فنحرت ثم تركت، لا يرد عنها إنسان ولا سبع، وكانت الدية فيقريش وفي العرب عشرًا من الإبل، فجرت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل،وأقرها الإسلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏أنا ابنالذبيحين‏]‏ يعنى إسماعيل، وأباه عبد الله‏.‏


واختار عبد المطلب لولده عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بنكلاب، وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وأبوها سيد بنيزهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه بها، فبني بها عبد الله في مكة، وبعد قليل أرسلهعبد المطلب إلى المدينة يمتار لهم تمرًا، فمات بها، وقيل ‏:‏ بل خرجتاجرًا إلى الشام، فأقبل في عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها،ودفن في دار النابغة الجعدى، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبلأن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه يقول أكثر المؤرخين، وقيل ‏:‏بل توفي بعد مولده بشهرين أو أكثر‏.‏ ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنةبأروع المراثى، قالت ‏:‏


عَفَا جانبُ البطحاءِ من ابن هاشم ** وجاور لَحْدًا خارجًا في الغَمَاغِم


دَعَتْه المنايا دعوة فأجابها ** وما تركتْ في الناس مثل ابن هاشم


عشية راحوا يحملون سريره ** تَعَاوَرَهُ أصحابه في التزاحم


فإن تك غالته المنايا ورَيْبَها ** فقد كان مِعْطاءً كثير التراحم


وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#3

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

المولد وأربعون عامًا قبل النبوة


*المولد:




ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يومالاثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنةخلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك عشرين أو اثنين وعشرين من شهر أبريلسنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصورفورى رحمه الله‏.‏



وروى ابن سعد أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ‏:‏ لما ولدته خرجمن فرجى نور أضاءت له قصور الشام‏.‏ وروى أحمد والدارمى وغيرهما قريبًا منذلك‏.‏



وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة منإيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرةساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما‏.‏ وليس له إسنادثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعى التسجيل‏.‏



ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاء مستبشرًا ودخلبه الكعبة، ودعا الله وشكر له‏.‏ واختار له اسم محمد وهذا الاسم لم يكنمعروفًا في العرب وخَتَنَه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون‏.‏



وأول من أرضعته من المراضع وذلك بعد أمه صلى الله عليه وسلم بأسبوعثُوَيْبَة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له‏:‏ مَسْرُوح، وكانت قدأرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسدالمخزومي‏.





*في بني سعد :





وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعادًالهم عن أمراض الحواضر؛ ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسانالعربى في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلمالمراضع، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبدالله بن الحارث، وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفسالقبيلة‏.‏



وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة ‏:‏ عبد الله بن الحارث،وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث ‏[‏وهي الشيماء؛ لقب غلبعلى اسمها‏]‏ وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بنالحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمه حمزةبن عبد المطلب مسترضعًا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلى اللهعليه وسلم يومًا وهو عند أمه حليمة،فكان حمزة رضيع رسول الله صلى اللهعليه وسلم من جهتين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية‏.‏



ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب، ولنتركها تروى ذلك مفصلًا ‏:‏



قال ابن إسحاق ‏:‏ كانت حليمة تحدث ‏:‏ أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابنلها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء‏.‏ قالت ‏:‏وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئًا، قالت ‏:‏ فخرجت على أتان لى قمراء،ومعنا شارف لنا، والله ما تَبِضّ ُبقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبيناالذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديى ما يغنيه، وما في شارفنا مايغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذَمَّتْبالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فمامنا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذاقيل لها‏:‏ إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنانقول‏:‏ يتيم‏!‏ وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيتامرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى‏:‏والله، إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلىذلك اليتيم فلآخذنه‏.‏ قال ‏:‏ لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنافيه بركة‏.‏ قالت‏:‏ فذهبت إليه وأخذته،وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجدغيره، قالت‏:‏ فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته في حجرى أقبل عليهثديأي بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وماكنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منهاما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت‏:‏ يقولصاحبى حين أصبحنا‏:‏ تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت‏:‏فقلت‏:‏ والله إنى لأرجو ذلك‏.‏ قالت‏:‏ ثم خرجنا وركبت أنا أتانى، وحملتهعليها معى، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شىء من حمرهم، حتى إنصواحبى ليقلن لى‏:‏ يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك‏!‏ أرْبِعى علينا، أليست هذهأتانك التي كنت خرجت عليها‏؟‏ فأقول لهن‏:‏ بلى والله، إنها لهي هي،فيقلن‏:‏ والله إن لها شأنًا، قالت‏:‏ ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد،وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح علىَّ حين قدمنابه معنا شباعًا لُبَّنًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولايجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم‏:‏ ويلكم،اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرةلبن، وتروح غنمى شباعًا لبنًا‏.‏ فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخيرحتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيهحتى كان غلامًا جفرًا‏.‏ قالت‏:‏ فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثهفينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها‏:‏ لو تركت ابني عنديحتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت‏:‏ فلم نزل بها حتى ردته معنا‏.‏


يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#4

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* شق الصدر :


وهكذا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد، حتى إذا كان بعدهبأشهر على قول ابن إسحاق، وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققينوقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلمأتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجالقلب، فاستخرج منه علقة، فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْتمن ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ثم أعاده في مكانه،وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعنى ظئره فقالوا‏:‏ إن محمدًا قد قتل،فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون أي متغير اللون قال أنس‏:‏ وقد كنت أرىأثر ذلك المخيط في صدره‏.



*إلى أمه الحنون :



وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين‏.‏



ورأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكةقاطعة رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم محمد صلى اللهعليه وسلم وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرًا ثم قفلت،وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق، ثم اشتد حتى ماتتبالأبْوَاء بين مكة والمدينة‏.




*إلى جده العطوف :



وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيدهاليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نَكَأ الجروح القديمة، فَرَقَّ عليه رقة لميرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره علىأولاده، قال ابن هشام‏:‏ كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكانبنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيهإجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتىيجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلكمنهم‏:‏ دعوا ابني هذا، فوالله إن له لشأنًا، ثم يجلس معه على فراشه،ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع‏.‏



ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبدالمطلب بمكة، ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيقأبيه‏.



*إلى عمه الشفيق :



ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمه عليهمواختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليهحمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها‏.





* يستسقى الغمام بوجهه :



أخرج ابن عساكر عن جَلْهُمَة بن عُرْفُطَة قال‏:‏ قدمت مكة وهم في قحط،فقالت قريش‏:‏ يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهَلُمَّ فاستسق،فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دُجُنَّة، تجلت عنه سحابة قَتْمَاء،حوله أُغَيْلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة،ولاذ بأضبعه الغلام،وما في السماء قَزَعَة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغْدَوْدَق،وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال‏:‏



وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهه ** ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامل



*بَحِيرَى الراهب :



ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة قيل‏:‏ وشهرينوعشرة أيام ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى وهيمعدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلادالعربية التي كانت تحت حكم الرومان‏.‏ وكان في هذا البلد راهب عرفبَبحِيرَى، واسمه فيما يقال‏:‏ جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لايخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وقال‏:‏ هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثهالله رحمة للعالمين‏.‏ فقال له ‏[‏أبو طالب و‏]‏ أشياخ قريش‏:‏ ‏[‏و‏]‏ ماعلمك ‏[‏بذلك‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجرإلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل منغضروف كتفه مثل ال، ‏[‏وإنا نجده في كتبنا‏]‏، ثم أكرمهم بالضيافة، وسألأبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود،فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#5

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*حرب الفِجَار :

وفي السنة العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظ حرب بينقريش ومعهم كنانة وبين قَيْس عَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها‏:‏ أنأحد بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصلالخبر إلى عكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛لمكانته فيهم سنا وشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتىإذا كان في وسط النهار كادت الدائرة تدور على قيس‏.‏ ثم تداعى بعض قريشإلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ ديةالزائد‏.‏ فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم منالعداوة والشر‏.‏ وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها، وقدحضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل للرمي‏.


*حلف الفضول :


وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذى القعدة في شهر حرام تداعت إليهقبائل من قريش‏:‏ بنو هاشم، وبنو المطلب،وأسد بن عبد العزى، وزهرة بنكلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدْعان التيمى؛ لسنِّهوشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم منسائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهدهذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعد أن أكرمه اللهبالرسالة‏:‏ ‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لى بهحمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت‏)‏‏.‏


وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف‏:‏ إن رجلًا من زُبَيْد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منهالعاص بن وائل السهمى، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدارومخزومًا، وجُمَحًا وسَهْمًا وعَدِيّا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبيقُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعًا صوته، فمشى في ذلك الزبيربن عبد المطلب، وقال‏:‏ ما لهذا مترك‏؟‏ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلفالفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي‏.


*حياة الكدح :


ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أن الرواياتتوالت أنه كان يرعى غنمًا، رعاها في بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط،ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع السائببن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له، لا يدارى ولا يمارى، وجاءه يومالفتح فرحب به، وقال‏:‏ مرحبًا بأخي وشريكي‏.‏


وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرًا إلى الشام في مال خديجة رضي اللهعنها قال ابن إسحاق‏:‏ كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال،تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًاتجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدقحديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لهاإلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لهايقال له‏:‏ ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج فيمالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام‏.


*زواجه بخديجة :


ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبلهذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأي فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة،وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودةوكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم ذلك فتحدثت بما فينفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلمتفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضى بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجةوخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر،وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بَكْرة‏.‏ وكانت سنها إذذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا، وهي أولامرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتىماتت‏.‏


وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها سوى إبراهيم،ولدت له‏:‏ أولًا القاسموبه كان يكنى ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبد الله‏.‏ وكان عبدالله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهنأدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن،إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى اللهعليه وسلم سوى فاطمة رضي الله عنها، فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به‏.‏


*بناء الكعبة وقضية التحكيم :


ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛وذلك لأن الكعبة كانت رَضْمًا فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهدإسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كانفي جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت باعتبارها أثرًا قديما للعوادى التي أدهتبنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكةسيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرتقريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألا يدخلوا فيبنائها إلا طيبًا، فلا يدخلون فيها مهر بغى ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد منالناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى، فأخذالمعول وقال‏:‏ اللّهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لميصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتىوصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة،وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها‏.‏ فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوايبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه‏:‏ باقوم‏.‏ ولما بلغ البنيان موضعالحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربعليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أنأبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أولداخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلىالله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا‏:‏ هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلماانتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساءالقبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه،حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضى بهالقوم‏.‏


وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع،وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا منأرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة‏.‏


وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا، يبلغ ارتفاعه 15 مترًا،وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10 أمتار، والحجر موضوع علىارتفاع 1‏.‏50متر من أرضية المطاف‏.‏ والضلع الذي فيه الباب والمقابل له12مترًا، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة منالبناء أسفلها، متوسط ارتفاعها 0‏.‏25مترًا ومتوسط عرضها 0‏.‏30 مترًاوتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها‏.


*السيرة الإجمالية قبل النبوة :


كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس منميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظًاوافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعينبصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق، وطالع بعقلهالخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ماسواها من خرافة، ونأي عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فماوجد حسنًا شارك فيه وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولايأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالًا، بل كان منأول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليهمنها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى‏.‏


ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متعالدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العنايةالربانية للحيلولة بينه وبينها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول اللهبيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعىمعي الغنم بأعلى مكة‏:‏ لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمرالشباب، فقال‏:‏ أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا،فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله علىأذنى فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس‏.‏ فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته،ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة‏.‏‏.‏‏.‏ ثمما هممت بسوء‏)‏‏.‏


وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلىالله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليهوسلم‏:‏ اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحتعيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال‏:‏ ‏(‏إزاري، إزاري‏)‏ فشد عليه إزاره‏.‏وفي رواية‏:‏ فما رؤيت له عورة بعد ذلك‏.‏


وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة،وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا،وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهمخيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه‏:‏‏[‏الأمين‏]‏ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كماقالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقرىالضيف، ويعين على نوائب الحق‏.


يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#6

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

حياة النبوة و الرسالة والدعوة





*النبوة والدعوة - العهد المكي :





تنقسم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن شرفه الله بالنبوةوالرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما عن الآخر تمام الامتياز، وهما‏:‏




1 العهد المكي، ثلاث عشرة سنة تقريبًا‏.‏




2 العهد المدني، عشر سنوات كاملة‏.‏




ثم يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل، لكل مرحلة منها خصائص تمتاز بها عنغيرها، يظهر ذلك جليًا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوةخلال العهدين‏.‏




ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثلاث مراحل‏:‏




1 مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنوات‏.‏




2 مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏




3 مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة منالنبوة‏.‏ وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى الله عليهوسلم‏.‏




أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه‏.‏





* في ظلال النبوة والرسالة :





*في غار حراء :




لما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قدوسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السَّوِيقوالماء، ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة وهوغار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديدفيقيم فيه شهر رمضان، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهدالكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائدالشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهجمحدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه‏.‏




وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له،وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التيتشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحملالأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ‏.‏‏.‏‏.‏ دبر الله لههذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًامن الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون،حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله‏.




*جبريل ينزل بالوحي :




ولما تكامل له أربعون سنة وهي رأس الكمال، وقيل‏:‏ ولها تبعث الرسل بدأتطلائع النبوة تلوح وتلمع، فمن ذلك أن حجرًا بمكة كان يسلم عليه، ومنها أنهكان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتىمضت على ذلك ستة أشهر ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء منستة وأربعين جزءًا من النبوة فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلتهصلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض،فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن‏.‏




وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنهكان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، وقد وافق 10 أغسطسسنة 610 م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية،وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا‏.‏




ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التيكانت نقطة بداية النبوة، وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرتمجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ، قالت عائشة رضي الله عنها‏.‏




أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة فيالنوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليهالخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه وهو التعبد الليالي ذواتالعدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزودلمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال‏:‏ اقرأ‏:‏قال‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثمأرسلنى، فقال‏:‏ اقرأ، قلت‏:‏ ما أنا بقارئ، قال‏:‏ فأخذنى فغطنى الثانيةحتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال‏:‏ اقرأ، فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ، فأخذنيفغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيخَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَالْأَكْرَمُ‏}‏‏[‏العلق‏:‏1‏:‏ 3‏]‏‏)‏، فرجع بها رسول الله صلى الله عليهوسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال‏:‏ ‏(‏زَمِّلُونىزملونى‏)‏، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة‏:‏ ‏(‏ما لي‏؟‏‏)‏فأخبرها الخبر، ‏(‏لقد خشيت على نفسي‏)‏، فقالت خديجة‏:‏ كلا، والله مايخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرىالضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفلابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتبالكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكانشيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له خديجة‏:‏ يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقالله ورقة‏:‏ يابن أخي، ماذا ترى‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلمخبر ما رأي، فقال له ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، ياليتني فيها جَذَعا، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو مخرجيّ هم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏نعم، لم يأت رجل قط بمثلما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لميَنْشَبْ ورقة أن توفي، وفَتَر الوحى‏.





*فَتْرَة الوحي :





أما مدة فترة الوحى فاختلفوا فيها على عدة أقوال‏.‏ والصحيح أنها كانتأيامًا، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك‏.‏ وأما ما اشتهر منأنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفًا فليس بصحيح‏.‏




وقد ظهر لى شىء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم‏.‏ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهرًا واحدًا، وهو شهر رمضان من كلسنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة،وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلكالسنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده منحراء صباحًا أي لأول يوم من شهر شوال ويعود إلى البيت‏.‏




وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحى الذي نزل عليه صلى اللهعليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعدإتمام جواره بتمام الشهر‏.‏




أقول‏:‏ فهذا يفيد أن الوحي الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترةإنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيهبالنبوة والوحى؛ لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزولالوحى كان في ليلة الاثنين الحادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أنفترة الوحى كانت لعشرة أيام فقط‏.‏ وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يوم الخميسلأول شوال من السنة الأولى من النبوة‏.‏ ولعل هذا هو السر في تخصيص العشرالأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف، وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيدالسعيد، والله أعلم‏.‏




وقد بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبًا محزونًاتعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه‏:‏




وفتر الوحي فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منهمرارًا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوْفي بذِرْوَة جبل لكى يلقىنفسه منه تَبدَّى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكنلذلك جأشه، وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك،فإذا أوفي بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#7

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

ينقل لقسم قصص الانبياء والرسل

رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

إظهار التوقيع
توقيع : قوت القلوب 2
#8

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية :

قال ابن حجر‏:‏ وكان ذلك ‏[‏أي انقطاع الوحي أيامًا‏]‏؛ ليذهب ما كان صلىالله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فلما حصل لهذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه الله بالوحي مرة ثانية‏.‏ قال‏:‏ صلىالله عليه وسلم‏:‏

‏(‏جاورت بحراء شهرًا فلما قضيت جوارى هبطت ‏[‏فلما استبطنت الوادي‏]‏فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرتأمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أرشيئًا، فرفعت رأسى فرأيت شيئًا،‏[‏فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض،فَجُئِثْتُ منه رعبًا حتى هويت إلى الأرض‏]‏ فأتيت خديجة فقلت‏:‏‏[‏زملوني، زملوني‏]‏، دثرونى، وصبوا على ماء باردًا‏)‏، قال‏:‏‏(‏فدثرونى وصبوا على ماء باردًا، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُقُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَفَاهْجُرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1‏:‏ 5‏]‏‏)‏ وذلك قبل أن تفرض الصلاة، ثم حمىالوحى بعد وتتابع‏.‏

وهذه الآيات هي مبدأ رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوةبمقدار فترة الوحى‏.‏ وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتبعليه‏:‏

النوع الأول‏:‏ تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير، وذلك في قولهتعالى‏:‏ ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ فإن معناه‏:‏ حذر الناس من عذاب الله إن لميرجعوا عما هم فيه من الغى والضلال وعبادة غير الله المتعال، والإشراك بهفي الذات والصفات والحقوق و الأفعال‏.‏

النوع الثاني‏:‏ تكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانهوتعالى على ذاته، والالتزام بها في نفسه؛ ليحرز بذلك مرضاة الله، ويصيرأسوة حسنة لمن آمن بالله وذلك في بقية الآيات‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وَرَبَّكَفَكَبِّرْ‏}‏ معناه‏:‏ خصه بالتعظيم، ولا تشرك به في ذلك أحدًا‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ المقصود الظاهر منه‏:‏ تطهير الثيابوالجسد، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجسًا مستقذرًا‏.‏وإذا كان هذا التطهر مطلوبًا فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس الأعمالوالأخلاق أولى بالطلب، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ معناه‏:‏ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه، وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ أي‏:‏ لا تحسن إحسانًا تريدأجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل في هذه الدنيا‏.‏

أما الآية الأخيرة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم فيالدين ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه، فقال‏:‏‏{‏وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏، ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوى فيصوت الكبير المتعال بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل،وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏، كأنه قيل‏:‏ إن الذي يعيشلنفسه قد يعيش مستريحًا، أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لكوالنوم‏؟‏ وما لك والراحة‏؟‏ وما لك والفراش الدافئ‏؟‏ والعيش الهادئ‏؟‏والمتاع المريح‏!‏ قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك،قم للجهد والنصب، والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عادمنذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيأ لهذا الأمرواستعد‏.‏

إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش في البيتالهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبينالشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء‏.‏

وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرينعامًا؛ لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله‏.‏ قام وظل قائمًا علىدعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانةالكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاحوالجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرينعامًا؛ لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوىالجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب‏.‏‏.‏‏.‏ جزاه الله عنا وعن البشريةكلها خير الجزاء‏.‏

وليست الأوراق الآتية إلا صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد‏.‏

*أقسام الوحى :

وقبل الدخول في موضوع هذا الجهاد أرى من الأحسن أن أستطرد إلى بيان أقسام الوحى ومراتبه‏.‏ قال ابن القيم، وهو يذكر تلك المراتب‏:‏

إحداها‏:‏ الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثانية‏:‏ ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قالالنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن روح القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفسحتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاءالرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلابطاعته‏)‏‏.‏

الثالثة‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلًا فيخاطبه حتىيَعِىَ عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا‏.‏

الرابعة‏:‏ أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيلتبس بهالملك، حتى أن جبينه ليتَفَصَّد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وحتى أنراحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحى مرة كذلك وفخذهعلى فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها‏.‏

الخامسة‏:‏ إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحى إليه ما شاءالله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم‏.‏

السادسة‏:‏ ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها‏.‏

السابعة‏:‏ كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى بنعمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن‏.‏ وثبوتها لنبيناصلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء‏.‏

وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم الله له كفاحًا من غير حجاب، وهيمسألة خلاف بين السلف والخلف‏.‏ انتهي مع تلخيص يسير في بيان المرتبةالأولى والثامنة‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#9

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

المرحلة الأولى: من جهاد الدعوة إلى الله


*ثلاث سنوات من الدعوة السرية :


قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول ما تقدم من آيات سورة المدثر،بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ وحيث إن قومه كانوا جفاة لا دين لهم إلاعبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولاأخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلاالسيف، وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلينمركزها الرئيس، ضامنين حفظ كيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكونالدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم‏.


*الرعيل الأول :


وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولًا علىألصق الناس به من أهل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كلمن توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونهبتحرى الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمةالرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره جَمْعٌ عُرِفوا فيالتاريخ الإسلامى بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى اللهعليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيلالxxxي وابن عمه علي بن أبي طالب وكان صبيًا يعيش في كفالة الرسول صلىالله عليه وسلم وصديقه الحميم أبو بكر الصديق‏.‏ أسلم هؤلاء في أول يومالدعوة‏.‏


ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلًا مألفًا محببًا سهلًا ذاخلق ومعروف،وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته،فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عثمان بنعفان الأموى، والزبير بن العوام الأسدى، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبيوقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد الله التيمي‏.‏ فكان هؤلاء النفر الثمانيةالذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام‏.‏


ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بنفهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى، وامرأته أم سلمة، والأرقم بن أبيالأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون الجُمَحِىّ وأخواه قدامة وعبد الله،وعبيدة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوى، وامرأتهفاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت التميمى،وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عُمَيْس، وخالد بن سعيد بن العاصالأموى، وامرأته أمينة بنت خلف، ثم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص، وحاطب بنالحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلِّل وأخوه الخطاب بن الحارث،وامرأته فُكَيْهَة بنت يسار، وأخوه معمر ابن الحارث، والمطلب بن أزهرالزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله بن النحام العدوي،وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش‏.‏


ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش‏:‏ عبد الله بن مسعودالهذلي، ومسعود بن ربيعة القاري، وعبد الله بن جحش الأسدي وأخوه أبو أحمدبن جحش، وبلال بن رباح الحبشي، صُهَيْب بن سِنان الرومي، وعمار بن ياسرالعنسي، وأبوه ياسر، وأمه سمية، وعامر بن فُهيرة‏.‏


وممن سبق إلى الإسلام من النساء غير من تقدم ذكرهن‏:‏ أم أيمن بركةالحبشية، وأم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبدالمطلب، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما‏.‏


هؤلاء معروفون بالسابقين الأولين، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أن عددالموصوفين بالسبق إلى الإسلام وصل إلى مائة وثلاثين رجلًا وامرأة، ولكن لايعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها‏.‏


*الصلاة :


ومن أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، قال ابن حجر‏:‏ كان صلى اللهعليه وسلم قبل الإسراء يصلى قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شىءقبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ إن الفرض كانت صلاة قبلطلوع الشمس وقبل غروبها‏.‏ انتهي‏.‏ وروى الحارث بن أبي أسامة من طريق ابنلَهِيعَة موصولًا عن زيد ابن حارثة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأول ما أوحى إليه أتاه جبريل، فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفةمن ماء فنضح بها فرجه، وقد رواه ابن ماجه بمعناه، وروى نحوه عن البراء بنعازب وابن عباس، وفي حديث ابن عباس‏:‏ وكان ذلك من أول الفريضة‏.‏


وقد ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرتالصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأي أبو طالبالنبي صلى الله عليه وسلم وعليّا يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرفجلية الأمر أمرهما بالثبات‏.‏


تلك هي العبادة التي أمر بها المؤمنون، ولا تعرف لهم عبادات وأوامر ونواهأخرى غير ما يتعلق بالصلاة، وإنما كان الوحى يبين لهم جوانب شتى منالتوحيد، ويرغبهم في تزكية النفوس، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويصف لهمالجنة والنار كأنهما رأي عين، ويعظهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذىالأرواح، وتحدو بهم إلى جو آخر غير الذي كان فيه المجتمع البشرى آنذاك‏.‏


وهكذا مرت ثلاثة أعوام، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد، ولم يجهر بهاالنبي صلى الله عليه وسلم في المجامع والنوادى،إلا أنها عرفت لدى قريش،وفشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به الناس، وقد تنكر له بعضهم أحيانًا،واعتدوا على بعض المؤمنين، إلا أنهم لم يهتموا به كثيرًا حيث لم يتعرضرسول الله صلى الله عليه وسلم لدينهم، ولم يتكلم في آلهتهم‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#10

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

المرحلة الثانية: الدعوة جهارًا


*أول أمر بإظهار الدعوة :


لما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتتحمل عبء تبليغالرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحى يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلمبمعالنة الدعوة، ومجابهة الباطل بالحسنى‏.‏


وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَالْأَقْرَبِينَ ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏214‏]‏، وقد ورد في سياق ذكرت فيه أولًاقصة موسى عليه السلام، من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، وقصةنجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة علىجميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام، خلال دعوة فرعون وقومه إلىالله‏.‏


وكأن هذا التفصيل جىء به مع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهر الدعوةإلى الله؛ ليكون أمامه وأمام أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيبوالاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذالبداية‏.‏


ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، من قوم نوح،وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة عدا ما ذكر من أمرفرعون وقومه ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه منمؤاخذة الله إن استمروا عليه، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم وليسللمكذبين‏.


*الدعوة في الأقربين :


ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية،فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعينرجلًا‏.‏ فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهبوقال‏:‏ هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومكبالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ماأنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيتأحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليهوسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس‏.‏


ثم دعاهم ثانية وقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكلعليه‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إنالرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إنى رسول الله إليكم خاصةوإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون،ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا‏)‏‏.‏


فقال أبو طالب‏:‏ ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًالحديثك‏.‏ وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلىما تحب، فامض لما أمرت به‏.‏ فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسىلا تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب‏.‏


فقال أبو لهب‏:‏ هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب‏:‏ والله لنمنعه ما بقينا‏.


*على جبل الصفا :


وبعد تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عنربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجرًا،ثم هتف‏:‏ ‏(‏يا صباحاه‏)‏


وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم‏.‏


ثم جعل ينادى بطون قريش، ويدعوهم قبائل قبائل‏:‏ ‏(‏يا بني فهر، يا بنيعدى، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب‏)‏‏.‏


فلما سمعوا قالوا‏:‏ من هذا الذي يهتف‏؟‏ قالوا‏:‏ محمد‏.‏ فأسرع الناسإليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما هو،فجاء أبو لهب وقريش‏.‏


فلما اجتمعوا قال‏:‏ ‏(‏أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادى بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِىَّ‏؟‏‏)‏‏.‏


قالوا‏:‏ نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا‏.‏


قال‏:‏ ‏(‏إنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأيالعَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله‏)‏‏(‏ أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفعلئلا يدهمهم العدو‏)‏ ‏(‏خشى أن يسبقوه فجعل ينادى‏:‏ يا صباحاه‏)‏


ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخص وعم فقال‏:‏


‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لاأملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا‏.‏


يا بني كعب بن لؤى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏


يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏


يا معشر بني قصى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏


يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا‏.‏


يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏


يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏


يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًاولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا، سلونى من مالى ماشئتم، لا أملكلكم من الله شيئًا‏.‏


يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئًا‏.‏


يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله، لا أغنى عنك من الله شيئًا‏.‏


يا فاطمة بنت محمد رسول الله، سلينى ما شئت من مالى، أنقذى نفسك من النار،فإنى لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنك من الله شيئًا‏.‏


غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها‏)‏ أي أصلها حسب حقها‏.‏


ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل، سوىأن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال‏:‏ تبا لك سائراليوم، ألهذا جمعتنا‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍوَتَبَّ‏}‏ ‏[‏سورة المسد‏:‏1‏]‏‏.‏


كانت هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليهوسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينهوبينهم، وأن عصبة القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذاالإنذار الآتى من عند الله‏.‏


ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى‏:‏‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏94‏]‏، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعوة إلىالإسلام في مجامع المشركين ونواديهم، يتلو عليهم كتاب الله، ويقول لهم ماقالته الرسل لأقوامهم‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُممِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏59‏]‏،وبدء يعبد الله تعالى أمامأعينهم، فكان يصلى بفناء الكعبة نهارًا جهارًا وعلى رءوس الأشهاد‏.‏


وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول، ودخل الناس في دين الله واحدًا بعدواحد‏.‏ وحصل بينهم وبين من لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعنادواشمأزت قريش من كل ذلك، وساءهم ما كانوا يبصرون‏.


*المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة


وخلال هذه الأيام أهم قريشًا أمر آخر،وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليهإلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العربستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى اللهعليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بنالمغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد‏:‏ أجمعوا فيه رأيًاواحدًا،ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا‏:‏فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به‏.‏ قال‏:‏ بل أنتم فقولوا أسمع‏.‏قالوا‏:‏ نقول‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏ لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهانفما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ مجنون، قال‏:‏ ماهو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولاوسوسته‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ شاعر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعركله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر،قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ ساحر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم،فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏ قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إنلقوله لحلاوة، ‏[‏وإن عليه لطلاوة‏]‏ وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَهلجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القولفيه لأن تقولوا‏:‏ ساحر‏.‏ جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه،وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنهبذلك‏.‏


وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا‏:‏ أرنارأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم‏:‏ أمهلونى حتى أفكر في ذلك، فظل الوليديفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفًا‏.‏


وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر‏{‏ذَرْنِي وَمَنْخَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًاوَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُكَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَوَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّنَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَفَقَالَ إِنْهَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُالْبَشَرِسَأُصْلِيه ِ سَقَرَ‏}‏ ‏[‏من 11 إلى 26‏]‏ وفي خلالها صور كيفيةتفكيره، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّأَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْهَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏18‏:‏ 25‏]‏


وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناسحين قدموا للموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره‏.‏


أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول‏:‏ لاتطيعوه فإنه صابئ كذاب‏.‏


وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها‏.


يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#11

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*أساليب شتى لمجابهة الدعوة :

ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعوة في مهدها‏.‏ وتتلخص هذه الأساليب فيما يلي‏:‏


1 السخرية والتxxxx، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك‏:‏

قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى اللهعليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون‏{‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَلَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏6‏]‏، ويصمونه بالسحر والكذب ‏{‏وَعَجِبُوا أَنجَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌكَذَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏4]‏،وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة،وعواطف منفعلة هائجة ‏{‏وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَبِأَبْصَار ِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُلَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏51]‏،وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابهاستهزأوا بهم وقالوا‏:‏ هؤلاء جلساؤه ‏{‏مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنبَيْنِنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللّهُبِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏53]‏،وكانوا كما قص اللهعلينا ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوايَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْإِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّهَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏}‏‏[‏المطففين‏:‏ 29‏:‏ 33]‏‏.‏

وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًاحتى أثر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏97‏]‏، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال‏:‏‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْرَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏98، 99‏]‏، وقد أخبرهمن قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَفَيْنَاكَالْمُسْتَهْزِئ ِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَفَسَوْفَ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95، 96‏]‏، وأخبره أن فعلهم هذا سوفينقلب وبالًا عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّنقَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِيَسْتَهْزِؤُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏10‏]‏‏.‏

2 إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة‏:‏

وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر فيدعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن‏:‏ ‏{‏أَضْغَاثُأَحْلاَمٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏5‏]‏ يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار،ويقولون‏:‏ ‏{‏بَلِ افْتَرَاهُ‏}‏ من عند نفسه ويقولون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَايُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُوَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ أي اشترك هووزملاؤه في اختلاقه‏.‏ ‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَاكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏5‏]‏

وأحيانا قالوا‏:‏ إن له جنًا أو شيطانًا يتنزل عليه كما ينزل الجنوالشياطين على الكهان‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْعَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍأَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221، 222‏]‏، أي إنها تنزل على الكذاب الفاجرالمتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم علىّ كذبًا، وما وجدتم في فسقًا، فكيف تجعلونالقرآن من تنزيل الشيطان‏؟‏

وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه مصاب بنوع من الجنون،فهو يتخيل المعانى، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهوشاعر وكلامه شعر‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏وَالشُّعَرَاءيَتَّبِع� �هُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍيَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ‏}‏‏[‏الشعراء‏:‏225‏:‏ 226‏]‏ فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدةمنها في النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقونصالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغوايةفي أي شأن من شئونهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم لا يهيم في كل واد كمايهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد، وصراط واحد، وهو لايقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء‏؟‏وأين الشعر والشعراء منه‏.‏

هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام‏.‏

ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم،ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة منشبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كلناحية، وبين عجز آلهتهم عجزًا لا مزيد عليه، ولعل هذا كان مثار غضبهمواستنكارهم الذي أدى إلى ما أدى إليه‏.‏

أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدقالنبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أنمنصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا،والرسول لا يكون بشرًا حسب عقيدتهم‏.‏ فلما أعلن رسول الله صلى الله عليهوسلم عن نبوته، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا‏:‏ ‏{‏مَالِ هَذَاالرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، وقالوا‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر،و ‏{‏مَاأَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، فقالتعالى ردًا عليهم‏:‏‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِمُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ‏}‏، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسىبشر‏.‏ ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم‏:‏‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏10‏]‏، ف‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْوَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏‏[‏إبراهيم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاةبين البشرية والرسالة‏.‏

وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إسماعيل وموسى عليهم السلام كانوارسلًا وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهمهذه،فقالوا‏:‏ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين،ما كانالله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا‏{‏وَقَالُوالَوْلَ� � نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِعَظِيمٍ‏}� � ‏[‏الزخرف‏:‏31‏]‏، قال تعالى ردًا عليهم‏:‏‏{‏أَهُمْيَقْسِم ُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏32‏]‏، يعنى أن الوحىوالرسالة رحمة من الله و‏{‏اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُرِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏124‏]‏‏.‏

وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا‏:‏ إن رسل ملوك الدنيا يمشون فيموكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسبابالحياة، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسولالله‏؟‏ ‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَوَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَمَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌيَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًامَّسْحُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏7‏:‏ 8‏]‏، ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًارسول، يعنى أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوى،وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرسوالمواكبين مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتىيستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، ولم تعد لهافائدة تذكر‏.‏

أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغرابوالاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّاتُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَاالْأَوَّلُون َ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏16، 17‏]‏،وكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ذَلِكَرَجْعٌ بَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏: ‏3‏]‏ وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب‏:‏‏{‏هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّمُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِكَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏

وقال قائلهم‏:‏


أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو

وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى في الدنيا، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاءظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبلأن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوءعمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بللكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا‏.‏ولا يتصور من الله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد‏.‏ قال تعالى‏:‏‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَتَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏35، 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُالْمُسْلِ� �ِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّننَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءمَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏‏.‏

وأما الاستبعاد العقلى فقال تعالى ردًا عليه‏:‏ ‏{‏أَأَنتُمْ أَشَدُّخَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏27‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِوَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَالْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏33‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَاتَذكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏62‏]‏، وبين ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهوأن الإعادة ‏{‏أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏: ‏27‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏كَمَابَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏104‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذى عقل ولب،ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون عُلوا في الأرض وفرض رأيهم علىالخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون‏.‏


3 الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين‏:‏

كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآنودعوة الإسلام بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاءويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أوإذا رأوه يصلى ويتلو القرآن‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَكَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْتَغْلِبُونَ‏}� � ‏[‏فصلت‏:‏26‏]‏ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكنمن تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة منالنبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بدايةالتلاوة‏.‏

وكان النضر بن الحارث، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديثملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى اللهعليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول‏:‏أنا و الله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستمواسفنديار، ثم يقول‏:‏ بماذا محمد أحسن حديثًا مني‏.‏

وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لا يسمع بأحديريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول‏:‏ أطعميه واسقيه وغنيه، هذاخير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنيَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏[‏لقمان‏:‏ 6‏]‏‏.

*الاضطهادات :


أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئًا فشيئًا لإحباط الدعوة بعدظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهممقتصرون على هذه الأساليب لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب،ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلاميةاستشاروا فيما بينهم، فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم،فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختارمن عبيده طريق الإيمان‏.‏

وكان من الطبيعي أن يهرول الأذناب والأوباش خلف ساداتهم وكبرائهم،ويتحركوا حسب مرضاتهم وأهوائهم، فجروا على المسلمين ولاسيما الضعفاء منهمويلات تقشعر منها الجلود، وأخذوهم بنقمات تتفطر لسماعها القلوب‏.‏

كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعدهبإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرىبه‏.‏

وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته‏.‏

ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته منبيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية‏.‏

وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول‏.‏

وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثميسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر فيعنقه، وهو يقول‏:‏ أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، ويلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع‏.‏ وأشد من ذلككله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاءمكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول‏:‏ لا والله لاتزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو فيذلك‏:‏ أحد،أحد، ويقول‏:‏ لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها‏.‏ ومر بهأبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل‏:‏ بسبع أواق أوبخمس من الفضة، وأعتقه‏.‏

وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه،فكان المشركون وعلى رأسهم أبو جهل يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاءفيعذبونهم بحرها‏.‏ ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال‏:‏‏(‏صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة‏)‏، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبوجهل سمية أم عمار في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهيسمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم،وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة‏.‏ وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضعالصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه‏.‏ وقالواله‏:‏ لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهمعلى ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْأُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ‏}‏الآية ‏[‏ النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وكان أبو فُكَيْهَةَ واسمة أفلح مولى لبني عبد الدار، وكان من الأزد‏.‏فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد،فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لايتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلىالحبشة الهجرة الثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه فيالرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقهلله‏.‏

وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلماأسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهرهأو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًاوتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقدألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره‏.‏

وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله، وأصيبت في بصرهاحتى عميت، فقيل لها‏:‏ أصابتك اللات والعزى، فقالت‏:‏ لا والله ماأصابتني، وهذا من الله، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها،فقالت قريش‏:‏ هذا بعض سحر محمد‏.‏

وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصة مولاهاالأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنالمستهزئين به‏.‏

وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها وهويومئذ على الشرك فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول‏:‏ والله ما أدعكإلا سآمة، فتقول‏:‏ كذلك يفعل بك ربك‏.‏

وممن أسلمن وعذبن من الجوارى‏:‏ النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار‏.‏

وممن عذب من العبيد‏:‏ عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول‏.‏

واشترى أبوبكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهنأجمعين، فأعتقهم جميعًا‏.‏ وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال‏:‏ أراكتعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك‏.‏ قال‏:‏ إني أريدوجه الله‏.‏ فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه‏.‏ قالتعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّاالْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏14‏:‏ 16]‏ وهو أميةبن خلف، ومن كان على شاكلته ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِييُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىإِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏‏[‏الليل‏:‏17‏:‏ 21]‏ وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

وأوذى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا‏.‏ فقد أخذه نوفل بن خويلدالعدوى، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عنالصلاة وعن الدين فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلكسميا بالقرينين، وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بنعبيد الله رضي الله عنه‏.‏

والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذىوالنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيماالعبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادةوالرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمنأسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة منقومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشراف قومهم، مع شيء كبير منالحيطة والحذر‏.

يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#12

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم :

وأما بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم كانرجلًا شهمًا وقورًا ذا شخصية فذة، تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لايقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائلضده إلا أراذل الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالبمن رجال مكة المعدودين، كان معظمًا في أصله، معظمًا بين الناس، فكان منالصعب أن يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته، إن هذا الوضع أقلققريشًا وأقامهم وأقعدهم، ودعاهم إلى تفكير سليم يخرجهم من المأزق دون أنيقعوا في محذور لا يحمد عقباه، وقد هداهم ذلك إلى أن يختاروا سبيلالمفاوضات مع المسئول الأكبر‏:‏ أبي طالب، ولكن مع شيء كبير من الحكمةوالجدية، ومع نوع من أسلوب التحدي والتهديد الخفي حتى يذعن لما يقولون‏.

*وفد قريش إلى أبي طالب :

قال ابن إسحاق‏:‏ مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا‏:‏ يا أباطالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسَفَّه أحلامنا، وضللآباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحنعليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًاجميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه،يظهر دين الله ويدعو إليه‏.‏ ولكن لم تصبر قريش طويلًا حين رأته صلى اللهعليه وسلم ماضيًا في عمله ودعوته إلى الله، بل أكثرت ذكره وتذامرت فيه،حتى قررت مراجعة أبي طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق‏.

*قريش يهددون أبا طالب :

وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إن لك سنًاوشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإناوالله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتىتكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين‏.‏

عَظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم وقال له‏:‏ يا بن أخي، إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذاوكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق، فظن رسولالله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال‏:‏ ‏(‏ياعم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمرحتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته‏)‏، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولىناداه أبو طالب، فلما أقبل قال له‏:‏ اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أُسْلِمُك لشىء أبدًا وأنشد‏:‏

والله لن يصلوا إليك بجَمْعِهِم ** حتى أُوَسَّدَ في التراب دفينًا

فاصدع بأمرك ما عليك غَضَاضَة ** وابْشِرْ وقَرَّ بذاك منك عيونًا

وذلك في أبيات‏.‏

*قريش بين يدى أبي طالب مرة أخرى :

ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماض في عمله عرفت أن أباطالب قد أبي خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مجمع لفراقهموعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة وقالوا له‏:‏يا أبا طالب، إن هذا الفتى أنْهَدَ فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقلهونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينكودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل،فقال‏:‏ والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابنيتقتلونه‏؟‏ هذا والله ما لا يكون أبدًا‏.‏ فقال المطعم بن عدى بن نوفل ابنعبد مناف‏:‏ والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مماتكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فقال‏:‏ والله ما أنصفتموني،ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علىّ، فاصنع ما بدا لك‏.‏

ولما فشلت قريش في هذه المفاوضات، ولم توفق في إقناع أبي طالب بمنع رسولالله صلى الله عليه وسلم وكفه عن الدعوة إلى الله، قررت أن يختار سبيلا قدحاولت تجنبه والابتعاد منه مخافة مغبته وما يؤول إليه، وهو سبيل الاعتداءعلى ذات الرسول صلى الله عليه وسلم‏.

*اعتداءات على رسول الله صلى الله عليه وسلم :

واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة، فقدصعب على غطرستها وكبريائها أن تصبر طويلًا، فمدت يد الاعتداء إلى رسولالله صلى الله عليه وسلم، مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاءوالتشوية والتلبيس والتشويش وغير ذلك‏.‏ وكان من الطبيعى أن يكون أبو لهبفي مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى مايخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلام وأهله، وقد وقف موقف العداء منرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكرفيه قريش، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم،وما فعل على الصفا‏.‏

وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول الله صلى الله عليهوسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنفوشدة حتى طلقاهما‏.‏

ولما مات عبد الله الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم استبشر أبو لهب وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار أبتر‏.‏

وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسمالحج والأسواق لتكذيبه، وقد روى طارق بن عبد الله المحاربى ما يفيد أنهكان لا يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه‏.‏

وكانت امرأة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان لا تقلعن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تحمل الشوك، وتضعهفي طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطةتبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجججججججججججج نار الفتنة، وتثيرحربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالةالحطب‏.‏

ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليهوسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ‏[‏أي بمقدار ملء الكف‏]‏ من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عنرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت‏:‏ يا أبا بكر،أين صاحبك‏؟‏ قد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه،أما والله إني لشاعرة‏.‏ ثم قالت‏:‏

مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا

ثم انصرفت، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، أما تراها رأتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما رأتنى، لقد أخذ الله ببصرها عني‏)‏‏.‏

وروى أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها‏:‏ أنها لما وقفت على أبي بكرقالت‏:‏ أبا بكر، هجانا صاحبك، فقال أبو بكر‏:‏ لا ورب هذه البنية، ماينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت‏:‏ إنك لمُصدَّق‏.‏

كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، كانبيته ملصقا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلميؤذونه وهو في بيته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بنحمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلاالحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاةوهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول اللهصلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله صلى اللهعليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه،ثم يقول‏:‏ ‏(‏يا بني عبد مناف، أي جوار هذا‏؟‏‏)‏ ثم يلقيه في الطريق‏.‏

وازداد عقبة بن أبي مُعَيْط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد اللهبن مسعود رضي الله عنه‏:‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى عند البيت،وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض‏:‏ أيكم يجىء بسَلاَ جَزُوربني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم ‏[‏وهو عقبة بنأبي معيط‏]‏ فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي وضع على ظهره بين كتفيه،وأنا أنظر، لا أغنى شيئًا، لو كانت لي منعة، قال‏:‏ فجعلوا يضحكون، ويحيلبعضهم على بعضهم ‏[‏أي يتمايل بعضهم على بعض مرحًا وبطرًا‏]‏ ورسول اللهصلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره،فرفع رأسه، ثم قال‏:‏ ‏[‏اللهم عليك بقريش‏]‏ ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذدعا عليهم، قال‏:‏ وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى‏:‏‏(‏اللّهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليدبن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط‏)‏ وعد السابع فلم نحفظه فوالذينفسى بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى فيالقَلِيب، قليب بدر‏.‏

وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه‏.‏وفيه نزل‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ ‏[‏سورةالهمزة‏:‏1]‏ قال ابن هشام‏:‏ الهمزة‏:‏ الذي يشتم الرجل علانية، ويكسرعينيه، ويغمز به‏.‏ واللمزة‏:‏ الذي يعيب الناس سرًا، ويؤذيهم‏.‏

أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين‏.‏ وجلس عقبة مرةإلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيًا أنبه وعاتبه،وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبي بن خلفنفسه فت عظمًا رميمًا ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليهوسلم‏.‏

وكان الأخنس بن شَرِيق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلموقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى‏:‏‏{‏وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍمَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏‏[‏القلم‏:‏10‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وكان أبو جهل يجىء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منهالقرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، ويؤذى رسولالله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالًا بمافعل، فخورًا بما ارتكب من الشر، كأن ما فعل شيئًا يذكر، وفيه نزل‏:‏‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏31‏]‏، وكان يمنع النبيصلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلى في الحرم، ومرة مر بهوهو يصلى عند المقام فقال‏:‏ يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ لهرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال‏:‏ يا محمد، بأي شىءتهددنى‏؟‏ أما والله إني لأكثر هذا الوادى ناديًا‏.‏ فأنزل الله‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏17،18‏]‏‏.‏ وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهويقول له‏:‏‏{‏أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى‏}‏‏[‏القيامة‏:‏34، 35‏]‏ فقال عدو الله‏:‏ أتوعدنى يا محمد‏؟‏ والله لاتستطيع أنت ولا ربك شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها‏.‏

ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيمابعد‏.‏ أخرج مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ يعفر محمد وجهه بينأظهركم‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم، فقال‏:‏ واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن علىرقبته، ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، زعمليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، فقالوا‏:‏ مالك يا أبا الحكم‏؟‏ قال‏:‏ إن بينى وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحةً،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو دنا منى لاختطفته الملائكةعضوًا عضوًا‏)‏‏.‏

هذه صورة مصغرة جدًا لما كان يتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلموالمسلمون من الظلم والخسف والجور على أيدى طغاة المشركين، الذين كانوايزعمون أنهم أهل الله وسكان حرمه‏.‏

وكان من مقتضيات هذه الظروف المتأزمة أن يختار رسول الله صلى الله عليهوسلم موقفًا حازمًا ينقذ به المسلمين عما دهمهم من البلاء، ويخفف وطأتهبقدر المستطاع، وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوتين حكيمتين كانلهما أثرهما في تسيير الدعوة وتحقيق الهدف، وهما‏:‏

1 اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومى مركزا للدعوة ومقرًا للتربية‏.‏

2 أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة‏.

*دار الأرقم :

كانت هذه الدار في أصل الصفا، بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارهارسول الله صلى الله عليه وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلو عليهمآيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدى المسلمون عبادتهموأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل منيدخل في الإسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة‏.‏

ومما لم يكن يشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اجتمع بالمسلمينعلنا لحاول المشركون بكل ما عندهم من القسوة والغلظة أن يحولوا بينه وبينما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب والحكمة، وربما أفضى ذلك إلىمصادمة الفريقين، بل قد وقع ذلك فعلًا‏.‏ فقد ذكر ابن إسحاق أن أصحاب رسولالله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرًا،فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلًافسال دمه، وكان أول دم هريق في الإسلام‏.‏

ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم،فكان من الحكمة السريةُ والاختفاء، فكان عامة الصحابة يُخْفُون إسلامهموعبادتهم واجتماعهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوةوالعبادة بين ظهرإني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شىء، ولكن كان يجتمع معالمسلمين سرًا؛ نظرًا لصالحهم وصالح الإسلام‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#13

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الهجرة الأولى إلى الحبشة :

كانت بداية الاعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأتضعيفة، ثم لم تزل تشتد يومًا فيومًا وشهرًا فشهرا، حتى تفاقمت في أواسطالسنة الخامسة، ونبا بهم المقام في مكة، وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم منهذا العذاب الأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيلالهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِيهَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّىالصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏10]‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصْحَمَة النجاشى ملك الحبشةملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًابدينهم من الفتن‏.‏

وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة‏.‏ كانمكونًا من اثنى عشر رجلًا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجتهرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلمفيهما‏:‏ ‏(‏إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهماالسلام‏)‏

كان رحيل هؤلاء تسللًا في ظلمة الليل حتى لا تفطن لهم قريش خرجوا إلىالبحر ويمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهمإلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطئكانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار‏.

*سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين :


وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وفيه جمعكبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورةالنجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرينعلى ما تواصى به بعضهم بعضًا،من قولهم‏:‏ ‏{‏لَا تَسْمَعُوا لِهَذَاالْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏26]‏فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي خلاب، وكان أروعكلام سمعوه قط، أخذ مشاعرهم، ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إلا وهو مصغإليه، لا يخطر بباله شىء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارعتطير لها القلوب، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا‏}‏‏[‏النجم‏:‏62‏]‏ ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدًا‏.‏ وفيالحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين،فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين‏.‏

وسَقَطَ في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لَوَّى زمامهم، فارتكبواعين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوموالعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبواعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمةتقدير، وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولهم‏:‏ ‏(‏تلكالغرانيق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى‏)‏، جاءوا بهذا الإفك المبين ليعتذرواعن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغرب هذا من قوم كانوايألفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء‏.‏

وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تمامًا عن صورتهالحقيقية، بلغهم أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة،فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلىالحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل منقريش‏.‏

ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم،فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسولالله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشةمرة أخرى‏.‏

*الهجرة الثانية إلى الحبشة :


واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرةالثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أنالمسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبلأن يدركوا‏.‏

وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثماني عشرة أوتسع عشرة امرأة‏.

*مكيدة قريش بمهاجري الحبشة :

عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلينجلدين لبيبين، وهما‏:‏ عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة قبل أنيسلما وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساقالرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجججججججججججج التي يطرد بها أولئكالمسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضراإلى النجاشي، وقدما له الهديا ثم كلماه فقالا له‏:‏

أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولميدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثناإليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهمأعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه‏.‏

وقالت البطارقة‏:‏ صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم‏.‏

ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا‏.‏فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًاما كان‏.‏ فقال لهم النجاشي‏:‏ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولمتدخلوا به في دينى ولا دين أحد من هذه الملل ‏؟‏

قال جعفر بن أبي طالب وكان هو المتكلم عن المسلمين‏:‏ أيها الملك كناقومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطعالأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعثالله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللهلنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارةوالأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار،والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مالاليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنابالصلاة والزكاة والصيام فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه، وآمنا به،واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك بهشيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا،فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللهتعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقواعلينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك،ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك‏.‏

فقال له النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به عن الله من شيء‏؟‏ فقال له جعفر‏:‏نعم‏.‏ فقال له النجاشي‏:‏ فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهمحين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي‏:‏ إن هذا والذي جاء به عيسىليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادونيخاطب عمرو بن العاص وصاحبه فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد اللهبن أبي ربيعة‏:‏ والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم‏.‏ فقال لهعبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا،ولكن أصر عمرو على رأيه‏.‏

فلما كان الغد قال للنجاشي‏:‏ أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريمقولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا،ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال لهجعفر‏:‏ نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو عبد اللهورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول‏.‏

فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال‏:‏ والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتهذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال‏:‏ وإن نَخَرْتُم والله‏.‏

ثم قال للمسلمين‏:‏ اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي والشيوم‏:‏ الآمنون بلسانالحبشة من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى دَبْرًامن ذهب وإني آذيت رجلًا منكم والدبر‏:‏ الجبل بلسان الحبشة‏.‏

ثم قال لحاشيته‏:‏ ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فوالله ما أخذالله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيفأطيعهم فيه‏.‏

قالت أم سلمة التي تروى هذه القصة‏:‏ فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار‏.‏

هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانتبعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين‏.‏ ولكن الأسئلة والأجوبةالتي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادةالثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا، ثم إن تلكالأسئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي‏.

*الشدة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطواغضبًا، وكادوا يتميزون غيظًا، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين،ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفاتتدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليستأصلواجذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، حسب زعمهم‏.‏

أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدًا، وكانواإما ذوى شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهمويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لميسلموا كل السلامة من الأذى والخسف والجور‏.‏

وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلى ويعبد الله أمام أعينالطغاة، ويدعو إلى الله سرًا وجهرًا لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يصرفه عنهشيء؛ إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالىبقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏94‏]‏، وبذلك كان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا، ولميكن في الظاهر ما يحول بينهم وبين ما يريدون إلا ما كان له صلى الله عليهوسلم من الحشمة والوقار، وما كان لأبي طالب من الذمة والاحترام، وما كانوايخافونه من مغبة سوء تصرفاتهم، ومن اجتماع بني هاشم عليهم، إلا أن كل ذلكلم يعد له أثره المطلوب في نفوسهم؛ إذ بدءوا يستخفون به منذ شعروا بانهياركيانهم الوثنى وزعامتهم الدينية أمام دعوته صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومما روت لنا كتب السنة والسيرة من الأحداث التي تشهد القرائن بأنها وقعتفي هذه الفترة‏:‏ أن عتيبة بن أبي لهب أتى يومًا رسول الله صلى الله عليهوسلم فقال‏:‏ أنا أكفر ب ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏1]‏وبالذي ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏8‏]‏ ثم تسلط عليهبالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم، إلا أن البزاق لميقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏اللهم سلطعليه xxxًا من كلابك‏)‏، وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فقد خرجعتيبة إثر ذلك في نفر من قريش، فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بهمالأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول‏:‏ يا ويل أخي هو والله آكلى كما دعامحمد علىّ، قتلنى وهو بمكة، وأنا بالشام، ثم جعلوه بينهم، وناموا من حوله،ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه، فضغم رأسه‏.‏

ومنها‏:‏ ما ذكر أن عقبة بن أبي مُعَيْط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان‏.‏

ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابنإسحاق عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال‏:‏ حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر،فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ ما رأينا مثل ما صبرناعليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلعرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهمطائفًا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مربهم الثالثة فغمزوه بمثلها‏.‏ فوقف ثم قال‏:‏ ‏(‏أتسمعون يا معشر قريش،أما والذي نفسى بيده، لقد جئتكم بالذبح‏)‏، فأخذت القوم كلمته، حتى مامنهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن مايجد، ويقول‏:‏ انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولًا‏.‏

فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبةرجل واحد وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكردونه، وهو يبكى ويقول‏:‏ أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله‏؟‏ ثم انصرفواعنه، قال ابن عمرو‏:‏ فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط‏.‏ انتهيملخصًا‏.‏

وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال‏:‏ سألت ابن عمرو بن العاص‏:‏أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ بيناالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط،فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه،ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ أتقتلون رجلًا أن يقول ربيالله‏؟‏‏.‏

وفي حديث أسماء‏:‏ فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال‏:‏ أدرك صاحبك، فخرج منعندنا وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول‏:‏ أتقتلون رجلًا أن يقول ربيالله‏؟‏ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئًا منغدائره إلا رجع معنا‏.‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#14

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* إسلام حمزة رضي الله عنه :

خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق، وهوإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلم في أواخر السنة السادسة منالنبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذى الحجة‏.‏

وسبب إسلامه‏:‏ أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عندالصفا فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثمضربه أبو جهل بحجر في رأسه فَشَجَّهُ حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلىنادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعَان فيمسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القَنَص مُتَوَشِّحًا قوسه،فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة وكان أعز فتى في قريشوأشده شكيمة فخرج يسعى، لم يقف لأحد؛ معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به،فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له‏:‏ يا مُصَفِّرَ اسْتَه، تشتم ابنأخي وأنا على دينه ‏؟‏ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بنيمخزوم حى أبي جهل وثار بنو هاشم حي حمزة فقال أبو جهل‏:‏ دعوا أبا عمارة،فإني سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا‏.‏

وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل، أبي أن يهان مولاه، ثم شرح الله صدره فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز‏.

* إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

وخلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقًاوإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذى الحجة سنة ستمن النبوة‏.‏ بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه وكان النبي صلىالله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه‏.‏ فقد أخرج الترمذى عن ابنعمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليهوسلم قال‏:‏ ‏(‏اللّهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك‏:‏ بعمر بن الخطابأو بأبي جهل بن هشام‏)‏ فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه‏.‏

وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزولالإسلام في قلبه كان تدريجيًا، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلىما كان يتمتع به رضي الله عنه من العواطف والمشاعر‏.‏

كان رضي الله عنه معروفًا بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقى المسلمونمنه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامهللتقاليد التي سنها الآباء والأجداد وتحمسه لها، ثم إعجابه بصلابةالمسلمين، وباحتمالهم البلاء في سبيل العقيدة، ثم الشكوك التي كانت تساورهكأي عاقل في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ماإن يَثُور حتى يَخُور‏.‏

وخلاصة الروايات مع الجمع بينها في إسلامه رضي الله عنه‏:‏ أنه التجأ ليلةإلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلىالله عليه وسلم قائم يصلي، وقد استفتح سورة ‏{‏الْحَاقَّةُ‏}‏،فجعل عمريستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، قال‏:‏ فقلت أي في نفسي‏:‏ هذا واللهشاعر، كما قالت قريش، قال‏:‏ فقرأ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍوَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40،41‏]‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏‏{‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًامَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ إلى آخر السورة‏[‏الحاقة‏:42، 43‏]‏ ‏.‏ قال‏:‏ فوقع الإسلام في قلبي‏.‏

كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية،وعصبية التقليد، والتعاظم بدين الآباء هي غالبة على مخ الحقيقة التي كانيتهمس بها قلبه، فبقى مجدًا في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذييكمن وراء هذه القشرة‏.‏

وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرجيومًا متوشحًا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيمبن عبد الله النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزومفقال‏:‏ أين تعمد يا عمر‏؟‏ قال‏:‏ أريد أن أقتل محمدًا‏.‏ قال‏:‏ كيفتأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدًا‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ ما أراكإلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه، قال‏:‏ أفلا أدلك على العجب ياعمر‏!‏ إن أختك وخَتَنَكَ قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمردامرًا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها‏:‏ ‏[‏طه‏]‏يقرئهما إياها وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن فلما سمع خباب حس عمرتوارى في البيت، وسترت فاطمة أخت عمر الصحيفة‏.‏ وكان قد سمع عمر حين دنامن البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال‏:‏ ما هذه الهينمة التيسمعتها عندكم‏؟‏ فقالا‏:‏ ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا‏.‏ قال‏:‏ فلعلكماقد صبوتما‏.‏ فقال له ختنه‏:‏ يا عمر، أرأيت إن كان الحق في غير دينك‏؟‏فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا‏.‏ فجاءت أخته فرفعته عن زوجها،فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها فقالت،وهي غضبى‏:‏ يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله،وأشهد أن محمدًا رسول الله‏.‏

فلما يئس عمر، ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال‏:‏ أعطونى هذاالكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته‏:‏ إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون،فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمنالرحيم‏}‏ فقال‏:‏ أسماء طيبة طاهرة‏.‏ ثم قرأ ‏[‏طه‏]‏ حتى انتهي إلىقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِيوَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14]‏ فقال‏:‏ ما أحسن هذاالكلام وأكرمه‏؟‏ دلوني على محمد‏.‏

فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال‏:‏ أبشر يا عمر، فإني أرجو أنتكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس‏:‏ ‏(‏اللّهم أعزالإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام‏)‏، ورسول الله صلى الله عليهوسلم في الدار التي في أصل الصفا‏.‏

فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقام رجلينظر من خلل الباب، فرآه متوشحًا السيف، فأخبر رسول الله صلى الله عليهوسلم، واستجمع القوم، فقال لهم حمزة‏:‏ ما لكم ‏؟‏ قالوا‏:‏ عمر‏؟‏فقال‏:‏ وعمر‏؟‏ افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإنكان جاء يريد شرًا قتلناه بسيفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحىإليه، فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف،ثم جبذه جبذة شديدة فقال‏:‏ ‏(‏أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بكمن الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة‏؟‏ اللهم، هذا عمر بن الخطاب،اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب‏)‏، فقال عمر‏:‏ أشهد أن لا إله إلاالله، وأنك رسول الله‏.‏ وأسلم، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهلالمسجد‏.‏

كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بينالمشركين، وشعورا لهم بالذلة والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفًاوسرورًا‏.‏

روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال‏:‏ لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسولالله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال‏:‏ قلت‏:‏ أبو جهل، فأتيت حتى ضربتعليه بابه، فخرج إلىّ، وقال‏:‏ أهلًا وسهلًا، ما جاء بك‏؟‏ قال‏:‏ جئتلأخبرك إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به‏.‏ قال‏:‏ فضربالباب في وجهي، وقال‏:‏ قبحك الله، وقبح ما جئت به‏.‏

وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ كان الرجل إذا أسلم تعلق بهالرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت أي حين أسلمت إلى خالى وهو العاصى بن هاشمفأعلمته فدخل البيت، قال‏:‏ وذهبت إلى رجل من كبراء قريش لعله أبو جهلفأعلمته فدخل البيت‏.‏

وفي رواية لابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ لما أسلم عمر بن الخطابلم تعلم قريش بإسلامه، فقال‏:‏ أي أهل مكة أنشأ للحديث‏؟‏ فقالوا‏:‏ جميلبن معمر الجمحى‏.‏ فخرج إليه وأنا معه، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه، فقال‏:‏ياجميل، إني قد أسلمت، قال‏:‏ فو الله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدًا إلىالمسجد فنادى ‏[‏بأعلى صوته‏]‏ أن‏:‏ يا قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ‏.‏فقال عمر وهو خلفه‏:‏ كذب، ولكنى قد أسلمت ‏[‏وآمنت بالله وصدقت رسوله‏]‏،فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وطَلَحأي أعيا عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول‏:‏ افعلوا ما بدا لكم،فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا‏.‏

وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله‏.‏روى البخاري عن عبد الله بنعمر قال‏:‏بينما هو أي عمر في الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائل السهمىأبو عمرو،وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنافي الجاهلية فقال له‏:‏ ما لك‏؟‏ قال‏:‏ زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت،قال‏:‏ لا سبيل إليك بعد أن قالها أمنت فخرج العاص، فلقى الناس قد سال بهمالوادي، فقال‏:‏ أين تريدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ،قال‏:‏ لا سبيل إليه، فَكَرَّ الناس‏.‏ وفي لفظ في رواية ابن إسحاق‏:‏والله، لكأنما كانوا ثوبًا كُشِطَ عنه‏.‏

هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابنعباس قال‏:‏ سألت عمر بن الخطاب‏:‏ لأي شيء سميت الفاروق‏؟‏ قال‏:‏ أسلمحمزة قبلى بثلاثة أيام ثم قص عليه قصة إسلامه‏.‏ وقال في آخره‏:‏ قلت أيحين أسلمت‏:‏ يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا‏؟‏ قال‏:‏‏(‏بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم‏)‏، قال‏:‏قلت‏:‏ ففيم الاختفاء‏؟‏ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزةفي أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد،قال‏:‏ فنظرت إلىّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسمانيرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏الفاروق‏)‏ يومئذ‏.‏

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول‏:‏ ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر‏.‏

وعن صهيب بن سنان الرومى رضي الله عنه قال‏:‏ لما أسلم عمر ظهر الإسلام،ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممنغلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به‏.‏

وعن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر‏.



* ممثل قريش بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم :

وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضيالله عنهما أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في تنكيلهمبالمسلمين، وغيروا تفكيرهم في معاملتهم مع النبي صلى الله عليه وسلموالمؤمنين، واختاروا أسلوب المساومات وتقديم الرغائب والمغريات، ولم يدرهؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دينالله والدعوة إليه، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال‏:‏ حدثتأن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا وهو في نادى قريش، ورسول اللهصلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده‏:‏ يا معشر قريش، ألا أقوم إلىمحمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكفعنا‏؟‏ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا‏:‏ بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه،فقام إليه عتبة،حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يابنأخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب،وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت بهآلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًاتنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏قل يا أبا الوليد أسمع‏)‏‏.‏

قال‏:‏ يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنالك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك عليناحتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذاالذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيهأموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أوكما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منهقال‏:‏ ‏(‏أقد فرغت يا أبا الوليد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فاسمعمنى‏)‏، قال‏:‏أفعل، فقال‏:‏ ‏{‏ بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌمِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًاعَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَأَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍمِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏1‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ثم مضى رسول اللهفيها، يقرؤها عليه‏.‏ فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهرهمعتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىالسجدة منها فسجد ثم قال‏:‏ ‏(‏قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنتوذاك‏)‏‏.‏

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض‏:‏ نحلف بالله لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الذي ذهب به‏.‏ فلما جلس إليهم قالوا‏:‏ ما وراءك ياأبا الوليد‏؟‏ قال‏:‏ ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، واللهما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوهابي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقولهالذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر علىالعرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا‏:‏ سحرك واللهيا أبا الوليد بلسانه، قال‏:‏ هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم‏.‏

وفي روايات أخرى‏:‏ أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى الله عليه وسلمقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةًمِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏13‏]‏ قال‏:‏ حسبك، حسبك،ووضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده بالرحم أن يكف،وذلك مخافة أن يقع النذير، ثم قام إلى القوم فقال ما قال‏.


يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#15

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

رؤساء قريش يفاوضون رسول الله صلى الله عليه وسلم :

وكأن رجاء قريش لم ينقطع بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة علىاقتراحاته؛ لأنه لم يكن صريحًا في الرفض أو القبول، بل تلا عليه النبي صلىالله عليه وسلم آيات لم يفهمها عتبة، ورجع من حيث جاء، فتشاور رؤساء قريشفيما بينهم وفكروا في كل جوانب القضية، ودرسوا كل المواقف بروية وتريث، ثماجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى اللهعليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعًا يرجو خيرًا، فلما جلس إليهم قالوا له مثلما قال عتبة، وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة‏.‏ وكأنهم ظنوا أنهلم يثق بجدية هذا العرض حين عرض عتبة وحده، فإذا عرضوا هم أجمعون يثقويقبل، ولكن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بي ماتَقُولُون، ما جِئْتُكُم بما جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولاالشَّرف فيكم، ولا المُلْكَ عليكم، ولكنّ الله بَعَثَنِى إلَيْكُمرَسُولًا، وَ أَنْزَلَ علىَّ كِتابًا، وأَمَرَنِى أنْ أَكُونَ لَكُمبَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ،فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّى ما جِئْتُكُم بِه فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنياوالآخرة، وإنْ تَرُدُّوا علىّ أَصْبِر لأمْرِ الله ِ حتّى يَحْكُم الله ُبَيْنِى وَ بَيْنَكُم‏)‏‏.‏ أو كما قال‏.‏


فانتقلوا إلى نقطة أخرى، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسير عنهم الجبال،ويبسط لهم البلاد، ويفجر فيها الأنهار، ويحيى لهم الموتى ولا سيما قصى بنكلاب فإن صدقوه يؤمنون به‏.‏ فأجاب بنفس ما سبق من الجواب‏.‏


فانتقلوا إلى نقطة ثالثة، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملكًا يصدقه،ويراجعونه فيه، وأن يجعل له جنات وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، فأجابهم بنفس الجواب‏.‏


فانتقلوا إلى نقطة رابعة، وطلبوا منه العذاب‏:‏ أن يسقط عليهم السماءكسفًا، كما يقول ويتوعد، فقال‏:‏ ‏(‏ذلك إلى الله، إن شاء فعل‏)‏‏.‏فقالوا‏:‏ أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك ونطلب منك، حتى يعلمك ماتراجعنا به، وما هو صانع بنا إذا لم نقبل‏.‏


وأخيرًا هددوه أشد التهديد، وقالوا‏:‏أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتىنهلكك أو تهلكنا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرف إلىأهله حزينًا أسفا لما فاته ما طمع من قومه‏.‏


*عزم أبي جهل على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم :


ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم خاطبهم أبو جهل في كبريائهوقال‏:‏ يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبي إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتمآبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ماأطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى،فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا‏:‏ والله لا نسلمك لشيءأبدًا، فامض لما تريد‏.‏


فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليهوسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي،وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسولالله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنامنه رجع منهزمًا ممتقعًا لونه، مرعوبًا قد يبست يداه على حجره، حتى قذفالحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له‏:‏ ما لك يا أبا الحكم‏؟‏قال‏:‏ قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونهفَحْلٌ من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هَامَتِه، ولا مثل قَصَرَتِه ولاأنيابه لفحل قط، فَهَمَّ بى أن يأكلنى‏.‏


قال ابن إسحاق‏:‏ فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه‏)‏


*مساومات وتنازلات :


ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الإغراء والترغيب، والتهديدوالترهيب، وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك، تيقظت فيهمرغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم عما هم فيه، ولم يكونوا يجزمون أن النبيصلى الله عليه وسلم على باطل، بل كانوا كما قال الله تعالى ‏{‏لَفِي شَكٍّمِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏14‏]‏‏.‏ فرأوا أن يساوموه صلى الله عليهوسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ما هم عليه،ويطالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه، وظنوا أنهم بهذاالطريق سيصيبون الحق، إن كان ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلمحقًا‏.‏


روى ابن إسحاق بسنده، قال‏:‏ اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوفبالكعبة الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأميةبن خلف والعاص بن وائل السهمى وكانوا ذوى أسنان في قومهم فقالوا‏:‏ يامحمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإنكان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبدخيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏قُلْيَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ السورةكلها‏.‏


وأخرج عَبْدُ بن حُمَيْد وغيره عن ابن عباس أن قريشًا قالت‏:‏ لو استلمتآلهتنا لعبدنا إلهك‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَاالْكَافِرُونَ‏}‏ السورة كلها وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشًا قالوالرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة،فأنزلالله‏:‏‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَاالْجَاهِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏64‏]‏


ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأسقريش كل اليأس، بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى اللهعليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا‏:‏ ‏{‏ائْتِبِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ‏}‏، فقطع الله هذا السبيل أيضًابإنزال ما يرد به النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّمَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍعَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏15‏]‏ ونبه على عظم خطورة هذا العمل بقوله‏:‏‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَلِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاًوَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًاقَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏73‏:‏ 75‏]‏‏.‏


حيرة قريش وتفكيرهم الجاد واتصالهم باليهود


أظلمت أمام المشركين السبل بعد فشلهم في هذه المفاوضات والمساوماتوالتنازلات، واحتاروا فيما يفعلون، حتى قام أحد شياطينهم‏:‏ النضر بنالحارث، فنصحهم قائلًا‏:‏ يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتمله بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكمحديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، و جاءكم بما جاءكمبه، قلتم‏:‏ ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونَفْثَهموعَقْدَهم، وقلتم‏:‏ كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنةوتَخَالُجَهم وسمعنا سَجَعَهُم، وقلتم‏:‏ شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قدرأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هَزَجَه ورَجَزَه، وقلتم‏:‏ مجنون، لاوالله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولاتخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمرعظيم‏.‏


وكأنهم لما رأوا صموده صلى الله عليه وسلم في وجه كل التحديات، ورفضه كلالمغريات، وصلابته في كل مرحلة مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفافومكارم الأخلاق قويت شبهتهم في كونه رسولًا حقًا، فقرروا أن يتصلواباليهود حتى يتأكدوا من أمره صلى الله عليه وسلم، فلما نصحهم النضر بنالحارث بما سبق كلفوه مع آخر أو آخرين ليذهب إلى يهود المدينة، فأتاهمفقال أحبارهم‏:‏ سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فهو نبى مرسل، وإلا فهو متقول؛سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول،ما كان أمرهم‏؟‏ فإن لهم حديثًا عجبًا، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه‏؟‏ وسلوه عنالروح، ما هي‏؟‏


فلما قدم مكة قال‏:‏ جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، وأخبرهم بما قالهاليهود، فسألت قريش رسول صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعدأيام سورة الكهف، فيها قصة أولئك الفتية، وهم أصحاب الكهف، وقصة الرجلالطواف، وهو ذو القرنين، ونزل الجواب عن الروح في سورة الإسراء‏.‏ وتبينلقريش أنه صلى الله عليه وسلم على حق وصدق، ولكن أبي الظالمون إلاكفورًا‏.‏


هذه نبذة خفيفة مما واجه به المشركون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقد مارسوا كل ذلك جنبا إلى جنب، متنقلين من طور إلى طور، ومن دور إلىدور‏.‏ فمن شدة إلى لين، ومن لين إلى شدة، ومن جدال إلى مساومة، ومنمساومة إلى جدال، ومن تهديد إلى ترغيب، ومن ترغيب إلى تهديد، كانوا يثورونثم يخورون، ويجادلون ثم يجاملون، وينازلون ثم يتنازلون، ويوعدون ثميرغبون، كأنهم كانوا يتقدمون ويتأخرون، لا يقر لهم قرار، ولا يعجبهمالفرار، وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط الدعوة الإسلامية، ولَمَّ شَعْثِالكفر، ولكنهم بعد بذل كل الجهود واختبار كل الحيل عادوا خائبين، ولم يبقأمامهم إلا السيف، والسيف لا يزيد الفرقة إلا شدة، ولا ينتج إلا عن تناحريستأصل الشأفة، فاحتاروا ماذا يفعلون‏.‏


*موقف أبي طالب وعشيرته :

أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى الله عليه وسلملهم ليقتلوه، ثم رأي في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتلهوإخفار ذمته مثل ما فعله عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام وعمر بنالخطاب جمع بني هاشم وبني المطلب، ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي صلى اللهعليه وسلم، فأجابوه إلى ذلك كلهم مسلمهم وكافرهم حَمِيَّةً للجوار العربي،وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة‏.‏ إلا ما كان من أخيه أبي لهب، فإنهفارقهم، وكان مع قريش‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#16

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

المقاطعة العامة



*ميثاق الظلم والعدوان :

زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم الحيل، ووجدوا بني هاشم وبني المطلبمصممين على حفظ نبى الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، كائنًا ما كان،فاجتمعوا في خيف بني كنانة من وادى المُحَصَّبِ فتحالفوا على بني هاشموبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولايدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليهوسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق ‏(‏ألا يقبلوا من بنيهاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل‏)‏‏.‏ قال ابنالقيم‏:‏ يقال‏:‏ كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال‏:‏ نضر بنالحارث، والصحيح أنه بَغِيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله صلىالله عليه وسلم فَشُلَّتْ يده‏.‏

تم هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنوالمطلب، مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب وحبسوا في شعب أبي طالب، وذلك فيمايقال‏:‏ ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة‏.‏ وقد قيل غير ذلك‏.

*ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب :

واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعامًايدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلىأكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهميتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، وكانوا لا يخرجون منالشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التيترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتىلا يستطيعون شراءها‏.‏

وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحًا إلى عمته خديجة رضي الله عنها وقد تعرضله مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البخترى، ومكنه من حملالقمح إلى عمته‏.‏

وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناسمضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرىذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمهفاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتى بعضفرشهم‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم،فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام، وقد أسلفنا ما كان يأتى به أبو لهب‏.

*نقض صحيفة الميثاق

مر عامان أو ثلاثة أعوام والأمر على ذلك، وفي المحرم سنة عشر من النبوةنقضت الصحيفة وفك الحصار؛ وذلك أن قريشًا كانوا بين راض بهذا الميثاقوكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهًا لها‏.‏

وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤى وكان يصل بني هاشم فيالشعب مستخفيًا بالليل بالطعام فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومىوكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب وقال‏:‏ يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام،وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم‏؟‏ فقال‏:‏ ويحك، فما أصنع وأنا رجلواحد‏؟‏ أما والله لو كان معى رجل آخر لقمت في نقضها، قال‏:‏ قد وجدترجلًا‏.‏ قال‏:‏ فمن هو‏؟‏ قال‏:‏ أنا‏.‏ قال له زهير‏:‏ ابغنا رجلًاثالثًا‏.‏

فذهب إلى المطعم بن عدى، فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف،ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم‏:‏ ويحك، ماذاأصنع‏؟‏ إنما أنا رجل واحد، قال‏:‏ قد وجدت ثانيًا، قال‏:‏ من هو‏؟‏قال‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ ابغنا ثالثًا‏.‏ قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ قال‏:‏ من هو‏؟‏قال‏:‏ زهير بن أبي أمية، قال‏:‏ ابغنا رابعًا‏.‏

فذهب إلى أبي البخترى بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمطعم، فقال‏:‏ وهلمن أحد يعين على هذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ من هو‏؟‏ قال زهير بن أبيأمية، والمطعم بن عدى، وأنا معك، قال‏:‏ ابغنا خامسًا‏.‏

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم،فقال له‏:‏ وهل على هذا الأمر الذي تدعونى إليه من أحد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ثمسمى له القوم، فاجتمعوا عند الحَجُون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة،وقال زهير‏:‏ أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم‏.‏

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثمأقبل على الناس، فقال‏:‏ يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشمهلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم‏؟‏ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفةالقاطعة الظالمة‏.‏

قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد‏:‏ كذبت، والله لا تشق‏.‏

فقال زمعة بن الأسود‏:‏ أنت والله أكذب، مارضينا كتابتها حيث كتبت‏.‏

قال أبو البخترى‏:‏ صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به‏.‏

قال المطعم بن عدى‏:‏ صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها‏.‏

وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ هذا أمر قضى بليل، وتُشُووِر فيه بغير هذا المكان‏.‏

وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسولهصلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميعما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرجإلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينابينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا‏:‏ قدأنصفت‏.‏

وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفةليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ‏(‏باسمك اللهم‏)‏، وما كان فيها مناسم الله فإنها لم تأكله‏.‏

ثم نقض الصحيفة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقدرأي المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر الله عنهم‏{‏وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ‏}‏‏[‏القمر‏:‏2‏]‏ أعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفرًا إلى كفرهم ‏.

*آخر وفد قريش إلي أبي طالب :

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته، وقريشوإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغطعلى المسلمين والصد عن سبيل الله، وأما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابنأخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمةالمتوالية منذ سنوات لاسيما حصار الشعب قد وهنت وضعفت مفاصله وكسرت صلبه،فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلحبه، وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر علىابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم بينيديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك‏.‏ فقاموا بوفادة هي آخروفادتهم إلى أبي طالب‏.‏

قال ابن إسحاق وغيره‏:‏ لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشًا ثقله، قالت قريشبعضها لبعض‏:‏ إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريشكلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، واللهما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ‏:‏ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكونإليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون‏:‏ تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه‏.‏

مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة، وشيبة بنربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال منأشرافهم وهم خمسة وعشرون تقريبًا فقالوا‏:‏ يا أبا طالب، إنك منا حيث قدعلمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك،فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعهودينه، فبعث أبو طالب، فجاءه فقال‏:‏ يابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قداجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا له وعرضوا عليه منعدم تعرض كل فريق للآخر‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بهاالعجم‏)‏ ، وفي لفظ أنه قال مخاطبًا لأبي طالب‏:‏ ‏(‏إني أريدهم على كلمةواحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية‏)‏، وفيلفظ آخر قال‏:‏ ‏(‏أي عم، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏وإلام تدعوهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بهاالعرب، ويملكون بها العجم‏)‏، ولفظ رواية ابن إسحاق‏:‏ ‏(‏كلمة واحدةتعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم‏)‏، فلما قال هذه المقالةتوقفوا وتحيروا ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذهالغاية والحد‏.‏ ثم قال أبو جهل‏:‏ ما هي‏؟‏ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها،قال‏:‏ تقولون‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه‏)‏‏.‏فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا‏:‏ أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًاواحدًا‏؟‏ إن أمرك لعجب‏.‏

ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون،فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا‏.‏

وفي هؤلاء نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِالَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِممِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُممُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌأَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌوَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىآلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِيالْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏1‏:‏ 7‏]‏‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#17

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

عام الحزن




*وفاة أبي طالب :

ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنةعشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر‏.‏ وقيل‏:‏ توفي في رمضانقبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام‏.‏

وفي الصحيح عن المسيب‏:‏ أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلىالله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال‏:‏ ‏(‏أي عم، قل‏:‏ لا إله إلا الله،كلمة أحاج لك بها عند الله‏)‏ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ ياأبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيءكلمهم به‏:‏ على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لأستغفرن لك ما لم أنه عنه‏)‏، فنزلت‏:‏‏{‏ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّوَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْكَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْأَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏113‏]‏ ونزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصنالذي احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقى علىملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح‏.‏

ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ماأغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هو في ضَحْضَاح مننار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏

وعن أبي سعيد الخدرى أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمهفقال‏:‏ ‏(‏لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغكعبيه‏)‏

*خديجة إلى رحمة الله :

وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام على اختلاف القولين توفيتأم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان فيالسنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسولالله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره‏.‏

إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم،بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه علىإبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر،وتواسيه بنفسها ومالها، يقولرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏آمنت بى حين كفر بى الناس، وصدقتنىحين كذبني الناس، وأشركتنى في مالها حين حرمنى الناس، ورزقنى الله ولدهاوحرم ولد غيرها‏)‏

وفي الصحيح عن أبي هريرة قال‏:‏ أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال‏:‏ يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أوشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة منقَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ‏.



*تراكم الأحزان :

وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على أصحابهحتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتىبلغ بَرْك الغِمَاد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدُّغُنَّة في جواره‏.‏
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزنوالألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليهالمصائب من قومه‏.‏ فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبيطالب، فازداد غمًا على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أنيستجيبوا لدعوته، أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوى ولم يرناصرًا، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه‏.‏


قال ابن إسحاق‏:‏ لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليهوسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاءقريش فنثر على رأسه ترابًا، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدىبناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلميقول لها‏:‏ ‏(‏لا تبكى يابنية، فإن الله مانع أباك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ويقولبين ذلك‏:‏ ‏(‏ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب‏)‏‏.‏

ولأجل توالى مثل هذه الآلام في هذا العام سمى بعام الحزن، وعرف به في السيرة والتاريخ‏.

*الزواج بسودة رضي الله عنها‏‏ :

وفي شوال من هذه السنة سنة 10 من النبوة تزوج رسول الله صلى الله عليهوسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديمًا وهاجرت الهجرة الثانية إلىالحبشة، وكان زوجها السكران بن عمرو، وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرضالحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليهوسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة، وكانت قد وهبتنوبتها لعائشة رضي الله عنها أخيرًا‏.

*عوامل الصبر والثبات :

وهنا يقف الحليم حيران، ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم‏:‏ ما هي الأسبابوالعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى، والحد المعجز منالثبات‏؟‏ كيف صبروا على هذه الاضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجفلها الأفئدة‏؟‏ ونظرًا إلى هذا الذي يتخالج القلوب نرى أن نشير إلى بعضهذه العوامل والأسباب إشارة عابرة بسيطة‏:‏


1 الإيمان بالله‏:‏

إن السبب الرئيسي في ذلك أولًا وبالذات هو الإيمان بالله وحده ومعرفته حقالمعرفة، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش،وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهماكثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت يراها في جنب إيمانه طحالب عائمة فوق سَيْلجارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالى بشيء من تلكالمتاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه، وطراوة إذعانه، وبشاشة يقينه ‏{‏فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَفَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏‏.‏

ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والمصابرة وهي‏:‏

2 قيادة تهوى إليها الأفئدة‏:‏

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية، بلوللبشرية جمعاء يتمتع من جمال الخلق، وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيمالنبيلة، والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب وتتفإني دونه النفوس،وكانت أنصبته من الكمال الذي يحبَّبُ لم يرزق بمثلها بشر‏.‏ وكان على أعلىقمة من الشرف والنبل والخير والفضل‏.‏ وكان من العفة والأمانة والصدق، ومنجميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلًا عن محبيهورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها‏.‏

اجتمع ثلاثة نفر من قريش، وكان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سرًا عنصاحبيه، ثم انكشف سرهم، فسأل أحدهم أبا جهل وكان من أولئك الثلاثة‏:‏ مارأيك فيما سمعت من محمد‏؟‏ فقال‏:‏ ماذا سمعت‏؟‏ تنازعنا نحن وبنو عبدمناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذاتحاذينا على الركب، وكنا كَفَرَسىْ رِهَان قالوا‏:‏ لنا نبى يأتيه الوحىمن السماء، فمتى ندرك هذه‏؟‏ والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه‏.‏

وكان أبو جهل يقول‏:‏ يا محمد، إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزلالله‏:‏‏{‏ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَبِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏33‏]‏‏.‏

وغمزه صلى الله عليه وسلم الكفار يومًا ثلاث مرات فقال في الثالثة‏:‏‏(‏يا معشر قريش، جئتكم بالذبح‏)‏، فأخذتهم تلك الكلمة حتى إن أشدهم عداوةيرفؤه بأحسن ما يجد عنده‏.‏

ولما ألقوا عليه سَلاَ جَزُورٍ وهو ساجد، دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون‏.‏

ودعا على عتبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه حتى إنه حين رأي الأسد قال‏:‏ قتلنى والله محمد وهو بمكة‏.‏

وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل أنا أقتلك إن شاءالله‏)‏، فلما طعن أبيًا في عنقه يوم أحد وكان خدشًا غير كبير كان أبييقول‏:‏ إنه قد كان قال لى بمكة‏:‏ أنا أقتلك، فو الله لو بصق على لقتلنيوسيأتي‏.‏

وقال سعد بن معاذ وهو بمكة لأمية بن خلف‏:‏ لقد سمعت رسول الله صلى اللهعليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إنهم أي المسلمين قاتلوك‏)‏ ففزع فزعًا شديدًا، وعهدألا يخرج عن مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكةليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته‏:‏ يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لكأخوك اليثربي‏؟‏ قال‏:‏ لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا‏.‏

هكذا كان حال أعدائه صلى الله عليه وسلم،أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهممحل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفعإليه اندفاع الماء إلى الحُدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديدإلى المغناطيس‏.‏

فصورته هيولى كل جسم ** ومغناطيس أفئدة الرجال

وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة‏.‏

وطيء أبو بكر بن أبي قحافة يومًا بمكة، وضرب ضربًا شديدًا، دنا منه عتبةبن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبيبكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوهمنزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال‏:‏ ما فعل رسول الله صلىالله عليه وسلم‏؟‏ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أمالخير‏:‏ انظرى أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه،وجعل يقول‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لاعلم لى بصاحبك، فقال‏:‏ اذهبى إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجتحتى جاءت أم جميل فقالت‏:‏ إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت‏:‏ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلىابنك ذهبت، قالت‏:‏ نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنتأم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت‏:‏ والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسقوكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال‏:‏ فما فعل رسول الله صلىالله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ هذه أمك تسمع، قال‏:‏ فلا شيء علىك منها،قالت‏:‏ سالم صالح، فقال‏:‏ أين هو‏؟‏ قالت‏:‏ في دار ابن الأرقم، قال‏:‏فإن لله على ألا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتى رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس خرجتا به، يتكئعليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وسننقل نوادر الحب والتفإني في مواضع شتى من هذا الكتاب، ولا سيما ما وقع في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله‏.‏

3 الشعور بالمسئولية‏:‏

فكان الصحابة يشعرون شعورًا تامًا ما على كواهل البشر من المسئولية الفخمةالضخمة، وأن هذه المسئولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال، فالعواقبالتي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضررًا عما هم فيه منالاضطهاد، وأن الخسارة التي تلحقهم وتلحق البشرية جمعاء بعد هذا الفرار لايقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل‏.‏

4 الإيمان بالآخرة‏:‏

وهو مما كان يقوى هذا الشعور الشعور بالمسئولية فقد كانوا على يقين جازمبأنهم يقومون لرب العالمين، ويحاسبون على أعمالهم دقها وجلها، صغيرهاوكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم،فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه،وكانوا ‏{‏يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىرَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏60‏]‏، وكانوا يعرفون أن الدنيابعذابها ونعيمها لا تساوى جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفةالقوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها؛ حتى لم يكونوا يكترثونلها ويلقون إليها بالًا‏.‏

5 القرآن‏:‏

وفي هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيمالحجججججججججججج والبراهين على صدق مبادئ الإسلام التي كانت الدعوة تدور حولهابأساليب منيعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليهاأعظم وأروع مجتمع بشرى في العالم وهو المجتمع الإسلامى وتثير مشاعرالمسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم مافيه من الحكم ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّايَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُوَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَاللّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏214 ‏]‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنيُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْفَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَصَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1‏:‏ 3‏]‏‏.‏

كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردًا مفحمًا، ولاتبقى لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وَخِيمَة إن أصروا على غيهموعنادهم في جلاء ووضوح، مستدلة بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدلعلى سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدى حق التفهيم والإرشادوالتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين‏.‏

وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون وجمالالربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان مايحنون إليه حنينًا لا يقوم له أي عقبة‏.‏

وكانت في طى هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها ‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمبِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌمُّقِيمٌ‏}‏ ‏[‏ التوبة‏:‏21 ‏]‏، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرةالطغاة الظالمين يحاكمون ويصادرون، ثم ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِعَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏48‏]‏‏.‏

6 البشارات بالنجاح‏:‏

ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهادبل ومن قبله أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إنالدعوة الإسلامية تهدف منذ أول يومها إلى القضاء على الجاهلية الجهلاءونظامها الغاشم، وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على الأرض، والسيطرةعلى الموقف السياسي في العالم لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلىمرضاة الله، وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله‏.‏

وكان القرآن ينزل بهذه البشارات مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ففي تلكالفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم وتقضى علىحياتهم كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهمالذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوالالتي تطابق تمامًا أحوال مسلمى مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضتعنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الصالحينالأرض والديار‏.‏ فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة فيالمستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية‏.‏

وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين، قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْلَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّعَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَأَفَبِعَذَابِن َا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءصَبَاحُ الْمُنذَرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏171‏:‏ 177‏]‏،وقال‏:‏‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏45‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ‏}‏‏[‏ص‏:‏11]‏‏.‏ ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَهَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِيالدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْيَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏41‏]‏‏.‏ وسألوه عن قصة يوسف فأنزل الله فيطيها‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌلِّلسَّائِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏7‏]‏‏.‏ أي فأهل مكة السائلون يلاقون مالاقى إخوانه من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل‏:‏‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْأَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْرَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنبَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏‏[‏إبراهيم‏:‏13، 14‏]‏‏.‏وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان،وكان الكفار يحبون غلبة الفرس لكونهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبةالرومان لكونهم مؤمنين بالله والرسل والوحى والكتب واليوم الآخر، وكانتالفرس يغلبون ويتقدمون، أنزل الله بشارة بغلبة الروم في بضع سنين، ولكنهلم يقتصر على هذه البشارة الواحدة، بل صرح ببشارة أخرى، وهي نصر اللهللمؤمنين حيث قال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِاللَّه‏}‏ ‏[‏الروم‏: ‏4، 5‏]‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونةوأخرى، فكان إذا وافي الموسم، وقام بين الناس في عُكاظ، ومَجَنَّة، وذىالمَجَاز لتبليغ الرسالة، لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب، بل يقول لهم بكلصراحة‏:‏ ‏(‏يأيها الناس، قولوا‏:‏ لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بهاالعرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكًا في الجنة‏)‏‏.‏

وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أرادمساومته على رغائب الدنيا، وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاةوالسلام‏.‏

وكذلك ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، فقدصرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها تدين لهم بها العرب، ويملكونالعجم‏.‏

وقال خباب بن الأرت‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده وهوفي ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت‏:‏ ألا تدعو الله، فقعد،وهو محمر وجهه، فقال‏:‏ ‏(‏لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دونعظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسيرالراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله زاد بيان الراوى والذئب علىغنمه‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ولكنكم تستعجلون‏)‏

ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة،كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأواأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا‏:‏ قد جاءكم ملوكالأرض الذين يرثون كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون‏.‏

وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا، مع ما فيه منالرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابةيرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهممن كل الأرجاء ليست إلا‏:‏ ‏(‏سحابة صيف عن قليل تقشع‏)‏‏.‏

هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذى أرواحهم برغائب الإيمان،ويزكى نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدوبنفوسهم إلى منازل سمو الروح، ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر منسلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسموات، ويذكىجمرة قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى،والصفح الجميل، وقهر النفس‏.‏ فازدادوا رسوخًا في الدين،وعزوفا عنالشهوات، وتفانيًا في سبيل المرضاة، وحنينًا إلى الجنة، وحرصًا على العلم،وفقهًا في الدين، ومحاسبة للنفس، وقهرًا للنزعات وغلبة على العواطف،وتسيطرًا على الثائرات والهائجات، وتقيدًا بالصبر والهدوء والوقار‏.



يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#18

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

المرحلة الثالثة: دعوة الإسلام خارج مكة



*الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف :

في شوال سنة عشر من النبوة ‏[‏في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م‏]‏خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستينميلًا، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا، ومعه مولاه زيد بن حارثة،وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدةمنها‏.‏

فلما انتهي إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد ياليلومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله،وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم‏:‏ هو يَمْرُط ثياب الكعبة ‏[‏أي يمزقها‏]‏إن كان الله أرسلك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك، وقالالثالث‏:‏والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أردعليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى أن أكلمك‏.‏ فقام عنهم رسولالله صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ ‏[‏إذ فعلتم ما فعلتم فاكتمواعني‏]‏‏.‏

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدعأحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا‏:‏ اخرج من بلادنا‏.‏ وأغروا بهسفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتىاجتمع عليه الناس، فوقفوا له سِمَاطَيْن ‏[‏أي صفين‏]‏ وجعلوا يرمونهبالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء‏.‏وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه، ولم يزل بهالسفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميالمن الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى حُبْلَة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار‏.‏ فلما جلس إليه واطمأن، دعابالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقى من الشدة،وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال‏:‏

‏(‏اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهوإني على الناس، ياأرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى‏؟‏ إلى بعيديَتَجَهَّمُنِى‏؟‏ أم إلى عدو ملكته أمري‏؟‏ إن لم يكن بك عليّ غضب فلاأبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات،وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لكالعُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏

فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقالله‏:‏ عَدَّاس، وقالا له‏:‏خذ قطفًا من هذا العنب، واذهب به إلى هذاالرجل‏.‏ فلما وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليهقائلًا‏:‏ ‏(‏باسم الله‏)‏ ثم أكل‏.‏

فقال عداس‏:‏ إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول اللهصلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أي البلاد أنت‏؟‏ وما دينك‏؟‏ قال‏:‏ أنانصراني من أهل نِينَوَى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قريةالرجل الصالح يونس بن مَتَّى‏)‏‏.‏ قال له‏:‏ وما يدريك ما يونس ابنمتى‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذاك أخي، كان نبيًا وأنانبي‏)‏، فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليهيقبلها‏.‏

فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر‏:‏ أما غلامك فقد أفسده عليك‏.‏ فلما جاءعداس قالا له‏:‏ ويحك ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ يا سيدى، ما في الأرض شيء خير منهذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبى، قالا له‏:‏ ويحك يا عداس ،لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه‏.‏

ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائطكئيبًا محزونًا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريلومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة‏.‏

وقد روى البخاري تفصيل القصة بسنده عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي اللهعنها حدثته أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أتى عليك يوم كانأشد عليك من يوم أحد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل،فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنابقَرْنِ الثعالب وهو المسمى بقَرْنِ المنازل فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابةقد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال‏:‏ إن الله قد سمع قولقومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئتفيهم‏.‏ فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال‏:‏ يا محمد، ذلك، فما شئت،إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين أي لفعلت، والأخشبان‏:‏ هما جبلا مكة‏:‏أبو قُبَيْس والذي يقابله، وهو قُعَيْقِعَان قال النبي صلى الله عليهوسلم‏:‏ بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحدهلا يشرك به شيئا‏)‏‏.‏

وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم لا يدرك غوره‏.‏

وأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن قلبه لأجل هذا النصر الغيبىالذي أمده الله عليه من فوق سبع سموات، ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادىنخلة، وأقام فيه أيامًا‏.‏ وفي وادى نخلة موضعان يصلحان للإقامة السَّيْلالكبير والزَّيْمَة لما بهما من الماء والخصب، ولم نقف على مصدر يعين موضعإقامته صلى الله عليه وسلم فيه‏.‏

وخلال إقامته صلى الله عليه وسلم هناك بعث الله إليه نفرًا من الجن ذكرهمالله في موضعين من القرآن‏:‏ في سورة الأحقاف‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَاإِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّاحَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِممُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنبَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّوَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِوَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏29‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وفي سورة الجن‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَالْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَىالرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ إلى تمامالآية الخامسة عشر ‏[‏ الجن‏: ‏1: 15‏]‏‏.‏

ومن سياق هذه الآيات وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادثيتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حضور ذلك النفر من الجن حينحضروا وسمعوا، وإنما علم بعد ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأنحضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضى سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلكمرارًا‏.‏

وحقًا كان هذا الحادث نصرًا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنودهالتي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت فيطيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قواتالكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّا يُجِبْدَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِندُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏32]‏،‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَننُّعْجِزَهُ هَرَبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏12‏]‏‏.‏

أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأسالتي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطرودًا مدحورًا، حتى صمم علىالعود إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغرسالة الله الخالدة بنشاط جديد وبجد وحماس‏.‏

وحينئذ قال له زيد بن حارثة‏:‏ كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك‏؟‏ يعنى قريشًا،فقال‏:‏ ‏(‏يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصردينه، ومظهر نبيه‏)‏‏.‏ وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا منمكة مكث بحِرَاء، وبعث رجلًا من خزاعة إلى الأخنس بن شَرِيق ليجيره،فقال‏:‏ أنا حليف، والحليف لا يجير ، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل‏:‏إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدى، فقال المطعم‏:‏نعم ، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه ، فقال‏:‏ البسوا السلاح، وكونوا عند أركانالبيت، فإني قد أجرت محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهيإلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى‏:‏ يا معشر قريش،إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، وانتهي رسول الله صلى الله عليهوسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته،ومطعم بن عدى وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته‏.‏

وقيل‏:‏ إن أبا جهل سأل مطعمًا‏:‏ أمجير أنت أم متابع مسلم‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ بل مجير‏.‏ قال‏:‏ قد أجرنا من أجرت‏.‏

وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارىبدر‏:‏ ‏(‏لو كان المطعم بن عدى حيًا ثم كلمنى في هؤلاء النتنى لتركتهمله‏)‏‏.



*عرض الإسلام علي القبائل والأفراد :

في ذى القعدة سنة عشر من النبوة في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619 معاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام علىالقبائل والأفراد، ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا، وعلىكل ضامر يأتين من كل فج عميق لأداء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم،ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلمهذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إليه ، كماكان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ، وقد بدأ يطلب منهم من هذه السنةالعاشرة أن يؤووه وينصروه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه الله به‏.

*القبائل التي عرض عليها الإسلام :

قال الزهرى‏:‏ وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلىالله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم‏:‏ بنو عامر بن صَعْصَعَة،ومُحَارِب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعَبْس، وبنونصر، وبنو البَكَّاء، وكندة، وxxx، والحارث بن كعب، وعُذْرَة، والحضارمة،فلم يستجب منهم أحد‏.‏

وهذه القبائل التي سماها الزهرى لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدةولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخرموسم قبل الهجرة‏.‏ ولا يمكن تسمية سنة معينة لعرض الإسلام على قبيلةمعينة، ولكن الأكثر كان في السنة العاشرة‏.‏

أما كيفية عرض الإسلام على هذه القبائل، وكيف كانت ردودهم على هذا العرض فقد ذكرها ابن إسحاق، ونلخصها فيما يلي‏:‏

1 بنو xxx‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن منهم يقال لهم‏:‏ بنوعبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم‏:‏ ‏(‏يابني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم‏)‏، فلم يقبلوا منه ما عرضعليهم‏.‏

2 بنو حنيفة‏:‏ أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردًا منهم‏.‏

3 وأتى إلى بني عامر بن صعصعة‏:‏ فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقالبَيْحَرَة بن فِرَاس ‏[‏رجل منهم‏]‏‏:‏ والله، لو إني أخذت هذا الفتى منقريش لأكلت به العرب، ثم قال‏:‏ أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهركالله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الأمر إلى الله،يضعه حيث يشاء‏)‏، فقال له‏:‏ أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهركالله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه‏.‏

ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم لكبر سنه، وقالواله‏:‏ جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبى، يدعونا إلى أننمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثمقال‏:‏ يا بني عامر وهل لها من تَلاَف‏؟‏ هل لذُنَابَاها من مَطْلَب‏؟‏والذي نفس فلان بيده ما تَقَوَّلَها إسماعيلى قط، وإنها لحق، فأين رأيكمكان عنكم‏؟‏‏.

*المؤمنون من غير أهل مكة :

وكما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام على القبائل والوفود، عرضعلى الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجالبعد هذا الموسم بقليل، وهاك نبذة منهم‏:‏

1 سويد بن الصامت‏:‏

كان شاعرًا لبيبًا، من سكان يثرب، يسميه قومه ‏[‏الكامل‏]‏ لجلده وشعرهوشرفه ونسبه، جاء مكة حاجًا أو معتمرًا، فدعاه رسول الله صلى الله عليهوسلم إلى الإسلام، فقال‏:‏ لعل الذي معك مثل الذي معى‏.‏ فقال له رسولالله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وما الذي معك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ حكمة لقمان‏.‏قال‏:‏ ‏(‏اعرضها عليَّ‏)‏‏.‏ فعرضها، فقال له رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏إن هذا لكلام حسن، والذي معى أفضل من هذا؛ قرآن أنزله اللهتعالى عليّ، هو هدى ونور‏)‏، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلمالقرآن، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، وقال‏:‏ إن هذا لقول حسن‏.‏ فلما قدمالمدينة لم يلبث أن قتل في وقعة بين الأوس والخزرج قبل يوم بعاث‏.‏والأغلب أنه أسلم في أوائل السنة الحادية عشرة من النبوة‏.‏

2 إياس بن معاذ‏:‏

كان غلامًا حدثا من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس، جاءوا يلتمسون الحلفمن قريش على قومهم من الخزرج، وذلك قبيل حرب بعاث في أوائل سنة 11 منالنبوة؛ إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين وكان الأوسأقل عددًا من الخزرج فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهمجاءهم، فجلس إليهم، وقال لهم‏:‏ ‏(‏هل لكم في خير مما جئتم له‏؟‏‏)‏فقالوا‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أنا رسول الله، بعثنى إلى العباد، أدعوهمإلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليّ الكتاب‏)‏، ثم ذكرلهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن‏.‏ فقال إياس بن معاذ‏:‏ أي قوم، هذاوالله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع رجل من الوفد حفنة منتراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال‏:‏ دعنا فلعمرى لقد جئنا لغير هذا،فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة منغير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش‏.‏

وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلمًا‏.‏

3 أبو ذر الغفاري‏:‏

وكان من سكان نواحي يثرب، ولعله لما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلى اللهعليه وسلم بسويد بن الصامت وإياس بن معاذ، وقع في أذن أبي ذر أيضًا، وصارسببًا لإسلامه‏.‏

روى البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو ذر‏:‏ كنت رجلًا من غفار، فبلغناأن رجلًا قد خرج بمكة يزعم أنه نبى، فقلت لأخي‏:‏ انطلق إلى هذا الرجلوكلمه، وائتنى بخبره، فانطلق فلقيه، ثم رجع، فقلت‏:‏ ما عندك‏؟‏ فقال‏:‏والله، لقد رأيت رجلًا يأمر بالخير، وينهي عن الشر، فقلت له‏:‏ لم تشفنىمن الخبر، فأخذت جرابًا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أنأسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد‏.‏ قال‏:‏ فمر بى عليّ‏.‏فقال‏:‏ كأن الرجل غريب‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ فانطلق إلىالمنزل، فانطلقت معه لا يسألنى عن شيء ولا أسأله ولا أخبره‏.‏ فلما أصبحتغدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرنى عنه بشيء‏.‏ قال‏:‏ فمر بىعليّ فقال‏:‏ أما نال للرجل يعرف منزله بعد‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏فانطلق معي، قال‏:‏ فقال‏:‏ ما أمرك‏؟‏ وما أقدمك هذه البلدة‏؟‏ قال‏:‏قلت له‏:‏إن كتمت عليّ أخبرتك، قال‏:‏ فإني أفعل، قال‏:‏ قلت له‏:‏ بلغناأنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبى الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفنىمن الخبر، فأردت أن ألقاه‏.‏

فقال له‏:‏ أما إنك قد رشدت‏.‏ هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل فإني إن رأيتأحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط كإني أصلح نعلى، وامض أنت‏.‏ فمضى ومضيتمعه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏فقلت له‏:‏اعرضعليّ الإسلام‏.‏ فعرضه، فأسلمت مكإني ، فقال لي‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر، اكتم هذاالأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ والذي بعثكبالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد، وقريش فيه ، فقلت‏:‏ يامعشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ،فقالوا‏:‏ قوموا إلى هذا الصابئ‏.‏ فقاموا، فضربت لأموت، فأدركنى العباسفأكب عليّ، ثم أقبل عليهم فقال‏:‏ ويلكم تقتلون رجلًا من غفار‏؟‏ ومتجركموممركم على غفار، فأقلعوا عنى‏.‏ فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ماقلت بالأمس‏.‏ فقالوا‏:‏ قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي ما صنع بالأمس،فأدركني العباس، فأكب عليّ وقال مثل مقالته بالأمس‏.‏

4 طُفَيْل بن عمرو الدَّوْسى‏:‏

كان رجلًا شريفًا، شاعرًا لبيبًا، رئيس قبيلة دوس، وكانت لقبيلته إمارة أوشبه إمارة في بعض نواحى اليمن، قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبلهأهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم تقدير، وقالوا له‏:‏ ياطفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرقجماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبينالرجل وأخيه ، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخلعلينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئًا‏.‏

يقول طفيل‏:‏ فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ولاأكلمه، حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا؛ فرقًا من أن يبلغنىشيء من قوله، قال‏:‏ فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائم يصلى عند الكعبة، فقمتقريبًا منه، فأبي الله إلا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلتفي نفسى‏:‏ واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي عليّ الحسن منالقبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول‏؟‏ فإن كان حسنًا قبلته،وإن كان قبيحًا تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخلبيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمى، وتخويف الناس إياي، وسد الأذنبالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له‏:‏ اعرض عليّ أمرك، فعرض عليّالإسلام، وتلا عليّ القرآن‏.‏ فوالله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولاأمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له‏:‏ إني مطاع في قومى،وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية، فدعا‏.‏

وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل الله نورًا في وجهه مثل المصباح،فقال‏:‏ اللهم في غير وجهي‏.‏ أخشى أن يقولوا‏:‏ هذه مثلة، فتحول النورإلى سوطه، فدعا أباه وزوجته إلى الإسلام فأسلما، وأبطأ عليه قومه فيالإسلام، لكن لم يزل بهم حتى هاجر بعد الخندق، ومعه سبعون أو ثمانون بيتًامن قومه، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسنًا، وقتل شهيدًا يوم اليمامة‏.‏

5 ضِمَاد الأزدى‏:‏

كان من أزْدِ شَنُوءَة من اليمن، وكان يرقى من هذا الريح، قدم مكة فسمعسفهاءها يقولون‏:‏ إن محمدًا مجنون، فقال‏:‏ لو إني أتيت هذا الرجل لعلالله يشفيه على يدى، فلقيه، فقال‏:‏ يا محمد، إني أرقى من هذا الريح، فهللك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الحمد لله نحمدهونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادى له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.‏ أمابعد‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليهوسلم ثلاث مرات، فقال‏:‏ لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء،فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه‏.‏

*ست نسمات طيبة من أهل يثرب :

وفي موسم الحج من سنة 11 من النبوة يوليو سنة 620م وجدت الدعوة الإسلاميةبذورًا صالحة، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات، اتقى المسلمون في ظلالهاالوارفة لفحات الظلم والعدوان حتى تغير مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ‏.‏

وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيبوالصد عن سبيل الله أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحولبينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين‏.‏

فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلى، فمر على منازل ذُهْل وشيبان بن ثعلبة ،وكلمهم في الإسلام‏.‏ وقد دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردودطريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقفوا في قبولالإسلام‏.‏

ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة منى، فسمع أصوات رجال يتكلمونفعمدهم حتى لحقهم، وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الخزرج، وهم‏:‏

1 أسعد بن زُرَارة ‏[‏من بني النجار‏]‏‏.‏

2 عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عَفْراء ‏[‏من بني النجار‏]‏‏.‏

3 رافع بن مالك بن العَجْلان ‏[‏من بني زُرَيْق‏]‏‏.‏

4 قُطْبَة بن عامر بن حديدة ‏[‏من بني سلمة‏]‏‏.‏

5 عُقْبَة بن عامر بن نابي ‏[‏من بني حَرَام بن كعب ‏]‏‏.‏

6 جابر بن عبد الله بن رِئاب ‏[‏من بني عبيد بن غَنْم ‏]‏‏.‏

وكان من سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة،إذا كان بينهم شيء، أن نبيًا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج،فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم‏.‏

فلما لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏(‏من أنتم‏؟‏‏)‏قالوا‏:‏ نفر من الخزرج، قال‏:‏ ‏(‏من موالى اليهود‏؟‏‏)‏ أي حلفائهم،قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أفلا تجلسون أكلمكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلى، فجلسوامعه، فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهمالقرآن‏.‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ تعلمون والله يا قوم، إنه للنبى الذي توعدكمبه يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته، وأسلموا‏.‏

وكانوا من عقلاء يثرب، أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت قريبًا، والتي لايزال لهيبها مستعرًا، فأملوا أن تكون دعوته سببًا لوضع الحرب، فقالوا‏:‏إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أنيجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناكإليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك‏.‏

ولما رجع هؤلاء إلى المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

*استطراد زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة :

وفي شوال من هذه السنة سنة 11 من النبوة تزوج رسول الله صلى الله عليهوسلم عائشة الصديقة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبني بها بالمدينة فيشوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين‏.



يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#19

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

الإسراء والمعراج



وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهذه المرحلة، وأخذت الدعوة تشقطريقًا بين النجاح والاضطهاد، وبدأت نجوم الأمل تتلمح في آفاق بعيدة، وقعحادث الإسراء والمعراج‏.‏ واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى‏:‏

1 فقيل‏:‏ كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، واختاره الطبرى‏.‏

2 وقيل‏:‏ كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووى والقرطبى‏.‏

3 وقيل‏:‏ كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة‏.‏

4 وقيل‏:‏ قبل الهجرة بستة عشر شهرًا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة‏.‏

5 وقيل‏:‏ قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة‏.‏

6 وقيل‏:‏ قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة‏.‏

وَرُدَّتِ الأقوالُ الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضانسنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس‏.‏ ولا خلافأن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء‏.‏ أما الأقوال الثلاثة الباقيةفلم أجد ما أرجح به واحدًا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أنالإسراء متأخر جدًا‏.‏

وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة، وفيما يلي نسردها بإيجاز‏:‏

قال ابن القيم‏:‏ أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح منالمسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البُرَاق، صحبة جبريل عليهماالصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة بابالمسجد‏.‏

ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريلففتح له، فرأي هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام،وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عنيساره‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأي فيها يحيى بن زكريا وعيسىابن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبا به، وأقرّا بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأي فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأي فيها إدريس، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له‏:‏ ما يبكيك ‏؟‏ فقال‏:‏ أبكى؛ لأن غلامًا بعث من بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتى‏.‏

ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقى فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته‏.‏

ثم رفع إلى سدرة المنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قِلاَل هَجَر، وإذا ورقها مثلآذان الفيلة، ثم غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان، فتغيرت، فما أحد من خلقالله يستطيع أن يصفها من حسنها‏.‏ ثم رفع له البيت المعمور، وإذا هو يدخلهكل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون‏.‏ ثم أدخل الجنة، فإذا فيها حبائلاللؤلؤ، وإذا ترابها المسك‏.‏ وعرج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صَرِيفالأقلام‏.‏

ثم عرج به إلى الجبّار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى،فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسىفقال له‏:‏ بم أمرك ربك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بخمسين صلاة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ إن أمتك لاتطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنهيستشيره في ذلك، فأشار‏:‏ أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبارتبارك وتعالى، وهو في مكانه هذا لفظ البخاري في بعض الطرق فوضع عنه عشرًا،ثم أنزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال‏:‏ ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلميزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمسًا، فأمره موسىبالرجوع وسؤال التخفيف، فقال‏:‏ ‏(‏قد استحييت من ربي، ولكني أرضىوأسلم‏)‏، فلما بعد نادى مناد‏:‏ قد أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى‏.‏انتهي‏.‏

ثم ذكر ابن القيم خلافًا في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى،ثم ذكر كلامًا لابن تيمية بهذا الصدد، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين لمتثبت أصلًا، وهو قول لم يقله أحد من الصحابة‏.‏ وما نقل عن ابن عباس منرؤيته مطلقًا ورؤيته بالفؤاد فالأول لا ينافي الثاني‏.‏

ثم قال‏:‏ وأما قوله تعالى في سورة النجم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى‏}‏‏[‏النجم‏:‏8‏]‏ فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورةالنجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه،وأما الدنو والتدلى في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تباركوتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة أخرىعند سدرة المنتهى‏.‏ وهذا هو جبريل، رآه محمد صلى الله عليه وسلم علىصورته مرتين‏:‏ مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم‏.‏انتهى‏.‏

وقد جاء في بعض الطرق أن صدره صلى الله عليه وسلم شق في هذه المرة أيضًا،وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة أمورًا عديدة‏:‏

عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل‏:‏ هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك‏.‏

ورأي أربعة أنهار يخرجن من أصل سدرة المنتهى‏:‏ نهران ظاهران ونهرانباطنان، فالظاهران هما‏:‏ النيل والفرات، عنصرهما‏.‏ والباطنان‏:‏ نهرانفي الجنة‏.‏ ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشارة إلى تمكن الإسلام من هذينالقطرين، والله أعلم‏.‏

ورأى مالكًا خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأي الجنة والنار‏.‏

ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعًا من نار كالأفهار، فتخرج من أدبارهم‏.‏

ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن أماكنهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم‏.‏

ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين‏.‏

ورأى النساء اللاتى يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن‏.‏

ورأى عيرًا من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير نَدَّ لهم،وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلكدليلًا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهمبما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهمواستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتىعاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهمعن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذييقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبي الظالمون إلاكفورًا ‏.‏

يقال‏:‏ سُمى أبو بكر رضي الله عنه صديقًا؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس‏.‏

وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَهُمِنْ آيَاتِنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ وهذه سنة الله في الأنبياء، قال‏:‏‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِوَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏75‏]‏، وقال لموسى عليهالسلام‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏23‏]‏، وقدبين مقصود هذه الإراءة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏فبعد استناد علوم الأنبياء إلى رؤية الآيات يحصل لهم من عين اليقين ما لايقادر قدره، وليس الخبر كالمعاينة، فيتحملون في سبيل الله ما لا يتحملغيرهم، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون بها إذا ماتدول عليهم بالمحن والعذاب‏.‏

والحكم والأسرار التي تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما محل بحثها كتبأسرار الشريعة، ولكن هنا حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلةالمباركة، وتتدفق إلى حدائق أزهار السيرة النبوية على صاحبها الصلاةوالسلام والتحية أرى أن أسجل بعضًا منها بالإيجاز‏:‏

يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثمأخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدى للتى هيأقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك،فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيتالمقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية؛ لما ارتكبوامن الجرائم التي لا مجال بعدها لبقائهم على هذا المنصب، وإن الله سينقلهذا المنصب فعلا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ويجمع له مركزى الدعوةالإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة؛من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفقبالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحى القرآن الذي يهدى للتى هيأقوم‏.‏

ولكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول يطوف في جبال مكة مطرودًا بينالناس‏؟‏ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن عهدًا من هذهالدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام، وسيبدأ عهد آخر جديد يختلفعن الأول في مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديدبالنسبة إلى المشركين ‏{‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةًأَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُفَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنبَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَابَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏16، 17‏]‏ وبجنب هذه الآيات آيات أخرى تبينللمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي يبتنى عليها مجتمعهمالإسلامى، كأنهم قد أووا إلى أرض امتلكوا فيها أمورهم من جميع النواحى،وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع، ففيه إشارة إلى أن الرسولصلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنًا يستقر فيه أمره، ويصير مركزًا لبثدعوته في أرجاء الدنيا‏.‏ هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة، يتصلب بحثنا فآثرنا ذكره‏.‏

ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين، والله أعلم‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#20

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*بيعة العقبة الأولى :

قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة،ووعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته في قومهم‏.‏

وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي موسم الحج سنة 12 من النبوة،يوليو سنة 621م اثنا عشر رجلًا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد التقوابرسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق والسادس الذي لم يحضر هوجابر بن عبد الله بن رِئاب وسبعة سواهم، وهم‏:‏

1 معاذ بن الحارث، ابن عفراء من بني النجار ‏[‏من الخزرج‏]‏

2 ذَكْوَان بن عبد القيس من بني زُرَيْق‏.‏ ‏[‏من الخزرج‏]‏

3 عبادة بن الصامت من بني غَنْم ‏[‏من الخزرج‏]‏

4 يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم ‏[‏من الخزرج‏]‏

5 العباس بن عُبَادة بن نَضْلَة من بني سالم ‏[‏من الخزرج‏]‏

6 أبو الهَيْثَم بن التَّيَّهَان من بني عبد الأشهل ‏[‏من الأوس‏]‏‏.‏

7 عُوَيْم بن ساعدة من بني عمرو بن عَوْف ‏[‏من الأوس‏]‏‏.‏

الأخيران من الأوس، والبقية كلهم من الخزرج‏.‏

التقى هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت بعد الحديبية‏.‏

روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا،ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولاتعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًافعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله،فأمره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فبايعته وفينسخة‏:‏ فبايعناه على ذلك‏.

*سفير الإسلام في المدينة :

وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاءالمبايعين أول سفير في يثرب؛ ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههمفي الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختارلهذه السفارة شابًا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مُصْعَب بنعُمَيْر العبدرى رضي الله عنه‏.

*النجاح المغتبط :

نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زُرَارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجد وحماس، وكان مصعب يُعْرَف بالمقرئ‏.‏

ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا يريددار بني عبد الأشهل ودار بني ظَفَر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر،وجلسا على بئر يقال لها‏:‏ بئر مَرَق، واجتمع إليهما رجال من المسلمينوسعد بن معاذ وأُسَيْد بن حُضَيْر سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذعلى الشرك فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد‏:‏ اذهب إلى هذين اللذين قد أتياليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارةابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا‏.‏

فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب‏:‏ هذا سيد قومهقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب‏:‏ إن يجلس أكلمه‏.‏ وجاء أسيد فوقفعليهما متشتمًا، وقال‏:‏ ما جاء بكما إلينا‏؟‏ تسفهان ضعفاءنا‏؟‏ اعتزلاناإن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب‏:‏ أو تجلس فتسمع، فإن رضيتأمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال‏:‏ أنصفت، ثم ركز حربته وجلس،فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن‏.‏ قال‏:‏ فو الله لعرفنا في وجههالإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال‏:‏ ما أحسن هذا وأجمله‏؟‏كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين‏؟‏

قالا له‏:‏ تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين‏.‏فقام واغتسل، وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال‏:‏ إن ورائى رجلًا إنتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن سعد بن معاذ ثم أخذحربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم‏.‏ فقال سعد‏:‏ أحلفبالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم‏.‏

فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد‏:‏ ما فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ كلمت الرجلين،فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا‏:‏ نفعل ما أحببت‏.‏

وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم قدعرفوا أنه ابن خالتك لِيُخْفِرُوك‏.‏ فقام سعد مغضبًا للذى ذكر له، فأخذحربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد منه أنيسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة‏:‏ والله يا أباأمامة، لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا منى، تغشانا في دارنابما نكره‏؟‏

وقد كان أسعد قال لمصعب‏:‏ جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لميتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ‏:‏ أو تقعد فتسمع‏؟‏ فإن رضيتأمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال‏:‏ قد أنصفت، ثم ركز حربتهفجلس‏.‏ فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال‏:‏ فعرفنا والله فيوجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلّله، ثم قال‏:‏ كيف تصنعون إذاأسلمتم‏؟‏ قالا‏:‏ تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلىركعتين‏.‏ ففعل ذلك‏.‏

ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادى قومه، فلما رأوه قالوا‏:‏ نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به‏.‏

فلما وقف عليهم قال‏:‏ يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمرى فيكم‏؟‏قالوا‏:‏ سيدنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال‏:‏ فإن كلام رجالكمونسائكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله‏.‏ فما أمسى فيهم رجل ولاامرأة إلا مسلمًا ومسلمة، إلا رجل واحد وهو الأُصَيْرِم تأخر إسلامه إلىيوم أحد، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة، فقال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عمل قليلًا وأجر كثيرًا‏)‏‏.‏

وأقام مصعب في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دارمن دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أميةبن زيد وخَطْمَة ووائل‏.‏ كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر وكانوا يطيعونهفوقف بهم عن الإسلام حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة‏.‏

وقبل حلول موسم الحج التالى أي حج السنة الثالثة عشرة عاد مصعب بن عميرإلى مكة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشائر الفوز، ويقص عليهخبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#21

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*بيعة العقبة الثانية :

في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة يونيو سنة 622م حضر لأداءمناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاجقومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم وهم لم يزالوا فييثرب أو كانوا في الطريق‏:‏ حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلميطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف‏؟‏


فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدتإلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذيعند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم الاجتماع في سرية تامة فيظلام الليل‏.‏


ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الاجتماع التاريخي الذي حول مجرىالأيام في صراع الوثنية والإسلام‏.‏ يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي اللهعنه‏:‏


خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسطأيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيدمن ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من قومنا منالمشركين أمرنا فكلمناه وقلنا له‏:‏ يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا،وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا‏.‏ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلمإيانا العقبة، قال‏:‏ فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا‏.‏


قال كعب‏:‏ فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليلخرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسللالقَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعونرجلًا، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب أم عُمَارة من بني مازن بنالنجار،وأسماء بنت عمرو أم منيع من بني سلمة‏.‏


فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعهعمه‏:‏ العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضرأمر ابن أخيه، ويتوثق له، وكان أول متكلم‏.




*بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسئولية :


وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام التحالف الدينى والعسكرى،وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليهوسلم، تكلم ليشرح لهم بكل صراحة خطورة المسئولية التي ستلقى على كواهلهمنتيجة هذا التحالف‏.‏ قال‏:‏


يا معشر الخزرج وكان العرب يسمون الأنصار خزرجًا، خزرجها وأوسها كليهما إنمحمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينافيه،فهو في عز من قومه ومنعة في بلده‏.‏ وإنه قد أبي إلا الانحياز إليكمواللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممنخالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك‏.‏ وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوهبعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه‏.‏ فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده‏.‏


قال كعب‏:‏ فقلنا له‏:‏ قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت‏.‏


وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخلاصكامل في تحمل هذه المسئولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة‏.‏


وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة‏.


*بنود البيعة :


وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلًا‏.‏ قال جابر‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، علام نبايعك‏؟‏ قال‏:‏


‏(‏على السمع والطاعة في النشاط والكسل‏.‏


وعلى النفقة في العسر واليسر‏.‏


وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏


وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم‏.‏


وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة‏)‏‏.‏


وفي رواية كعب التي رواها ابن إسحاق البند الأخير فقط من هذه البنود،ففيه‏:‏ قال كعب‏:‏ فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن،ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال‏:‏ ‏(‏أبايعكم على أن تمنعوني مماتمنعون منه نسائكم وأبناءكم‏)‏‏.‏ فأخذ البراء ابن مَعْرُور بيده ثمقال‏:‏ نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه،فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناهاكابرًا عن كابر‏.‏


قال‏:‏ فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبوالهيثم بن التَّيَّهَان، فقال‏:‏ يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجالحبالًا، وإنا قاطعوها يعنى اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهركالله إن ترجع إلى قومك وتدعنا‏؟‏


قال‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏بل الدَّمُالدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم،وأسالم من سالمتم‏)‏‏.


*التأكيد من خطورة البيعة :


وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الشروع في عقدها قامرجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتى 11 و 12 من النبوة، قامأحدهما تلو الآخر؛ ليؤكدا للقوم خطورة المسئولية، حتى لا يبايعوه إلا علىجلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية، ويتأكدا من ذلك‏.‏


قال ابن إسحاق‏:‏ لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة‏:‏هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ إنكم تبايعونهعلى حرب الأحمر والأسود من الناس‏.‏ فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهََكَتْأموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزىالدنيا والآخرة‏.‏ وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه علىنَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة‏.‏


قالوا‏:‏ فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يارسول الله إن نحن وفينا بذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجنة‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ ابسط يدك،فبسط يده فبايعوه‏.‏


وفي رواية جابر ‏[‏قال‏]‏‏:‏ فقمنا نبايعه،فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهوأصغر السبعين فقال‏:‏ رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبلإلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتلخياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم علىالله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#22

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*عقد البيعة :

وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعةبالمصافحة، قال جابر بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة قال‏:‏ فقالوا‏:‏ ياأسعد، أمِطْ عنا يدك‏.‏ فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها‏.‏

وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه وكانهو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير فكان هو السابق إلى هذه البيعة‏.‏ قالابن إسحاق‏:‏ فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول منضرب على يده‏.‏ وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر‏:‏ فقمنا إليهرجلًا رجلًا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة‏.‏

وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولًا‏.‏ ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط‏.



*اثنا عشر نقيبًا :


وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختاروا اثنى عشرزعيمًا يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسئولية عنهم في تنفيذ بنود هذهالبيعة، فقال للقوم‏:‏ أخرجوا إلىّ منكم اثنى عشر نقيبًا ليكونوا علىقومهم بما فيهم‏.‏

فتم اختيارهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس‏.‏وهاك أسماءهم‏:‏


نقباء الخزرج



نقباء الأوس




ولما تم اختيار هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقًا آخر بصفتهم رؤساء مسئولين‏.‏

قال لهم‏:‏ ‏(‏أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى ابنمريم، وأنا كفيل على قومي‏)‏ يعنى المسلمين قالوا‏:‏ نعم‏.‏


شيطان يكتشف المعاهدة

ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الارفضاض، اكتشفها أحدالشياطين؛ وحيث إن هذا الاكتشاف جاء في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكنإبلاغ زعماء قريش هذا الخبر سرًا، ليباغتوا المجتمعين وهم في الشعب، قامذلك الشيطان على مرتفع من الأرض،وصاح بأنفذ صوت سمع قط‏:‏ يا أهلالجَبَاجب المنازل هل لكم في مُذَمَّم والصباة معه‏؟‏ قد اجتمعوا علىحربكم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا أزَبُّ العقبة، أما والله ياعدو الله لأتفرغن لك‏.‏ ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم‏)‏‏.

*استعداد الأنصار لضرب قريش :


وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن نضلة‏:‏ والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا باسيافنا‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم‏)‏، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا‏.



*قريش تقدم الاحتجاج إلى رؤساء يثرب :


لما قرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة، وساورتهم القلاقل والأحزان؛لأنهم كانوا على معرفة تامة بعواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إلىأنفسهم وأموالهم، فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابرمجرميها إلى أهل يثرب؛ ليقدم احتجاجه الشديد على هذه المعاهدة، قالالوفد‏:‏

‏(‏يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونهمن بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حى من العرب أبغضإلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم‏)‏‏.‏

ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئًا عن هذه البيعة؛ لأنها تمت في سريةتامة في ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون يحلفون بالله‏:‏ ما كان من شيءوما علمناه، حتى أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فجعل يقول‏:‏ هذا باطل،وما كان هذا،وما كان قومى ليفتاتوا على بمثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنعقومي هذا حتى يؤامروني‏.‏

أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات‏.‏

ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين، فرجعوا خائبين‏.

*تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين :

عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر، لكنهم لم يزالوايَتَنَطَّسُونه يكثرون البحث عنه ويدققون النظر فيه حتى تأكد لديهم أنالخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلًا‏.‏ وذلك بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانهم،فسارع فرسانهم بمطاردة اليثربيين، ولكن بعد فوات الأوان، إلا أنهم تمكنوامن رؤية سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو فطاردوهما، فأما المنذر فأعجزالقوم، وأما سعد فألقوا القبض عليه، فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْع رَحْلِه،وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة، فجاء المطعم بن عدىوالحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يجير لهما قوافلهماالمارة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قدطلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إلى المدينة‏.‏

هذه هي بيعة العقبة الثانية التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى وقد تمت في جوتعلوه عواطف الحب والولاء، والتناصر بين أشتات المؤمنين، والثقة والشجاعةوالاستبسال في هذا السبيل‏.‏ فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف فيمكة، ويتعصب له،ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الأخالذي أحبه بالغيب في ذات الله‏.‏

ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام، بلكان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه، إيمان لا يزول أمام أي قوةمن قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيدةوالعمل، وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهرأعمالًا، ويتركوا عليها آثارًا خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلوالمستقبل‏.‏‏1 أسعد بن زُرَارَة بن عدس‏.‏ 2 سعد بن الرَّبِيع بن عمرو‏.‏ 3 عبد الله بن رواحة بن ثعلبة‏.‏ 4 رافع بن مالك بن العَجْلان‏.‏ 5 البراء بن مَعْرُور بن صَخْر‏.‏ 6 عبد الله بن عمرو بن حَرَام‏.‏ 7 عبادة بن الصامت بن قيس‏.‏ 8 سعد بن عبادة بن دُلَيْم‏.‏ 9 المنذر بن عمرو بن خُنَيْس‏.‏ 1 أُسَيْد بن حُضَيْر بن سِمَاك‏.‏ 2 سعد بن خَيْثَمَة بن الحارث‏.‏ 3 رفاعة بن عبد المنذر بن زبير‏.‏ ‏

يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#23

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*طلائع الهجرة :

وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراءتموج بالكفر والجهالة وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته أذنرسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن‏.‏


ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاةبالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أونهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدرى ما يتمخض عنه من قلاقلوأحزان‏.‏


وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهموبين خروجهم؛ لما كانوا يحسون به من الخطر، وهاك نماذج من ذلك‏:‏


1 كان من أول المهاجرين أبو سلمة هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قالهابن إسحاق وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره‏:‏ هذه نفسكغلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه‏؟‏ علام نتركك تسير بها في البلاد‏؟‏فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم،فقالوا‏:‏ لا نترك ابننا معهاإذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به‏.‏وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة‏.‏


وكانت أم سلمة رضي الله عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداةبالأبطح تبكى حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال‏:‏ألا تخرجون هذه المسكينة‏؟‏ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها‏:‏الحقى بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة رحلةتبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية وليسمعها أحد من خلق الله‏.‏ حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحةبن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظرإلى قباء، قال‏:‏ زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرفراجعًا إلى مكة‏.‏


2 وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماأراد الهجرة قال له كفار قريش‏:‏ أتيتنا صعلوكًا xxxxًا، فكثر مالك عندنا،وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك‏؟‏ والله لا يكون ذلك‏.‏فقال لهم صهيب‏:‏ أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم،قال‏:‏ فأني قد جعلت لكم مالى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال‏:‏ ‏(‏ربح صهيب، ربح صهيب‏)‏‏.‏


3 وتواعد عمر بن الخطاب، وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائلموضعًا اسمه التَّنَاضُب فوق سَرِف يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة،فاجتمع عمر وعياش، وحبس عنهما هشام‏.‏


ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش وأمالثلاثة واحدة، وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة فقالا له‏:‏ إن أمك قد نذرت ألايمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فَرَقَّ لها‏.‏ فقال له عمر‏:‏يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فواللهلو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبي عياشإلا الخروج معهما ليبر قسم أمه، فقال له عمر‏:‏ أما إذ قد فعلت ما فعلتفخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القومريب فانج عليها‏.‏


فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل‏:‏ يابن أمي،والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه‏؟‏ قال‏:‏ بلى،فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه،ثم دخلا به مكة نهارًا موثقًا، وقالا‏:‏ يا أهل مكة، هكذا فافعلوابسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا‏.‏


هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علمواذلك‏.‏ ولكن على رغم ذلك خرج الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا‏.‏ وبعدشهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسولالله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى أقاما بأمره لهما وإلا من احتبسهالمشركون كرهًا، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متىيؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه‏.‏


روى البخاري عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلمللمسلمين‏:‏ ‏(‏أني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابَتَيْن‏)‏ وهماالحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشةإلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏على رِسْلِك، فأني أرجو أن يؤذن لي‏)‏‏.‏ فقال له أبو بكر‏:‏وهل ترجو ذلك بأبي أنت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، فحبس أبو بكر نفسه على رسولالله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمَروهو الخَبَطُ أربعة أشهر‏.‏


*في دار الندوة ‏[‏برلمان قريش‏] :


ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزواوخرجوا، وحملوا وساقوا الذرارى والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقدتجسد أمامهم خطر حقيقى عظيم، أخذ يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي‏.‏


فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوةالتأثير مع كمال القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامةوالفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، وما فيعقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد،ولاسيما بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية طيلة أعوام من الدهر‏.‏


كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجةالتجارية التى تمر بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام‏.‏ وقد كان أهلمكة يتاجرون إلى الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويًا، سوى ما كان لأهلالطائف وغيرها‏.‏ ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن فيتلك الطريق‏.‏


فلا يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب، ومجابهة أهلها ضدهم‏.‏


شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجحالوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمدصلى الله عليه وسلم‏.‏


وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 من شهر سبتمبرسنة 622م أي بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة العقبة الكبرى عقد برلمان مكة‏[‏دار الندوة‏]‏ في أوائل النهارأخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد إلىهذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاءسريعًا على حامل لواء الدعوة الإسلامية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجودنهائيًا‏.‏ وكانت الوجوه البارزة في هذا الاجتماع الخطير من نواب قبائلقريش‏:‏


1 أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم‏.‏


2، 3، 4 جبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدى، والحارث بن عامر، عن بني نَوْفَل بن عبد مناف‏.‏


5، 6، 7 شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، عن بني عبد شمس بن عبد مناف‏.‏


8 النَّضْر بن الحارث، عن بني عبد الدار‏.‏


9، 10، 11 أبو البَخْتَرِى بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود، وحَكِيم بن حِزَام، عن بني أسد بن عبد العزى‏.‏


12، 13 نُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، عن بني سهم‏.‏


14 أمية بن خَلَف، عن بني جُمَح‏.‏


ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل،عليه بَتٌّ له، ووقف على الباب، فقالوا‏:‏ من الشيخ‏؟‏ قال‏:‏ شيخ من أهلنجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منهرأيًا ونصحًا‏.‏ قالوا‏:‏ أجل، فادخل، فدخل معهم‏.


*النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم :


وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاشطويلًا‏.‏ قال أبو الأسود‏:‏ نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولانبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت‏.‏


قال الشيخ النجدى‏:‏ لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه،وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به‏؟‏ والله لو فعلتم ذلكما أمنتم أن يحل على حى من العرب، ثم يسير بهم إليكم بعد أن يتابعوه حتىيطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيًا غير هذا‏.‏


قال أبو البخترى‏:‏ احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ماأصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرًا والنابغة ومن مضى منهم،من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم‏.‏


قال الشيخ النجدى‏:‏ لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كماتقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكواأن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم علىأمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره‏.‏


وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين، قدم إليه اقتراح آثم وافق عليهجميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمى مكة أبو جهل بن هشام‏.‏ قال أبو جهل‏:‏والله إن لى فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد‏.‏ قالوا‏:‏ وما هو يا أباالحكم‏؟‏ قال‏:‏ أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نَسِيباوَسِيطًا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه،فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلكتفرق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا،فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم‏.‏


قال الشيخ النجدى‏:‏ القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره‏.‏


ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#24

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم



*بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى :


من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر أيحركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحةالتآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكانهذا مكرًا من قريش، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيثلا يشعرون‏.‏ فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلمبوحى من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له فيالخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال‏:‏ لا تبتهذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه‏.‏


وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة حين يستريح الناس في بيوتهم إلىأبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي اللهعنها‏:‏ بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبيبكر‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينافيها، فقال أبو بكر‏:‏ فداء له أبي وأمى، والله ما جاء به في هذه الساعةإلا أمر‏.‏


قالت‏:‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏، فاستأذن،فأذن له فدخل،فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏(‏أخرج مَنْ عندك‏)‏‏.‏ فقالأبو بكر‏:‏ إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فأني قد أذنلى في الخروج‏)‏، فقال أبو بكر‏:‏ الصحبة بأبي أنت يا رسول الله‏؟‏ قالرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏


ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل‏.‏ وقد استمر فيأعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأيأمر آخر اتقاء مما قررته قريش‏.‏


*تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم :


أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومةالتى أبرمها برلمان مكة ‏[‏دار الندوة‏]‏ صباحًا، واختير لذلك أحد عشررئيسًا من هؤلاء الأكابر، وهم‏:‏


1 أبو جهل بن هشام‏.‏


2 الحَكَم بن أبي العاص‏.‏


3 عُقْبَة بن أبي مُعَيْط‏.‏


4 النَّضْر بن الحارث‏.‏


5 أُمية بن خَلَف‏.‏


6 زَمْعَة بن الأسود‏.‏


7 طُعَيْمة بن عَدِىّ‏.‏


8 أبو لهب‏.‏


9 أبي بن خلف‏.‏


10 نُبَيْه بن الحجاج‏.‏


11 أخوه مُنَبِّه بن الحجاج‏.‏


وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعدصلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيامالليل، فأمر عليًا رضي الله عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجىببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه‏.‏


فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلىبيته صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونهنائمًا حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه‏.‏


وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهلوقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء‏:‏إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثمبعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لهفيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها‏.‏


وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى اللهعليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالبعلى أمره، بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجارعليه، فقد فعل ما خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد‏:‏‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْيَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُخَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏30]‏‏.‏


*الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته :


وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسولالله صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاءفجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو‏:‏‏{‏وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّافَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏9‏]‏‏.‏ فلم يبقمنهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا منخوخة في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن‏.‏


وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبةوالفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال‏:‏ ماتنتظرون‏؟‏ قالوا‏:‏ محمدًا‏.‏ قال‏:‏ خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذرعلى رءوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا‏:‏ والله ما أبصرناه، وقامواينفضون التراب عن رءوسهم‏.‏


ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا‏:‏ والله إن هذا لمحمدنائمًا، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا‏.‏ وقام علىٌّ عن الفراش،فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لا علملي به‏.


*من الدار إلى الغار :


غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 منالنبوة، الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م‏.‏ وأتى إلى دار رفيقه وأمنّ الناسعليه في صحبته وماله أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ ثم غادر منزل الأخير من بابخلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر‏.‏


ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب،وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسىالمتجه شمالًا، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوبمكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبليعرف بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجاركثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ بل كان يمشى فيالطريق على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حملهأبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمةالجبل عرف في التاريخ بغار ثور‏.


*إذ هما في الغار :


ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر‏:‏ والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإنكان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزارهوسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجرهونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال‏:‏ ‏(‏ما لك يا أبا بكر‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسولالله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده‏.‏


وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد‏.‏وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما‏.‏ قالت عائشة‏:‏ وهو غلام شابثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلايسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، و‏[‏كان‏]‏ يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم،فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل وهو لبنمِنْحَتِهما ورَضيفِهما حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعلذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثرعبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه‏.‏


أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليهوسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة‏.‏ فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربواعليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما‏.‏


ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه،فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها‏:‏ أين أبوك‏؟‏ قالت‏:‏ لاأدرى والله أين أبي‏؟‏ فرفع أبو جهل يده وكان فاحشًا خبيثًا فلطم خدهالطمة طرح منها قرطها‏.‏


وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بهاالقبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة ‏[‏في جميع الجهات‏]‏تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائةناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا منكان‏.‏


وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة‏.‏


وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاريعن أنس عن أبي بكر قال‏:‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار،فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت‏:‏ يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأبصره رآنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما‏)‏، وفيلفظ‏:‏ ‏(‏ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما‏)‏‏.‏


وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#25

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

في الطريق إلى المدينة :

وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعداستمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى اللهعليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة‏.‏

وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان هاديًا خِرِّيتًاماهرًا بالطريق وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليهراحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلةالاثنين غرة ربيع الأول سنة 1ه / 16 سبتمبر سنة 622م جاءهما عبد الله بنأريقط بالراحلتين، وكان قد قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم عندمشاورته في البيت‏:‏ بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتى هاتين، وقربإليه أفضلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن‏.‏ وأتتهما أسماءبنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا،فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين،فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت‏:‏ ذات النطاقين‏.‏

ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحلمعهما عامر بن فُهَيْرة، وأخذ بهم الدليل عبد الله بن أريقط على طريقالسواحل‏.‏

وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن،ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجهشمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلانادرًا‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهذا الطريق، قال‏:‏ لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهماعلى الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج،ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُدَيْدًا، ثم أجاز بهمامن مكانه ذلك فسلك بهما الْخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثمسلك بهما لِقْفًا، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجةمِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مِجَاح، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذىالغُضْوَيْن، ثم بطن ذى كَشْر، ثم أخذ بهما على الْجَدَاجِد، ثم علىالأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ، ثم علىالعَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط بهما الْعَرْج، ثم سلك بهماثنية العَائِر عن يمين رَكُوبة حتى هبط بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما علىقُباء‏.‏


وهاك بعض ما وقع في الطريق

1 روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ أسرينا ليلتنا ومنالغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرةطويلة، لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى اللهعليه وسلم مكانًا بيدى، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت‏:‏ نم يا رسولالله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعمقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له‏:‏ لمن أنت ياغلام‏؟‏ فقال‏:‏ لرجل من أهل المدينة أو مكة‏.‏ قلت‏:‏ أفي غنمك لبن‏؟‏قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ أفتحلب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأخذ شاة، فقلت‏:‏ انفضالضرع من التراب والشعر والقَذَى، فحلب في قعب كُثْبة من لبن، ومعى إداوةحملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوى منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبيصلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماءعلى اللبن حتى برد أسفله، فقلت‏:‏ اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثمقال‏:‏ ‏(‏ألم يأن للرحيل‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ فارتحلنا‏.‏

2 وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبى صلى الله عليهوسلم، وكان شيخًا يعرف، ونبى الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقىالرجل أبا بكر فيقول‏:‏ من هذا الرجل الذي بين يديك‏؟‏ فيقول‏:‏ هذا الرجليهدينى الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق، وإنما يعنى سبيلالخير‏.‏

3 وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتى أم مَعْبَد الخزاعية، وكانموقعهما بالمُشَلَّل من ناحية قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو مترًا من مكة،وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقى من مربها، فسألاها‏:‏ هل عندها شيء‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لو كان عندنا شيء ماأعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء‏.‏

فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال‏:‏ ‏(‏ماهذه الشاة يا أم معبد‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال‏:‏‏(‏هل بها من لبن‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ هي أجهد من ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أتأذنين لىأن أحلبها‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها‏.‏ فمسحرسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْعليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة،فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا،حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا‏.‏

فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلًا، فلما رأياللبن عجب، فقال‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت‏؟‏فقالت‏:‏ لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومنحاله كذا وكذا، قال‏:‏ أني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفِيه لى ياأم معبد، فوصفته بصفاته الكريمة وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهوأمامه وسننقله في بيان صفاته صلى الله عليه وسلم في أواخر الكتاب فقال أبومعبد‏:‏ والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أنأصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا‏.‏ وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعونهولا يرون القائل‏:‏

جزى الله رب العرش خير جزائه ** رفيقين حَلاَّ خيمتى أم مَعْبَدِ

هما نزلا بالبِرِّ وارتحلا به ** وأفلح من أمسى رفيق محمد

فيا لقُصَىّ ما زَوَى الله عنكم ** به من فعال لا يُحَاذى وسُؤْدُد

لِيَهْنِ بني كعب مكان فَتاتِهم ** ومقعدُها للمؤمنين بَمْرصَد

سَلُوا أختكم عن شاتها وإنائها ** فإنكم إن تسألوا الشاة تَشْهَد

قالت أسماء‏:‏ ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلرجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوتهولا يرونه حتى خرج من أعلاها‏.‏ قالت‏:‏ فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجهرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة‏.‏

4 وتبعهما في الطريق سُرَاقة بن مالك‏.‏ قال سراقة‏:‏ بينما أنا جالس فيمجلس من مجالس قومى بني مُدْلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس،فقال‏:‏ يا سراقة، أني رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل، أراها محمدًاوأصحابه‏.‏ قال سراقة‏:‏ فعرفت أنهم هم، فقلت له‏:‏ إنهم ليسوا بهم، ولكنكرأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمتفدخلت، فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى، وهي من وراء أكَمَة، فتحبسها عَلَىَّ،وأخذت رمحى، فخرجت به من ظهر البيت، فخَطَطْتُ بزُجِّهِ الأرض، وخَفَضْتُعاليه، حتى أتيت فرسى فركبتها، فرَفَعْتُها تُقَرِّب بى حتى دنوت منهم،فعَثَرَتْ بى فرسى فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدى إلى كنانتى، فاستخرجتمنها الأزلام، فاستقسمت بها، أضُرُّهُمْ أم لا‏؟‏ فخرج الذي أكره، فركبتفرسي وعصيت الأزلام تُقَرّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى اللهعليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات سَاخَتْ يدا فرسى فيالأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تَكَدْ تخرجيديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان،فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسىحتى جئتهم، ووقع في نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمْرُرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له‏:‏ إن قومك قد جعلوا فيك الدية،وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلميَرْزَأني، ولم يسألأني إلا أن قال‏:‏ ‏(‏أَخْفِ عنا‏)‏، فسألته أن يكتبلى كتاب أمْنٍ، فأمر عامر بن فُهَيْرة، فكتب لى في رقعة من أدم، ثم مضىرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية عن أبي بكر قال‏:‏ ارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهمأحد غير سراقة بن مالك بن جُعْشُم، على فرس له، فقلت‏:‏ هذا الطلب قدلحقنا يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا‏}‏‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏‏.‏

ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول‏:‏ قد استبرأت لكم الخبر، قدكفيتم ما ها هنا‏.‏ وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما‏.‏

5 وفي الطريق لقى النبي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمىومعه نحو ثمانين بيتًا، فأسلم وأسلموا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلمالعشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتى قدم على رسول اللهصلى الله عليه وسلم بعد أُحُد‏.‏

وعن عبد الله بن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير،فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم، فلقى النبي صلى اللهعليه وسلم، فقال له‏:‏ ‏(‏ممن أنت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ من أسلم، فقال‏:‏ لأبيبكر‏:‏ سلمنا، ثم قال‏:‏ ‏(‏مِنْ بني مَنْ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ من بني سهم‏.‏قال‏:‏ ‏(‏خرج سهمك‏)‏

6 ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أوْس تميم بن حَجَر أو بأبي تميمأوس بن حجر الأسلمى، بقحداوات بين الجُحْفَة وهَرْشَى بالعرج وكان قد أبطأعليه بعض ظهره، فكان هو وأبو بكر على جمل واحد، فحمله أوس على فحل منإبله، وبعث معهما غلامًا له اسمه مسعود، وقال‏:‏ اسلك بهما حيث تعلم منمحارم الطريق ولا تفارقهما، فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة، ثم ردرسول الله صلى الله عليه وسلم مسعودًا إلى سيده، وأمره أن يأمر أوسًا أنيسم إبله في أعناقها قيد الفرس، وهو حلقتان، ومد بينهما مدًا، فهي سمتهم‏.‏ ولما أتى المشركون يوم أحد أرسل أوس غلامه مسعود بن هُنَيْدَة منالعَرْج على قدميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهم‏.‏ ذكرهابن مَاكُولا عن الطبرى، وقد أسلم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلمالمدينة، وكان يسكن العرج‏.‏

7 وفي الطريق في بطن رِئْم لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهوفي ركب من المسلمين، كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بياضًا‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#26

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* النزول بقباء:

وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة وهي السنة الأولى منالهجرة الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلمبقباء‏.‏

قال عروة بن الزبير‏:‏ سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى اللهعليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتىيردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلىبيوتهم أَوْفي رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصربرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلميملك اليهودى أن قال بأعلى صوته‏:‏ يا معاشر العرب، هذا جدكم الذيتنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح‏.‏ وتلقوا رسول الله صلى الله عليهوسلم بظهر الحرة‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبرالمسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة،فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحى ينزل عليه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّاللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَوَالْمَلَائ ِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏4‏]‏‏.‏

قال عروة بن الزبير‏:‏ فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذاتاليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيعالأول‏.‏ فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا،فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحىى وفينسخة‏:‏ يجىء أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم،فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليهوسلم عند ذلك‏.‏

وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهدالمدينة مثله في تاريخها، وقد رأي اليهود صدق بشارة حَبْقُوق النبي‏:‏ إنالله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران‏.‏

ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل‏:‏ بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت‏.‏

ومكث على بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله صلىالله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميهحتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم‏.‏

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام‏:‏ الاثنينوالثلاثاء والأربعاء والخميس‏.‏ وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجدأسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس يوم الجمعة ركب بأمرالله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار أخواله فجاءوا متقلدينسيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف،فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادى، وكانوا مائة رجل‏.

*الدخول في المدينة :

ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة ومن ذلكاليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنهابالمدينة مختصرًا وكان يومًا مشهودًا أغر، فقد ارتجت البيوت والسكك بأصواتالحمد والتسبيح، وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور‏:‏

طلع البدر علينا **من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع

والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنىأن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصارإلا أخذوا خطام راحلته‏:‏ هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكانيقول لهم‏:‏ ‏(‏خلوا سبيلها فإنها مأمورة‏)‏، فلم تزل سائرة به حتى وصلتإلى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارتقليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بنيالنجار أخواله صلى الله عليه وسلم وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أنينزل على أخواله، يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليهوسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحله، فأدخلهبيته،فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏المرء مع رحله‏)‏،وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، فكانت عنده‏.‏

وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبى الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيبيوت أهلنا أقرب‏؟‏‏)‏ فقال أبو أيوب‏:‏ أنا يا رسول الله، هذه دارى، وهذابأبي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فانطلق فهيئ لنا مقيلًا‏)‏، قال‏:‏ قوما على بركةالله‏.‏

وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بنزيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهمعائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعدبدر‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، فكان بُطْحَان يجرى نَجْلًا، أي ماءً آجِنًا‏.‏

وقالت‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكروبلال، فدخلت عليهما فقلت‏:‏ يا أبه كيف تجدك‏؟‏ ويا بلال كيف تجدك‏؟‏قالت‏:‏ فكان أبو بكر إذا أخذته الحُمَّى يقول‏:‏

كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ** والموت أدنى من شِرَاك نَعْلِه

وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول‏:‏

ألا ليت شِعْرِى هل أبيتَنَّ ليلة ** بوَادٍ وحولى إذْخِرٌ وجَلِيلُ

وهل أردْن يومًا مياه مِجَنَّة ** وهل يَبْدُوَنْ لى شامة وطَفِيلُ

قالت عائشة‏:‏ فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال‏:‏‏(‏اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونامن أرضنا إلى أرض الوباء‏)‏‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعهاومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجُحْفَة‏)‏‏.‏

وقد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فأرى في المنام أن امرأة سوداءثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بالمَهْيَعَة، وهي الجحفة‏.‏ وكانذلك عبارة عن نقل وباء المدينة إلى الجحفة، وبذلك استراح المهاجرون عماكانوا يعانونه من شدة مناخ المدينة‏.‏

إلى هنا انتهي بيان قسم من حياته صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، وهوالعهد المكى‏.‏ وفيما يلى نقدم بالإيجاز عهده المدنى صلى الله عليهوسلم‏.‏ وبالله التوفيق‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#27

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

العهد المدني عهد الدعوة والجهاد والنجاح



*مراحل الدعوة والجهاد في العهد المدني :


يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلاث مراحل‏:‏



*سكان المدينة وأحوالهم عند الهجرة :


لم يكن معنى الهجرة التخلص والفرار من الفتنة فحسب، بل كانت الهجرة تعنىمع هذا تعاونًا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن، ولذلك أصبح فرضًا على كلمسلم يقدر على الهجرة أن يهاجر ويسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ويبذلجهده في تحصينه ورفعة شأنه‏.‏

ولاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والقائد والهادى في بناء هذا المجتمع، وكانت إليه أزمة الأمور بلا نزاع‏.‏

والذين قابلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كانوا على ثلاثةأصناف، يختلف أحوال كل واحد منها بالنسبة إلى الآخر اختلافًا واضحًا، وكانيواجه بالنسبة إلى كل صنف منها مسائل عديدة غير المسائل التي كان يواجههابالنسبة إلى الآخر‏.‏

وهذه الأصناف الثلاثة هي‏:‏



أ والمسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينةبالنسبة إليهم كانت تختلف تمامًا عن الظروف التي مروا بها في مكة، فهم فيمكة وإن كانت تجمعهم كلمة جامعة وكانوا يستهدفون هدفًا واحدًا، إلا أنهمكانوا متفرقين في بيوتات شتى، مقهورين أذلاء مطرودين، لم يكن لهم من الأمرشيء، وإنما كان الأمر بيد أعدائهم في الدين، فلم يكن هؤلاء المسلمونيستطيعون أن ينشئوا مجتمعًا إسلاميًا جديدًا بمواده التي لا يستغنى عنهاأي مجتمع إنسإني في العالم؛ ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيلالمبادئ الإسلامية، وعلى التشريعات التي يمكن العمل بها لكل فرد وحده،وعلى الترغيب في البر والخير ومكارم الأخلاق والترهيب عن الرذائلوالدنايا‏.‏

أما في المدينة فكان أمر المسلمين بأيديهم منذ أول يوم، ولم يكن يسيطرعليهم أحد من الناس، وهذا يعنى أنهم قد آن لهم أن يواجهوا مسائل الحضارةوالعمران، والمعيشة والاقتصاد، والسياسة والحكومة، والسلم والحرب، وأنتفصل لهم مسائل الحلال والحرام، والعبادة والأخلاق، وما إلى ذلك من شئونالحياة‏.‏

أي آن للمسلمين أن يكونوا مجتمعًا إسلاميًا يختلف في جميع مراحل الحياة عنالمجتمع الجاهلي، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم الإنساني، ويكونممثلًا للدعوة الإسلامية التي عانى لها المسلمون ألوانًا من النكالوالعذاب طيلة عشر سنوات‏.‏

ولا يخفي أن تكوين أي مجتمع على هذا النمط لا يمكن أن يستتب في يوم واحد،أو شهر واحد، أو سنة واحدة، بل لابد له من زمن طويل يتكامل فيه التشريعوالتقنين والتربية والتثقيف والتدريب والتنفيذ شيئًا فشيئًا، وكان اللهكفيلًا بهذا التشريع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا بتنفيذهوالإرشاد إليه، وبتربية المسلمين وتزكيتهم وفق ذلك ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَفِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِوَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏2]‏‏.‏

وكان الصحابة رضي الله عنهم مقبلين عليه بقلوبهم،يتحلون بأحكامه،ويستبشرونبها ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏ 2]‏‏.‏ وليس تفصيل هذه المسائل كلها من مباحث موضوعنا،فنقتصر منها على قدر الحاجة‏.‏

وكان هذا أعظم ما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمسلمين،وهو الهدف الأسمى والمطلب النبيل المقصود من الدعوة الإسلامية والرسالةالمحمدية، ومعلوم أنه ليس بقضية طارئة تطلب الاستعجال، بل هي قضية أصيلةتحتاج إلى آجال‏.‏ نعم، كانت هناك قضايا طارئة تطلب الحل العاجل والحكيم،أهمها أن المسلمين كانوا على قسمين‏:‏

قسم كانوا في أرضهم وديارهم وأموالهم، لا يهمهم من ذلك إلا ما يهم الرجلوهو آمن في سِرْبِه، وهم الأنصار، وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذأمد بعيد‏.‏

وقسم آخر فاتهم كل ذلك، ونجوا بأنفسهم إلى المدينة، وهم المهاجرون، فلميكن لهم ملجأ يأوون إليه، ولا عمل يكسبون به ما يسد حاجتهم، ولا ماليبلغون به قَوَامًا من العيش، وكان عدد هؤلاء اللاجئين غير قليل، ثم كانوايزيدون يومًا فيوما؛ إذ كان قد أوذن بالهجرة لكل من آمن بالله ورسوله‏.‏ومعلوم أن المدينة لم تكن على ثروة طائلة فتزعزع ميزانها الاقتصادى، وفيهذه الساعة الحرجة قامت القوات المعادية للإسلام بشبه مقاطعة اقتصادية،قَلَّت لأجلها المستوردات وتفاقمت الظروف‏.‏

ب أما القوم الثاني وهم المشركون من صميم قبائل المدينة فلم تكن لهم سيطرةعلى المسلمين، وكان منهم من يتخالجه الشكوك ويتردد في ترك دين الآباء،ولكن لم يكن يبطن العداوة والكيد ضد الإسلام والمسلمين، ولم تمض عليهم مدةطويلة حتى أسلموا وأخلصوا دينهم لله‏.‏

وكان فيهم من يبطن شديد الإحن والعداوة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلموالمسلمين، ولكن لم يكن يستطيع أن يناوئهم، بل كان مضطرًا إلى إظهار الودّوالصفاء نظرًا إلى الظروف، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي، فقد كانتالأوس والخزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب بُعَاث ولم يكونوا اجتمعوا علىسيادة أحد قبله وكانوا قد نظموا له الخَرْز، ليُتَوِّجُوه ويُمَلّكُوه،وكان على وشك أن يصير ملكًا على أهل المدينة إذ بوغت بمجىء رسول الله صلىالله عليه وسلم، وانصراف قومه عنه إليه، فكان يرى أنه استلبه الملك، فكانيبطن شديد العداوة ضده، ولما رأي أن الظروف لا تساعده على شركه، وأنه سوفيحرم بقايا العز والشرف وما يترتب عليهما من منافع الحياة الدنيا أظهرالإسلام بعد بدر، ولكن بقى مستبطنًا الكفر، فكان لا يجد مجالًا يكيد فيهبرسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين إلا ويأتيه، وكان أصحابه منالرؤساء الذين حرموا المناصب المرجوة في ملكه يساهمونه ويدعمونه في تنفيذخططه، وربما كانوا يتخذون بعض الشباب وسذجة المسلمين عميلًا لتنفيذ خطتهم من حيث لا يشعر‏.‏

ج أما القوم الثالث وهم اليهود فإنهم كانوا قد انحازوا إلى الحجاز زمنالاضطهاد الأشورى والروماني كما أسلفنا، وكانوا في الحقيقة عبرانيين، ولكنبعد الانسحاب إلى الحجاز اصطبغوا بالصبغة العربية في الزى واللغةوالحضارة، حتى صارت أسماؤهم وأسماء قبائلهم عربية، وحتى قامت بينهم وبينالعرب علاقة الزواج والصهر، إلا أنهم احتفظوا بعصبيتهم الجنسية، ولميندمجوا في العرب قطعًا، بل كانوا يفتخرون بجنسيتهم الإسرائيلية اليهوديةوكانوا يحتقرون العرب احتقارًا بالغًا وكانوا يرون أن أموال العرب مباحةلهم، يأكلونها كيف شاءوا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْإِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِنتَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَعَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِيالأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏ ولم يكونوا متحمسين فينشر دينهم، وإنما جل بضاعتهم الدينية هي‏:‏ الفأل والسحر والنفث والرقيةوأمثالها، وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية‏.‏

وكانوا مَهَرَةً في فنون الكسب والمعيشة، فكانت في أيديهم تجارة الحبوبوالتمر والخمر والثياب، كانوا يستوردون الثياب والحبوب والخمر، ويصدرونالتمر، وكانت لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، فكانوا يأخذون المنافعمن عامة العرب أضعافًا مضاعفة، ثم لم يكونوا يقتصرون على ذلك، بل كانواأكالين للربا، يعطون القروض الطائلة لشيوخ العرب وساداتهم؛ ليكسبوا بهامدائح الشعراء والسمعة الحسنة بين الناس بعد إنفاقها من غير جدوى ولاطائلة، وكانوا يرتهنون لها أرض هؤلاء الرؤساء وزروعهم وحوائطهم، ثم لايلبثون إلا أعوامًا حتى يتملكونها‏.‏

وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد؛ يلقون العداوة والشحناء بينالقبائل العربية المجاورة، ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي لم تكن تشعرهتلك القبائل، فكانت تتطاحن في حروب، ولم تكد تنطفئ نيرانها حتى تتحركأنامل اليهود مرة أخرى لتؤججججججججججججها من جديد‏.‏ فإذا تم لهم ذلك جلسوا على حياديرون نتائج هذا التحريض والإغراء، ويستلذون بما يحل بهؤلاء المساكين العربمن التعاسة والبوار، ويزودونهم بقروض ثقيلة ربوية حتى لا يحجموا عن الحربلعسر النفقة‏.‏ وبهذا التدبير كانوا يحصلون على فائدتين كبيرتين‏:‏ هماالاحتفاظ على كيانهم اليهودى، وإنفاق سوق الربا؛ ليأكلوه أضعافًا مضاعفة،ويكسبوا ثروات طائلة‏.‏

وكانت في يثرب منهم ثلاث قبائل مشهورة‏:‏



وهذه القبائل هي التي كانت تثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد، وقد ساهمت بأنفسها في حرب بُعَاث، كل مع حلفائها‏.‏

وطبعًا فإن اليهود لم يكن يرجى منهم أن ينظروا إلى الإسلام إلا بعين البغضوالحقد؛ فالرسول لم يكن من أبناء جنسهم حتى يُسَكِّن جَأْشَ عصبيتهمالجنسية التي كانت مسيطرة على نفسياتهم وعقليتهم، ودعوة الإسلام لم تكنإلا دعوة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعوإلى التزام الأمانة في كل الشئون، وإلى التقيد بأكل الحلال من طيبالأموال، ومعنى كل ذلك أن قبائل يثرب العربية ستتآلف فيما بينها، وحينئذلابد من أن تفلت من براثن اليهود، فيفشل نشاطهم التجارى، ويحرمون أموالالربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم، بل يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل،فتدخل في حسابها الأموال الربوية التي أخذتها اليهود، وتقوم بإرجاع أرضهاوحوائطها التي أضاعتها إلى اليهود في تأدية الربا‏.‏

كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاولالاستقرار في يثرب؛ ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة ضد الإسلام، وضد رسولالله صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين‏.‏

ويظهر ذلك جليًا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنهاقال ابن إسحاق‏:‏ حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت‏:‏ كنت أحَبَّولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذإنيدونه‏.‏ قالت‏:‏ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباءفي بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي؛ حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطبمُغَلِّسِين، قالت‏:‏ فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت‏:‏ فأتياكَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى‏.‏ قالت‏:‏ فهششت إليهما كماكنت أصنع، فوالله ما التفت إلىَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم‏.‏قالت‏:‏ وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب‏:‏ أهو هو‏؟‏قال‏:‏ نعم والله، قال‏:‏ أتعرفه وتثبته‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فما فينفسك منه‏؟‏ قال‏:‏ عداوته والله ما بقيت‏.‏

ويشهد بذلك أيضًا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سَلاَم رضي اللهعنه فقد كان حبرًا من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله صلىالله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلًا، وألقى إليه أسئلة لايعلمها إلا نبى، ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به ساعتهومكانه، ثم قال له‏:‏ إن اليهود قوم بُهْتٌ، إن علموا بإسلامي قبل أنتسألهم بَهَتُونِى عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءتاليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏أي رجل فيكم عبد الله بن سلام‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ أعلمنا وابنأعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا وفي لفظ‏:‏ سيدنا وابن سيدنا‏.‏ وفي لفظآخر‏:‏ خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفرأيتم إن أسلم عبد الله‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ أعاذه الله منذلك ‏(‏مرتين أو ثلاثا‏)‏، فخرج إليهم عبد الله فقال‏:‏ أشهد أن لا إلهإلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، قالوا‏:‏ شرّنا وابن شرّنا، ووقعوافيه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ فقال‏:‏ يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لاإله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق‏.‏ فقالوا‏:‏كذبت‏.‏

وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود في أول يوم دخل فيه المدينة‏.‏

وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل بالمدينة‏.‏

أما من ناحية الخارج فكان يحيط بها من يدين بدين قريش، وكانت قريش ألد عدوللإسلام والمسلمين، جربت عليهم طوال عشرة أعوام حينما كان المسلمون تحتأيديها كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة والتعذيب، والمقاطعةوالتجويع، وأذاقتهم التنكيلات والويلات، وشنت عليهم حربًا نفسية مضنية معدعاية واسعة منظمة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم وديارهموأموالهم، وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل حبست وعذبت من قدرتعليه، ولم تقتصر على هذا، بل تآمرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليهوسلم، والقضاء عليه وعلى دعوته، ولم تَأْلُ جهدًا في تنفيذ هذهالمؤامرة‏.‏ فكان من الطبيعى جدًا، حينما نجا المسلمون منها إلى أرض تبعدنحو خمسمائة كيلو متر، أن تقوم بدورها السياسى والعسكرى، لما لها منالصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب بصفتها ساكنة الحرمومجاورة بيت الله وسدنته، وتغرى غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة،وفعلًا قامت بذلك كله حتى صارت المدينة محفوفة بالأخطار، وفي شبه مقاطعةشديدة قَلَّتْ لأجلها المستوردات، في حين كان عدد اللاجئين إليها يزيديومًا بعد يوم، وبذلك كانت ‏[‏حالة الحرب‏]‏ قائمة بين هؤلاء الطغاة منأهل مكة ومن دان دينهم، وبين المسلمين في وطنهم الجديد‏.‏

وكان من حق المسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة كما صودرت أموالهم،وأن يديلوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا بها، وأن يقيموا في سبيلحياتهم العراقيل كما أقاموها في سبيل حياة المسلمين، وأن يكيلوا لهؤلاءالطغاة صاعًا بصاع حتى لا يجدوا سبيلًا لإبادة المسلمين واستئصالخضرائهم‏.‏

وهذه هي القضايا والمشاكل الخارجية التي واجهها رسول الله صلى الله عليهوسلم بعدما ورد المدينة، وكان عليه أن يعالجها بحكمة بالغة حتى يخرج منهامكللًا بالنجاح‏.‏

وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالجة كل القضايا أحسن قيام،بتوفيق من الله وتأييده، فعامل كل قوم بما كانوا يستحقونه من الرأفةوالرحمة أو الشدة والنكال،وذلك بجانب قيامه بتزكية النفوس وتعليم الكتابوالحكمة، ولا شك أن جانب التزكية والتعليم والرأفة والرحمة كان غالبًا علىجانب الشدة والعنت حتى عاد الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات، وسيجدالقارئ كل ذلك جليًا في الصفحات الآتية‏.‏1 مرحلة تأسيس المجتمع الإسلامي، وتمكين الدعوة الإسلامية، وقد أثيرت فيهذه المرحلة القلاقل والفتن من الداخل، وزحف فيها الأعداء من الخارج؛ليستأصلوا شأفة المسلمين، ويقلعوا الدعوة من جذورها‏.‏ وقد انتهت هذهالمرحلة بتغلب المسلمين وسيطرتهم على الموقف مع عقد صلح الحديبية في ذىالقعدة سنة ست من الهجرة‏.‏ 2 مرحلة الصلح مع العدو الأكبر، والفراغ لدعوة ملوك الأرض إلى الإسلام،وللقضاء على أطراف المؤامرات‏.‏ وقد انتهت هذه المرحلة بفتح مكة المكرمةفي رمضان سنة ثمان من الهجرة‏.‏ 3 مرحلة استقبال الوفود، ودخول الناس في دين الله أفواجًا‏.‏ وقد امتدتهذه المرحلة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدىعشرة من الهجرة‏.‏ 1 أصحابه الصفوة الكرام البررة رضي الله عنهم‏.‏ 2 المشركون الذين لم يؤمنوا بعد، وهم من صميم قبائل المدينة‏.‏ 3 اليهود‏.‏ 1 بنو قَيْنُقَاع ‏:‏ وكانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة‏.‏ 2 بنو النَّضِير‏:‏ وكانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم بضواحى المدينة‏.‏ 3 بنو قُرَيْظة‏:‏ وكانوا حلفاء الأوس، وكانت ديارهم بضواحى المدينة‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#28

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*المرحلة الأولى: بناء مجتمع جديد :

قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجاركان يوم الجمعة ‏[‏12 ربيع الأول سنة 1 ه/ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م‏]‏،وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال‏:‏ ‏(‏هاهنا المنزل إن شاءالله‏)‏، ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب رضي الله عنه


*بناء المسجد النبوي :


وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو بناء المسجدالنبوي، واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته صلى الله عليه وسلم،فاشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وأسهم في بنائه بنفسه، فكان ينقلاللبِن والحجارة ويقول‏:‏


‏(‏اللهم لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة ** فاغْفِرْ للأنصار والمُهَاجِرَة‏)‏


وكان يقول‏:‏


‏(‏هذا الحِمَالُ لا حِمَال خَيْبَر ** هذا أبَرُّ رَبَّنَا وأطْهَر‏)‏


وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل، حتى إن أحدهم ليقول‏:‏


لئن قَعَدْنا والنبي يَعْمَل ** لذاك مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّل


وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غَرْقَد،فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخَرِبفسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيتالمقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعلسقفه من جريد النخل، وعُمُده الجذوع، وفرشت أرضه بالرمال والحصباء، وجعلتله ثلاثة أبواب، وطوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثلذلك أو دونه، وكان أساسه قريبًا من ثلاثة أذرع‏.‏


وبني بجانبه بيوتًا بالحجر واللبن، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجراتأزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبيأيوب‏.‏


ولم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيهاالمسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصرالقبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها،وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات، وبرلمان لعقد المجالسالاستشارية والتنفيذية‏.‏


وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون‏.‏


وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، تلك النغمة العلوية التي تدوى في الآفاق،وتهز أرجاء الوجود، تعلن كل يوم خمس مرات بأن لا إله إلا الله وأن محمدًارسول الله، وتنفي كل كبرياء في الكون وكل دين في الوجود، إلا كبرياء الله،والدين الذي جاء به عبده محمد رسول الله‏.‏ وقد تشرف برؤيته في المنام أحدالصحابة الأخيار عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه فأقره النبي صلىالله عليه وسلم وقد وافقت رؤياه رؤيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقرهالنبي صلى الله عليه وسلم، والقصة بكاملها مروية في كتب السنة والسيرة‏.‏


*المؤاخاة بين المسلمين :


ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بجانب قيامه ببناء المسجد‏:‏ مركز التجمعوالتآلف، قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بينالمهاجرين والأنصار، قال ابن القيم‏:‏ ثم أخي رسول الله صلى الله عليهوسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلًا،نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، أخي بينهم على المواساة،ويتوارثون بعد الموت دون ذوى الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عزوجل‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة‏.‏


وقد قيل‏:‏ إنه أخي بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية‏.‏‏.‏‏.‏والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابةالنسب عن عقد مؤاخاة فيما بينهم، بخلاف المهاجرين مع الأنصار‏.‏ اه‏.‏


ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يكون أساس الولاء والبراء إلا الإسلام‏.‏


وقد امتزجت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة وإسداء الخير في هذه الأخوة، وملأت المجتمع الجديد بأروع الأمثال‏.‏


روى البخاري‏:‏ أنهم لما قدموا المدينة أخي رسول الله صلى الله عليه وسلمبين عبد الرحمن وسعد ابن الربيع، فقال لعبد الرحمن‏:‏ إني أكثر الأنصارمالًا، فاقسم مالى نصفين، ولى امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي،أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال‏:‏ بارك الله لك في أهلك ومالك،وأين سوقكم‏؟‏ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقِطٍوسَمْنٍ، ثم تابع الغدو، ثم جاء يومًا وبه أثر صُفْرَة، فقال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَهْيَمْ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ تزوجت‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كم سقتإليها‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نواة من ذهب‏.‏


وروى عن أبي هريرة قال‏:‏ قالت الأنصار للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقسمبيننا وبين إخواننا النخيل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فقالوا‏:‏ فتكفونا المؤنةونشرككم في الثمرة‏.‏ قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏


وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهمالمهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرونمن تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيمأودهم‏.‏


وحقًا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمةً فذةً، وسياسةً حكيمةً، وحلًا رشيدًالكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها‏.


*ميثاق التحالف الإسلامي :


وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد هذه المؤاخاة بين المؤمنين،قام بعقد معاهدة أزاح بها ما كان بينهم من حزازات في الجاهلية، وما كانواعليه من نزعات قبلية جائرة، واستطاع بفضلها إيجاد وحدة إسلامية شاملة‏.‏وفيما يلى بنودها ملخصًا‏:‏


هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم‏:‏


1 إنهم أمة واحدة من دون الناس‏.‏


2 المهاجرون من قريش على رِبْعَتِهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدُونعَانِيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهميتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بينالمؤمنين‏.‏


3 وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل‏.‏


4 وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دَسِيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين‏.‏


5 وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم‏.‏


6 ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر‏.‏


7 ولا ينصر كافرًا على مؤمن‏.‏


8 وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم‏.‏


9 وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم‏.‏


10 وإن سلم المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم‏.‏


11 وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله‏.‏


12 وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن‏.‏


13 وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول‏.‏


14 وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه‏.‏


15 وإنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإنعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صَرْف ولا عَدْل‏.‏


16 وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.


*أثر المعنويات في المجتمع :


بهذه الحكمة وبهذا التدبير أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد مجتمعجديد، كانت صورته الظاهرة بيانا وآثارًا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئكالأمجاد بفضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليهوسلم يتعهدهم بالتعليم والتربية، وتزكية النفوس، والحث على مكارم الأخلاق،ويؤدبهم بآداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة‏.‏


سأله رجل‏:‏ أي الإسلام خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏)‏‏.‏


قال عبد الله بن سلام‏:‏ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئت،فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما قال‏:‏ ‏(‏ياأيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليلوالناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام‏)‏


وكان يقول‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه‏)‏


ويقول‏:‏ ‏(‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏)‏


ويقول‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه‏)‏


ويقول‏:‏ ‏(‏المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله‏)‏‏.‏


ويقول: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ويقول: (لا تباغضوا، ولاتحاسدون، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجرأخاه فوق ثلاثة أيام). ويقول: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومنكان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنهكربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) ويقولارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). ويقول: (ليس المؤمن بالذي يشبعوجاره جائع إلى جانبه). ويقول: (سِباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر). وكانيجعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويعدها شعبة من شعب الإيمان . ويقولالصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار). ويقول: (أيما مسلم كسامسلماً ثوباً على عُرى كساه الله من خُضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماًعلى جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاهالله من الرحيم المختوم) ويقول: (اتقوا الناء ولو بشق تمرة، فإن لم تجدفبكلمة طيبة). وبجانب هذا كان يحث حثاً شديداً على الاستعفاف عن المسألة،ويذكر فضائل الصبر والقناعة، فكان يعد المسألة كدوحاً أو خدوشاً أو خموشاًفي وجه السائل اللهم إلا إذا كان مضطراً. كما كان يبين لهم ما في العباداتمن الفضائل والأجر والثواب عند الله، وكان يربطهم بالوحي النازل عليه منالمساء ربطاً مؤثقاً، فكان يقرؤه عليهم ويقرؤونه: لتكون هذه الدراسةإشعاراً بما عليهم من حقوق الدعوة وتبعات الرسلة، فضلاً عن ضرورة الفهموالتدبر. وهكذا هذب تفكيرهم، وربع معنوياتهم، وأيقظ مواهبهم، وزودهم بأعلىالقيم والأقدار، حتى وصولا إلى أعلى قمة من الكمال عرفت في تاريخ البشربعد الأنبياء. يقول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: من كان مستنا فليستنبمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى اللهعليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة؛ وأبرها قلوباً، وأعمقها علما، وأقلهاتكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم،وابتعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانواعلى الهدى المستقيم. ثم إن هذا الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلمكان يتمتع من الصفات المعنوية والظاهرة، ومن الكمالات المواهب، والأمجادوالفضائل، ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال بما جعتله تهوى إليه الأفئدة،وتتفانى عليه النفوس، فما يتكلم بكلمة إلا ويبادر صحابته رضي الله عنهم إلى امتثالها، وما يصدر من إرشاد أو توجيه إلا ويتسابقون إلى العمل به.بمثل هذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني في المدينة مجتمعاًجديداً أروع وأشرف مجتمع عرفة التاريخ، وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع حلاًتنفست له الإنسانية الصعداء، بعد أن كانت قد تعبت في غياهب الزمان ودياجيرالظلمات. وبمثل هذه المعنويات الشامخة تكاملت عناصر المجتمع الجديد الذيواجه كل تيارات الزمان حتى صرف وجهتها، وحول مجرى التاريخ والأيام.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#29

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*معاهدة مع اليهود :

بعد أن أرسى رسول الله صلى الله وعليه وسلم قواعد مجتمع جديد وأمة إسلاميةحديدة، بإقامة الوحدة العقدية والسياسية والنظامية بين المسلمين، بدأبتنظيم علاقاته بغير المسلمين، وكان قصده بذلك توفير الأمن والسلاموالسعادة الخير للبشرية جمعاء، مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد، فسن في ذلكقوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في ذلك العالم الملئ بالتعصبوالأغراض الفردية والعرقية‏.‏

وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود - كما أسلفنا - وهموإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أوخصومة بعد، فعقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة قرر لهم فيهاالنصح والخير، وترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلىسياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام‏.‏

وفيما يلى أهم بنود هذه المعاهدة‏:

*بنود المعاهدة :

- إن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بنى عوف من اليهود‏.‏

2-وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏.‏

3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏.‏

4- وإن بينهم النصح والنصحية، والبر دون الإثم‏.‏

5- وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه‏.‏

6- وإن النصر للمظلوم‏.‏

7- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏.‏

8-وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة‏.‏

9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردهإلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

10- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها‏.‏

11- وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب‏.‏‏.‏ على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قبلهم‏.‏

12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم‏.‏

وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية، عاصمتهاالمدينة، ورئيسها إن صح هذا التعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم،والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين‏.‏

ولتوسيع منطقة الأمن والسلام عاهد النبي صلى الله عليه وسلم قبائل أخرى فيالمستقبل بمثل هذه المعاهدة، حسب ما اقتضته الظروف، وسيأتي ذكر شيء عنها‏.

* الكفاح الدامي :

*استفزازات قريش واتصالهم بعبد الله بن أبي :


تقدم ما أدلى به كفار مكة من التنكيلات والويلات على المسلمين في مكة، ثمما أتوا به من الجرائم التي استحقوا لأجلها المصادرة والقتال، عند الهجرة،ثم إنهم لم يفيقوا من غيهم ولا امتنعوا عن عدوانهم بعدها، بل زادهم غيظاًأن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدنية، فكتبوا إلى عبد الله بنأبي سلول- وكان إذ ذاك مشركاً - بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة - فمعلواأنهم كانوا قد اتفقوا عليه، وكادوا يجعلونه ملكاً على أنفسهم لولا أن هاجررسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وآمنوا به - كتبوا إليه وإلى أصحابهالمشركين، يقولون لهم في كلمات باتة‏:‏

إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم‏.‏

وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر إخوانه المشركينمن أهل مكة - وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما يراه أنهاستبله ملكه- يقول عبد الرحمن بن كعب‏:‏ فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومنكان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم،فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال‏:‏ ‏(‏لقد بلغ وعيدقريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم،تريدون أن تقالوا أبناءكم وإخوانكم‏)‏، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى اللهعليه وسلم تفرقوا‏.‏

امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك، لما رأي خوراً أو رشداًفي أصحابه، ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجدفرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معهاليهود، ليعينوه على ذلك، ولكن تلك هي حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التيكانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حين‏.‏

*إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام :

ثم أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة،فقال لأمية‏:‏ انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت، فخرج به قريباً مننصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال‏:‏ يا أبا صفوان، من هذا معك‏؟‏فقال‏:‏ هذا سعد، فقال له أبو جهل‏:‏ ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتمالصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبيصفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد - ورفع صوته عليه‏:‏ أماوالله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليكم منه‏:‏ طريقك على أهل المدينة‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#30

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

قريش تهدد المهاجرين :



وكأن قريشاً كانت تعتزعلى شر أشد من هذا، وتفكر في القيام بنفهسا للقضاء على المسلمين، وخاصة على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏




ولم يكن هذا مجرد وهم أو خيال، فقد تأكد لدى رسول الله صلى الله عليه وسلممن مكائد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهراً، أو فيحرس من الصحابة‏.‏ روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضى الله عنهاقالت‏:‏ سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال‏:‏‏(‏ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة‏)‏، قالت‏:‏ فبينما نحن كذلكسمعنا خشخشة سلاح، فقال‏:‏ ‏(‏من هذا ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ سعد بن أبي وقاص، فقالله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما جاء بك‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ وقع فينفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسولالله صلى الله عليه وسلم، ثم نام‏.‏




ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي، بل كان ذلك أمراً مستمراً، فقدروى عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتىنزل‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏،فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال‏:‏ ‏(‏يا أيهاالناس، انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل‏)‏‏.‏




ولم يكن الخطر مقتصراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يحدقبالمسلمين كافة، فقد روى أبي بن كعب، قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى اللهعليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة،وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه‏.






*الإذان بالقتال :




في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة، وتنبئ عنقريش أنهم لا يفيقون عن غيهم ولا يمتنعون عن تمردهم بحال، أنزل الله تعالىالإذن بالقتال للمسلمين ولم يفرضه عليهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَلِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىنَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏‏.‏




وأنزل معه آيات بين لهم فيها أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل وإقامةشعائر الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِوَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏41‏]‏‏.‏




وكان الإذن مقتصراً على قتال قريش، ثم تطور فيما بعد مع تغير الظروف حتىوصل إلى مرحلة الوجوب، وجاوز قريشاً إلى غيرهم، ولا بأس أن نذكر تلكالمراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر الأحداث‏:‏




1- اعتبار مشركي قريش محاربين؛ لأنهم بدأوا بالعدوان، فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ويصادروا أموالهم دون غيرهم من بقية مشركي العرب‏.‏




2- قتال كل من تمالأ من مشركي العرب مع قريش واتحد معهم، وكذلك كل من تفرد بالاعتداء على المسلمين من غير قريش‏.‏




3- قتال من خان أو تحيز للمشركين من اليهود الذين كان لهم عقد وميثاق معرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء‏.‏




4- قتال من بادأ بعداوة المسلمين من أهل الكتاب، كالنصارى، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏




5- الكف عمن دخل في الإسلام، مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً أو غيرذلك، فلا يتعرض لنفسه وماله إلا بحق الإسلام، وحسابه على الله‏.‏




ولما نزل الإذن بالقتال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبسط سيطرتهعلى الطريق الرئيس الذي تسلكه قريش من مكة إلى الشام في تجاراتهم، واختارلذلك خطتين‏:‏




الأولى‏:
‏ عقد معاهدات الحلف أو عدم الاعتداء مع القبائل التي كانت مجاورةلهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وقد عقدصلى الله عليه وسلم معاهدة مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانتمساكنهم على ثلاث مراحل من المدينة، كما عقد معاهدات أخرى أثناء دورياتهالعسكرية، وسيأتي ذكرها‏.‏




الثانية‏:‏
إرسال البعوث واحدة تلو الأخرى إلى هذا الطريق‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#31

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الغزوات والسيرايا قبل بدر :


ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ بالتحركات العسكرية فعلاً بعد نزول الإذنبالقتال وكانت أشبه بالدوريات الاستطلاعية، وكان المطلوب منها كماأشرنا‏:‏

الاستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة‏.‏

عقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق‏.‏

إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم‏.‏

إنذار قريش عُقبَى طيشها، حتى تفيق عن غَيها الذي لا يزال يتوغل فيأعماقها، وعلها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلىالسلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم، وعن الصد عن سبيلالله، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة، حتى يصير المسلمونأحراراً في إبلاغ رسالة الله في ربوع الجزيرة‏.‏


وفيما يلى أحوال هذه السرايا بالإيجاز‏:‏

1- سرية سيف البحر

في رمضان سنة 1 ه، الموافق مارس سنة 623م، أمر رسول الله صلى الله عليهوسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً منالمهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام فيثلاثمائة رجل، فلبغوا سيف البحر من ناحية العيص، فالتقوا واصطفوا للقتال،فمشى مجدي بن عمرو الجني وكان حليفاً للفريقين جميعاً بين هؤلاء وهؤلاءحتى جحز بينهم فلم يقتتلوا‏.‏

وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبيض، وحمله أبو مرثد كَناز بن حصين الغَنَوي‏.‏


2-سرية رابغ‏:‏

في شوال سنة 1 من الهجرة، الموافق أبريل سنة 632م، بعث لها رسول الله صلىالله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين رجلاً من المهاجرين،فلقى أبا سفيان - وهو في مائتين - على بطن رابغ، وقد ترامي الفريقانبالنبل، ولم يقع قتال‏.‏

وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمروالبهراني، وعتبه بن غزوان المارني، وكانا مسلمين خرجا مع الكفار ليكون ذلكوسيلة للوصول إلى المسلمين، وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثةبن المطلب بن عبد مناف‏.‏


3- سرية الخرار

في ذي العقدة سنة 1 ه، الموافق مايو سنة 623م، بعث لها رسول الله صلى اللهعليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلا يعترضون عيراً لقريش، وعهد إليهإلا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى بلغواالخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس‏.‏

كان لواء سعد رضى الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو‏.‏


4-غزة الأبواء أو ودان‏:‏

في صفر سنة 2 ه، الموافق أغسطس سنة 623م، خرج رسول الله صلى الله عليهوسلم فيها بنفسه في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش، حتىبلغ ودان، فلم يلق كيداً، واستخلف فيها على المدينة سعد بن عبادة رضى اللهعنه‏.‏

وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري، وكان سيد بنى ضمرةفي زمانه، وهذا نص المعاهدة‏:‏ ‏(‏هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمره،فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أنيحاربوا دين الله ن ما بل بحر صوفة وأن النبي إذا دعاهم لنصرهأجابوه‏)‏‏.‏

وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان اللواء أبيض وحامله حمزة بن عبد المطلب‏.‏


5- غزوة بواط‏:‏

في شهر ربيع الأول سنة 2 ه الموافق سبتمبر سنة 623م، خرج فيها رسول اللهصلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه، يعترض عيراً لقريش فيها أمية بنخلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمئة بعير، فبلغ بواطا من ناحيةرضوى ولم يلق كيدا‏.‏

واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه‏.‏


6-غزوة سفوان

في شهر ربيع الول سنة 2 ه، الموافق سبتمبر سنة 623م، أغار كرز بن جابرالفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشيفخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من أصحابه لمطارته، حتىبلغ وادياً يقال له‏:‏ سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه،فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى‏.‏

واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله علي بن أبي طالب‏.‏


7- غزوة ذي العشيرة‏:‏

في جمادى الأولى، وجمادى الآخرة سنة 2 ه، الموافق نوفمبر وديسمبر سنة623ه، خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال‏:‏ فيمائتين، من المهاجرين، ولم يكره أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثينبعيراً يعتقبونها، يعترضون عيراً لقريش، ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبربفصولها من مكة، فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتتهبأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سبباًلغزوة بدر الكبرى‏.‏

وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى، ورجوعه في أوائلجمادى الآخرة، على ما قاله ابن إسحاق، ولعل هذه هو سبب اختلاف أهل السيرفي تعيين شهر هذه الغزوة‏.‏

وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بنى مدلج وحلفائهم من بنى ضمرة‏.‏

واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد الملطب رضي الله عنه‏.‏


8- سرية نخلة‏:‏

في رجب سنة 2 ه، الموافق يناير سنة 624م، بعث رسول الله صلى الله عليهوسلم كتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه‏.‏فسار عبد الله ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه‏:‏ ‏(‏إذا نظرت في كتابيهذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف، فترصد بها عير قريش وتعلم لنامن أخبارهم‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لايستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض،فنهضوا كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبةبن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه‏.‏

وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماًوتجارة، وفيها عمرو بن الخضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة،والحكم ابن كيسان مولى بني المغيرة‏.‏ فتشاور المسلمون وقالوا‏:‏ نحن فيآخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإنتركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء، فرمى أحدهم عمرو بنالحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعيروالأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أو خمس كان فيالإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام‏.‏

وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، وقال‏:‏ ‏(‏ما أمرتكم بقتالفي الشهر الحرام‏)‏ وتوقف عن التصرف في العير والأسيرين‏.‏

ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله،وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل وأن ما عليهالمشروكون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِالشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّعَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُأَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَالْقَتْلِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرةالمقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها فيمحاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حينتقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم‏؟‏ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة،فأصبح انتهاكها معرة وشناعة‏؟‏ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرهاالمشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعارة‏.‏

وبعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، ‏,‏أدى دية المقتول إلى أوليائه‏.‏

تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في احد منها سلب الأموال وقتلالرجال إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري، فالبدايةإنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من الأفاعيل‏.‏

وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهمالخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة فيغاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمينيستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقلتوا ويأسروا رجالهم،ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهمإلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم، ويأخذوا طريقالصلاح والموادعة - كما فعلت جهينة وبنو ضمرة ازدادوا حقداً وعيظاً، وصممصناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل‏:‏ من إبادةالمسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر‏.‏

أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش فيشهر شعبان سنة 2 ه، وأنزل في ذلك آيات بينات‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ فِيسَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّاللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْوَأَخْرِجُ وهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَالْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىيُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءالْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌوَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِفَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏190‏:‏ 193‏]‏‏.‏

ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر، يعلمهم فيها طريقةالقتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه‏:‏ ‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُالَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْفَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّىتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَمِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوافِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْوَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْوَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏:‏ 7‏]‏‏.‏

ثم ذم الله الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال‏:‏‏{‏فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُرَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالاستعداد له هو عين ما كانت تقتضيهالأحوال، ولو كان هناك قائد يسبر أغوار الظروف لأمر جنده بالاستعداد لجميعالطورائ، فكيف بالرب العليم المتعال، فالظروف كانت تقتضى عراكاً دامياًبين الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرةالمشركين وحميتهم، آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر‏.‏

وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي، وأن النصروالغلبة فيه للمسلمين نهائيا، انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراجالمشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأساريوالإثخان في الأرض حتى تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبةالمسلمين نهائياً‏.‏ ولكن ترك كل ذلك مستوراً حتى يأتي كل رجل بما فيه منالتحمس في سبيل الله‏.‏

وفي هذه الأيام - في شعبان سنة 2 ه / فبراير 624م - أمر الله تعالى بتحويلالقبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقينمن اليهود الذين كانوا قد خلوا صفوف المسلمين لإثارة البلبلة، انكشفوا عنالمسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير منأهل الغدر والخيانة‏.‏

ولعل في تحويل القبلة إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد لا ينتهي إلى بعداحتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيدأعدائهم، وإن كانت بأيديهم فعلا فلابد من تخليصها يوما ما إن كانوا علىالحق‏.‏

وبهده الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين، واشتد شوقهم إلى الجهاد في سبيل الله، ولقاء العدو في معركة فاصلة لإعلاء كلمة الله‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#32

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة



*سبب الغزوة :


سبق في ذكر غرزة العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، فلما

قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بنعبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلىالحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة وأخبرارسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر‏.‏

وكانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها‏:‏ ألف بعير موقرةبأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي‏.‏ ولم يكن معها من الحرب إلا نحوأربعين رجلا‏.‏


إنها فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة، تتألملها قلوبهم على مر العصور، لذلك أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلمقائلاً‏:‏ ‏(‏هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل اللهينفلكموها‏)‏‏.‏


ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكنيتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة - بدل العير- هذا الاصطدامالعنيف في بدر؛ ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضىرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السراياوالغزوات الماضية؛ ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغروة‏


*مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات :


واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشررجلاً 313، أو 314، أو 317 رجلاً 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 منالأوس و 170 من الخرزج‏.‏ ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولااتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان‏:‏ فرس للزبير بنالعوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبالرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيراً واحد‏.‏


واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة‏.‏


ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض‏.‏


وقسم جيشه إلى كتيبتين‏:‏


1- كتيبة المهاجرين‏:‏ وأعطى رايتها علي بن أبي طالب، ويقال لها‏:‏ العقاب‏.‏


2- وكتبية الأنصار‏:‏ وأعطى رايتها سعد بن معاذ‏.‏ وكانت الرايتان سوداوين ‏.‏


وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو-وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش - كما سبق - وجعل على الساقة قيس بنأبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلىللجيش‏.‏


وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقبالمدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء،فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى اليسار، وانحرف ذات اليمين على النازيةيريد بدراً فسلك في ناحية منه حتى جزع ودياً يقال له‏:‏ رحقان بين النازيةوبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، ومنهنالك بعث بسبس بن عمرو الجني وعدي بن أبي الزغباء الجهي إلى بدر يتجسسانله أخبار العير‏.


*النذير في مكة :


وأما خبر العير فإن أبا سفيان - وهو المسئول عنها - كان على غاية منالحيطة والحذر، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسسالأخبار ويسأل من لقى من الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأنمحمداً صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجرأبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلىعيرهم؛ ليمنعوه من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج ضمضم سريعاً حتىأتى مكة، فخرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد جدع أنفه وحول رحله،وشقق قميصه، وهو يقول‏:‏ يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة أموالكم مع أبيسفيان قد عرض لها لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث‏.‏‏.‏‏.‏الغوث‏.‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#33

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*أهل مكة يتجهزون للغزو :

فتحفز الناس سراعًا وقالوا‏:‏ أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابنالحضرمي‏؟‏ كلا والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين‏:‏ إما خارج، وإماباعث مكانه رجلًا، وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبيلهب، فإنه عوض عنه رجلًا كان له عليه دين، وحشدوا من حولهم من قبائلالعرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدى فلم يخرج منهم أحد‏.





*قوام الجيش المكي :


وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معهمائة فرس وستمائة دِرْع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائدهالعام أبا جهل ابن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش،فكانوا ينحرون يومًا تسعًا ويومًا عشرًا من الإبل‏.‏



*مشكلة قبائل بني بكر :


ولما أجمع هذا الجيش على المسير ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر منالعداوة والحرب، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف، فيكونوا بيننارين، فكاد ذلك يثنيهم، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سُرَاقة بنمالك بن جُعْشُم المدلجى سيد بني كنانة فقال لهم‏:‏ أنا لكم جار من أنتأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه‏.





*جيش مكة يتحرك :


وحينئذ خرجوا من ديارهم، كما قال الله‏:‏ ‏{‏بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِوَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏47‏]‏، وأقبلوا كما قالرسول الله صلى الله عليه وسلم بحدهم وحديدهم يحادون الله ويحادون رسوله‏{‏وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ‏}‏ ‏[‏ القلم‏:‏25‏]‏، وعلى حميةوغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لجرأة هؤلاء على قوافلهم‏.‏


تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر، وسلكوا في طريقهم وادىعُسْفَان، ثم قُدَيْدًا، ثم الجُحْفَة، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبيسفيان يقول لهم فيها‏:‏ إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم،وقد نجاها الله فارجعوا‏.‏




* العير تفلت :


وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسى، ولكنه لم يزلحذرًا متيقظًا، وضاعف حركاته الاستكشافية، ولما اقترب من بدر تقدم عيرهحتى لقى مَجْدِىَّ بن عمرو، وسأله عن جيش المدينة، فقال‏:‏ ما رأيت أحدًاأنكره إلا إني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنلهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما،ففته فإذا فيه النوى، فقال‏:‏ هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى عيرهسريعًا، وضرب وجهها محولًا اتجاهها نحو الساحل غربًا، تاركًا الطريقالرئيسى الذي يمر ببدر على اليسار، وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضةجيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة‏.





* هَمّ الجيش المكي بالرجوع، ووقوع الانشقاق فيه :


ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهلفي كبرياء وغطرسة قائلًا‏:‏ والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بهاثلاثًا، فننحر الجَزُور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القِيان،وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا‏.‏


ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخْنَس بن شَرِيق بالرجوع فعصوه،فرجع هو وبنوزُهْرَة وكان حليفًا لهم، ورئيسًا عليهم في هذا النفير فلم يشهد بدرًازهرى واحد، وكانوا حوالى ثلاثمائة رجل،واغتبطت بنو زهرة بَعْدُ برأيالأخنس بن شريق، فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا‏.‏


وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل، وقال‏:‏ لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع‏.‏


فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة وهو يقصد بدرًا فواصلسيره حتى نزل قريبًا من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادىبدر‏.‏



*موقف الجيش الإسلامي في ضيق وحرج :


أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهولا يزال في الطريق بوادي ذَفِرَان خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعدالتدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال لاجتناب اللقاء الدامي، وأنه لا بدمن إقدام يبني على الشجاعة والبسالة، والجراءة، والجسارة، فمما لا شك فيهأنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيمًا لمكانة قريشالعسكرية، وامتدادًا لسلطانها السياسي، وإضعافًا لكلمة المسلمين وتوهينًالها،بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسدًا لا روح فيه، ويجرؤ علىالشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة‏.‏


ثم هل هناك ضمان للمسلمين بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة،حتى ينقل المعركة إلى أسوارها، ويغزو المسلمين في عقر دارهم‏؟‏ كلا‏!‏ فلوحدث من جيش المدينة نكول ما، لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم‏.





* المجلس الاستشاري :


ونظرًا إلى هذا التطور الخطير المفاجيء عقد رسول الله صلى الله عليه وسلممجلسًا عسكريًا استشاريًا أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل فيهالرأي مع عامة جيشه وقادته‏.‏ وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس،وخافوااللقاء الدامى،وهم الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَمِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَلَكَارِهُون َ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَايُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏5، 6‏]‏،وأما قادة الجيش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن،ثم قام عمر بن الخطابفقال وأحسن،ثم قام المقداد بن عمرو فقال‏:‏ يا رسول الله، امض لما أراكالله،فنحن معك،والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏‏{‏فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏24]‏، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذيبعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتىتبلغه‏.‏


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له به‏.‏


وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسولالله صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار؛ لأنهم كانوا يمثلونأغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لمتكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادةالثلاثة‏:‏ ‏(‏أشيروا علىّ أيها الناس‏)‏ وإنما يريد الأنصار، وفطن إلىذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ‏.‏


فقال‏:‏ والله، ولكأنك تريدنا يا رسول الله‏؟‏


قال‏:‏ ‏(‏أجل‏)‏‏.‏


قال‏:‏ فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك علىذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت،فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلفمنا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب،صُدَّق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تَقَرَّ به عينك، فسِرْ بنا علىبركة الله‏.‏


وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعلك تخشىأن تكون الأنصار ترى حقًا عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عنالأنصار وأجيب عنهم‏:‏ فاظعن حيث شئت، وصِلْ حَبْل من شئت، واقطع حبل منشئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينامما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فهو الله لئن سرت حتىتبلغ البرك من غِمْدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحرفخضته لخضناه معك‏.‏


فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال‏:‏‏(‏سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكإنيالآن أنظر إلى مصارع القوم‏)‏‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#34

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الجيش الإسلامي يواصل سيره :

ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَفِرَان، فسلك على ثنايا يقاللها‏:‏ الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له‏:‏ الدَّبَّة، وتركالحَنَّان بيمين وهو كَثِيب عظيم كالجبل ثم نزل قريبًا من بدر‏.‏


*الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الاستكشاف :

وهناك قام صلى الله عليه وسلم بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغارأبي بكر الصديق رضي الله عنه وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا همابشيخ من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمدوأصحابه سأل عن الجيشين زيادة في التكتم ولكن الشيخ قال‏:‏ لا أخبركما حتىتخبراني ممن أنتما‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذاأخبرتنا أخبرناك‏)‏، قال‏:‏ أو ذاك بذاك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏

قال الشيخ‏:‏ فإنه بلغنى أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كانصدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به جيش المدينة‏.‏وبلغنى أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليومبمكان كذا وكذا للمكان الذي به جيش مكة‏.‏

ولما فرغ من خبره قال‏:‏ ممن أنتما‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏نحن من ماء‏)‏، ثم انصرف عنه، وبقى الشيخ يتفوه‏:‏ ما منماء‏؟‏ أمن ماء العراق‏؟‏


*الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي :

وفي مساء ذلك اليوم بعث صلى الله عليه وسلم استخباراته من جديد ليبحث عنأخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين؛ على بن أبي طالبوالزبير بن العوام وسعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدرفوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض، وجاءوا بهما إلىالرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فاستخبرهما القوم، فقالا‏:‏ نحنسقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم، ورجوا أن يكونا لأبيسفيان لاتزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة فضربوهماضربًا موجعًا حتى اضطر الغلامان أن يقولا‏:‏ نحن لأبي سفيان فتركوهما‏.‏

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال لهم كالعاتب‏:‏‏(‏إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهمالقريش‏)‏‏.‏

ثم خاطب الغلامين قائلًا‏:‏ ‏(‏أخبرإني عن قريش‏)‏، قالا‏:‏ هم وراء هذاالكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما‏:‏ ‏(‏كم القوم‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏كثير‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ما عدتهم‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ لا ندرى، قال‏:‏ ‏(‏كم ينحرونكل يوم‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف‏)‏، ثم قال لهما‏:‏‏(‏فمن فيهم من أشراف قريش‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبوالبَخْتَرىّ بن هشام، وحكيم بن حِزام، ونَوْفَل بن خويلد، والحارث بنعامر، وطُعَيْمَة بن عدى، والنضر بن الحارث، وَزمْعَة بن الأسود، وأبو جهلبن هشام، وأمية بن خلف في رجال سمياهم‏.‏

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال‏:‏ ‏(‏هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها‏)‏‏.‏


* نزول المطر :

وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرًا واحدًا، فكان على المشركين وابلًاشديدًا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجسالشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل،وربط به على قلوبهم
‏.‏



*الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية :


وتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر،ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهناقام الحُبَاب بن المنذر كخبير عسكرى وقال‏:‏ يا رسول الله، أرأيت هذاالمنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه‏؟‏ أم هوالرأي والحرب والمكيدة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بل هو الرأي والحرب والمكيدة‏)‏‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتى أدنى ماءمن القوم قريش فننزله ونغوّر أي نُخَرِّب ما وراءه من القُلُب، ثم نبنيعليه حوضًا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسولالله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد أشرت بالرأي‏)‏‏.‏

فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو،فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب‏.




*مقر القيادة :

وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلىالله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقرًا لقيادته؛ استعدادًا للطوارئ،وتقديرًا للهزيمة قبل النصر، حيث قال‏:‏

يا نبى الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقىعدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانتالأخرى جلست على ركائبك فلحقت بِمَنْ وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقواميا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفواعنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك‏.‏

فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير، وبنيالمسلمون عَرِيشًا على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقى لميدان القتال،ويشرف على ساحة المعركة‏.‏

كما تم اختيار فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته‏.




* تعبئة الجيش وقضاء الليل :

ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه‏.‏ ومشى في موضع المعركة، وجعليشير بيده‏:‏ ‏(‏هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إنشاء الله‏)‏‏.‏ ثم بات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرةهنالك، وبات المسلمون ليلهم هادئي الأنفاس منيري الآفاق، غمرت الثقةقلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم؛ يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهمصباحًا‏:‏ ‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُعَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْرِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِالأَقْدَامَ‏} [‏الأنفال‏:‏11‏]‏‏.‏

كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابعة عشرة من رمضان في السنة الثانية منالهجرة، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في 8 أو12 من نفس الشهر‏.




*الجيش المكي في عرصة القتال، ووقوع الانشقاق فيه :


أما قريش فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى، ولما أصبحت أقبلت فيكتائبها، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر‏.‏ وأقبل نفر منهم إلى حوض رسولالله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏[‏دعوهم‏]‏، فما شرب أحد منهم يومئذ إلاقتل، سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكانإذا اجتهد في اليمين قال‏:‏ لا والذي نجاني من يوم بدر‏.‏

فلما اطمأنت قريش بعثت عُمَيْر بن وهب الجُمَحِى للتعرف على مدى قوة جيشالمدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال‏:‏ ثلاثمائة رجل،يزيدون قليلًا أو ينقصون، ولكن أمهلونى حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد‏؟‏

فضرب في الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئًا، فرجع إليهم فقال‏:‏ ما وجدتشيئًا، ولكنى قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحملالموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أنيقتل رجل منهم حتى يقتل رجلًا منكم،فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خيرالعيش بعد ذلك‏؟‏ فروا رأيكم‏.‏

وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل المصمم على المعركة تدعو إلى العودةبالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة ابنربيعة فقال‏:‏ يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، فهل لكإلى خير تذكر به إلى آخر الدهر‏؟‏ قال‏:‏ وما ذاك يا حكيم‏؟‏ قال‏:‏ ترجعبالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى المقتول في سرية نخلة فقالعتبة‏:‏ قد فعلت‏.‏ أنت ضامن علىّ بذلك‏.‏ إنما هو حليفي، فعلى عقله‏[‏ديته‏]‏ وما أصيب من ماله‏.‏

ثم قال عتبة لحكيم بن حزام‏:‏ فائت ابن الحَنْظَلِيَّةِ أبا جهل، والحنظلية أمه فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره‏.‏

ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال‏:‏ يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعونبأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لايزال الرجل ينظر فيوجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته،فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإنكان غير ذلك ألْفَاكُمْ ولم تَعَرَّضُوا منه ما تريدون‏.‏

وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل وهو يهيئ درعًا له قال‏:‏ يا أبا الحكم،إن عتبة أرسلنى بكذا وكذا، فقال أبو جهل‏:‏ انتفخ والله سَحْرُهُ حين رأيمحمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، ومابعتبة ما قال، ولكنه قد رأي أن محمدًا وأصحابه أكلة جَزُور، وفيهم ابنهوهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديمًا وهاجر فَتَخَوَّفَكُمْ عليه‏.‏

ولما بلغ عتبة قول أبي جهل‏:‏ انتفخ والله سحره، قال عتبة‏:‏ سيعلممُصَفِّر اسْتَه من انتفخ سحره، أنا أم هو‏؟‏ وتعجل أبو جهل، مخافة أنتقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمى أخيعمرو بن الحضرمى المقتول في سرية عبد الله بن جحش فقال‏:‏ هذا حليفك ‏[‏أيعتبة‏]‏ يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانْشُد خُفْرَتَك، ومَقْتَلَ أخيك، فقام عامر فكشف عن استه، وصرخ‏:‏ واعمراه، واعمراه،فحمى القوم، وحَقِبَ أمرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد علىالناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة‏.‏ وهكذا تغلب الطيش على الحكمة، وذهبتهذه المعارضة دون جدوى‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#35

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الجيشان يتراآن :

ولما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائها وفَخْرها تُحَادُّك وتكذب رسولك،اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحْنِهُم ‏[‏الغداة‏]‏‏)‏ وقد قال رسولالله صلى الله عليه وسلم ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر‏:‏‏(‏إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوهيَرْشُدُوا‏)‏‏.‏

وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقعأمر عجيب، فقد كان في يديه قِدْح يعدل به، وكان سَوَاد بن غَزِيَّةمُسْتَنْصِلًا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال‏:‏ ‏(‏استو يا سواد‏)‏،فقال سواد‏:‏ يا رسول الله، أوجعتنى فأقدنى، فكشف عن بطنه وقال‏:‏‏(‏استقد‏)‏، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال‏:‏ ‏(‏ما حملك على هذا ياسواد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ يا رسول الله، قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهدبك أن يمس جلدى جلدك‏.‏ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير‏.‏

ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بألا يبدأوا القتال حتى يتلقوامنه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب، فقال‏:‏‏(‏إذا أكثبوكم يعنى اقتربوا منكم فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلواالسيوف حتى يغشوكم‏)‏ ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة،وقام سعد بنمعاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش‏.‏

أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال‏:‏ اللهم أقطعناللرحم، وآتانا بما لانعرفه،فأحِنْه الغداة،اللهم أينا كان أحب إليك وأرضىعندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْجَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِنتَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْكَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏19‏]‏


* ساعة الصفر وأول وقود المعركة :

وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومى وكان رجلًا شرسًا سيئالخلق خرج قائلًا‏:‏ أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتندونه‏.‏ فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فلما التقياضربه حمزة فأطَنَّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجلهدمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه،ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض‏.




*المبارزة :


وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسانقريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بنعتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شبابالأنصار عَوْف ومُعَوِّذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة،فقالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ رهط من الأنصار‏.‏ قالوا‏:‏ أكِِفَّاءكرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم‏:‏ يا محمد،أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قميا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا على‏)‏، فلما قاموا ودنوا منهم،قالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ فأخبروهم، فقالوا‏:‏ أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدةوكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد‏.‏ فأماحمزة وعلى فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبينقرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كَرَّ على وحمزة على عتبةفقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل ضَمِنًا حتى ماتبالصفراء،بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون فيطريقهم إلى المدينة‏.‏ وكان على يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم‏:‏‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ‏}‏ الآية‏[‏الحج‏:‏19‏]‏‏.




* الهجوم العام :

وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة للمشركين؛ إذ فقدوا ثلاثة منخيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة،فاستشاطوا غضبًا،وكروا على المسلمين كرةرجل واحد‏.‏

وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليهتلقوا هجمات المشركين المتتالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقفالدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون‏:‏ أحَد أحَد‏.‏



* الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه :

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشدربه ما وعده من النصر، ويقول‏:‏ ‏(‏اللّهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنيأنشدك عهدك ووعدك‏)‏، حتى إذا حَمِىَ الوَطِيسُ، واستدارت رحى الحرب بشدةواحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال‏:‏ ‏(‏اللهم إن تهلك هذه العصابةاليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا‏)‏‏.‏ وبالغ فيالابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال‏:‏ حسبك يارسول الله، ألححت على ربك‏.‏

وأوحى الله إلى ملائكته‏:‏ ‏{‏أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَآمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏،وأوحى إلى رسوله‏:‏ ‏{‏أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍمِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏9‏]‏ أي إنهم ردف لكم،أو يردف بعضهم بعضًا أرسالًا، لا يأتون دفعة واحدة‏.‏


* نزول الملائكة :

وأغفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال‏:‏‏(‏أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثَنَاياه النَّقْعُ‏)‏ ‏[‏أي الغبار‏]‏وفي رواية ابن إسحاق‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبشر ياأبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، وعلى ثناياهالنقع‏)‏‏.‏

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرعويقول‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏‏[‏القمر‏:‏45‏]‏ ،ثم أخذ حَفْنَةً من الحَصْبَاء، فاستقبل بها قريشًاوقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏ ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحدإلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله‏:‏‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏17‏]‏‏.‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#36

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الهجوم المضاد :

وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال‏:‏ ‏(‏شدوا‏)‏،وحرضهم على القتال، قائلًا‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليومرجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة‏)‏، وقالوهو يحضهم على القتال‏:‏ ‏(‏قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض‏)‏،‏[‏وحينئذ‏]‏ قال عُمَيْر بن الحُمَام‏:‏ بَخْ بَخْ‏.‏ فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما يحملك على قولك‏:‏ بخ بخ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا، واللهيا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال‏:‏ ‏(‏فإنك من أهلها‏)‏‏.‏فأخرج تمرات من قَرَنِه فجعل يأكل منهن، ثم قال‏:‏ لئن أنا حييت حتى آكلتمراتى هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتىقتل‏.‏


وكذلك سأله عوف بن الحارث ابن عفراء فقال‏:‏ يا رسول الله، ما يضحك الربمن عبده‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏غَمْسُه يده في العَدُوّ حاسرًا‏)‏، فنزع درعا كانتعليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل‏.‏


وحين أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم المضاد كانت حدةهجمات العدو قد ذهبت وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير فيتعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم وقد كان نشاطهمالحربي على شبابه قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعونالأعناق‏.‏ وزادهم نشاطًا وحدة أن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبفي الدرع، وقد تقدمهم فلم يكن أحد أقرب من المشركين منه، وهو يقول في جزموصراحة‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ فقاتلالمسلمون أشد القتال ونصرتهم الملائكة‏.‏ ففي رواية ابن سعد عن عكرمةقال‏:‏ كان يومئذ يَنْدُر رأس الرجل لا يدرى من ضربه، وتندر يد الرجل لايدرى من ضربها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجلمن المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول‏:‏ أقدمحَيْزُوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خطمأنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخْضَرَّ ذلك أجمع، فجاء الأنصارى فحدث بذلكرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏صدقت، ذلك من مدد السماءالثالثة‏)‏‏.‏


وقال أبو داود المازنى‏:‏ إني لأتبع رجلًا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسهقبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيرى، وجاء رجل من الأنصاربالعباس بن عبد المطلب أسيرًا،فقال العباس‏:‏ إن هذا والله ما أسرني، لقدأسرني رجل أجلح، من أحسن الناس وجهًا على فرس أبْلَق، وما أراه في القوم،فقال الأنصاري‏:‏ أنا أسرته يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏(‏اسكت فقد أيدك اللهبملك كريم‏)‏‏.‏


وقال علي‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ولأبي بكر‏:‏‏(‏مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، أويكون في القتال‏)‏‏.‏



* إبليس ينسحب عن ميدان القتال :


ولما رأى إبليس وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي كماذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت فلما رأي ما يفعل الملائكة بالمشركينفر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام وهو يظنه سراقة فوكز في صدرالحارث فألقاه، ثم خرج هاربًا، وقال له المشركون‏:‏ إلى أين يا سراقة‏؟‏ألم تكن قلت‏:‏ إنك جار لنا، لا تفارقنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَى مَالاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏48‏]‏، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر‏.





*الهزيمة الساحقة:


وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملاتالمسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين فيالفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمتعليهم الهزيمة‏.‏




* صمود أبي جهل :


أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفهحاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسةومكابرة‏:‏ لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد،ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لانرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلًا منكم قتل منهم رجلًا، ولكنخذوهم أخذًا حتى نعرفهم بسوء صنيعهم‏.‏


ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلًا حتى أخذتالصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين‏.‏ نعم، بقى حوله عصابة منالمشركين ضربت حوله سياجًا من السيوف، وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجومالمسلمين بددت هذا السياج، وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية،ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدى غلامين أنصاريين‏.‏




*مصرع أبي جهل :


قال عبد الرحمن بن عوف رضي اله عنه إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذاعن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال ليأحدهما سرًا من صاحبه‏:‏ يا عم، أرني أبا جهل، فقلت‏:‏ يابن أخي، فما تصنعبه‏؟‏ قال‏:‏ أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ والذينفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبتلذلك‏.‏ قال‏:‏ وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبيجهل يجول في الناس‏.‏ فقلت‏:‏ ألا تريان‏؟‏ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه،قال‏:‏ فابتدراه فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم، فقال‏:‏ ‏(‏أيكما قتله‏؟‏‏)‏ فقال كل واحد منهما‏:‏ أنا قتلته،قال‏:‏ ‏(‏هل مسحتما سيفيكما‏؟‏‏)‏ فقالا‏:‏ لا‏.‏ فنظر رسول الله صلىالله عليه وسلم إلى السيفين فقال‏:‏ ‏(‏كلاكما قتله‏)‏، وقضى رسول اللهصلى الله عليه وسلم بسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بنعمرو بن الجموح ومُعَوِّذ ابن عفراء‏.‏


وقال ابن إسحاق‏:‏ قال معاذ بن عمرو بن الجموح‏:‏ سمعت القوم، وأبو جهل فيمثل الحَرَجَة والحرجة‏:‏ الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصلإليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذهالشجرة وهم يقولون‏:‏ أبو الحكم لا يخلص إليه، قال‏:‏ فلما سمعتها جعلتهمن شاني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطَنَّتْ قدمهأطارتها بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تَطِيحُ من تحتمِرْضِخَة النوى حين يضرب بها‏.‏ قال‏:‏ وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرحيدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عَامَّةَ يوميوإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تَمَطَّيْتُ بها عليهاحتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل وهو عَقِيرٌ مُعَوِّذ ابن عفراء فضربه حتىأثبته، فتركه وبه رَمَق، وقاتل معوذ حتى قتل‏.‏


ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ينظر ماصنع أبو جهل‏؟‏‏)‏ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي اللهعنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال‏:‏ هلأخزاك الله يا عدو الله‏؟‏ قال‏:‏ وبماذا أخزاني‏؟‏ أأعمد من رجلقتلتموه‏؟‏ أو هل فوق رجل قتلتموه‏؟‏ وقال‏:‏ فلو غير أكَّار قتلنى، ثمقال‏:‏ أخبرني لمن الدائرة اليوم‏؟‏ قال‏:‏ لله ورسوله، ثم قال لابن مسعودوكان قد وضع رجله على عنقه‏:‏ لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَالغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة‏.‏


وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسولالله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبيجهل، فقال‏:‏ ‏(‏الله الذي لا إله إلا هو‏؟‏‏)‏ فرددها ثلاثًا، ثم قال‏:‏‏(‏الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،انطلق أرنيه‏)‏، فانطلقنا فأريته إياه، فقال‏:‏ ‏(‏هذا فرعون هذه الأمة‏)‏‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#37

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*من روائع الإيمان في هذه المعركة :


لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث ابن عفراءوقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ،ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهماالمبادئ ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه‏.‏


1 روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏‏(‏إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجةلهم بقتالنا، فمن لقى أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقى أباالبَخْتَرِيّ بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله،فإنه إنما أخرج مستكرهًا‏)‏، فقال أبو حذيفة بن عتبة‏:‏ أنقتل آباءناوأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه أولألجمنه بالسيف، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بنالخطاب‏:‏ ‏(‏يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلمبالسيف‏)‏، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق‏.‏


فكان أبو حذيفة يقول‏:‏ ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولاأزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عنى الشهادة‏.‏ فقتل يوم اليمامةشهيدًا‏.‏


2 وكان النهي عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلىالله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكانممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب‏.‏


ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المُجَذَّر بن زيادالْبَلَوِىّ لقيه في المعركة ومعه زميل له، يقاتلان سويًا، فقال المجذر‏:‏يا أبا البخترى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك،فقال‏:‏ وزميلي‏؟‏ فقال المجذر‏:‏ لا والله ما نحن بتاركي زميلك،فقال‏:‏والله إذن لأموتن أنا وهو جميعًا، ثم اقتتلا، فاضطر المجذر إلىقتله‏.‏


3 كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كانيوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه على بن أمية، آخذًا بيده، ومععبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال‏:‏ هل لك في‏؟‏فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة فياللبن‏؟‏ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن فطرح عبد الرحمنالأدراع، وأخذهما يمشى بهما، قال عبد الرحمن‏:‏ قال لي أمية بن خلف، وأنابينه وبين ابنه‏:‏ من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره‏؟‏ قلت‏:‏ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال‏:‏ ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل‏.‏


قال عبد الرحمن‏:‏ فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان أمية هو الذييعذب بلالًا بمكة فقال بلال‏:‏ رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏قلت‏:‏ أي بلال، أسيري‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أتسمع يابنالسوداء‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ ثم صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا أنصار الله،رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏ قال‏:‏ فأحاطوا بنا حتى جعلونافي مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال‏:‏ فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنهفوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت‏:‏ انج بنفسك، ولا نجاء بك،فوالله ما أغني عنك شيئًا‏.‏ قال‏:‏ فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوامنهما، فكان عبد الرحمن يقول‏:‏ يرحم الله بلالًا، ذهبت أدراعي، وفجعنيبأسيري‏.‏


وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأنيحفظني في صاغيتي أي خاصتي ومالي بمكة، وأحفظه في صاغيتهبالمدينة‏.‏‏.‏‏.‏ فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس،فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال‏:‏ أمية بن خلف، لا نجوتإن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقوناخلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلًا ثقيلًا،فلما أدركونا قلت له‏:‏ ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوهبالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه‏.‏ وكان عبد الرحمنيرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه‏.‏


4 وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة،ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسولالله صلى الله عليه وسلم، وهو في الأسر‏:‏ يا عباس أسلم، فوالله أن تسلمأحب إلى من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليهوسلم يعجبه إسلامك‏.‏


5 ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن وهو يومئذ مع المشركين فقال‏:‏ أين مالي يا خبيث‏؟‏ فقال عبد الرحمن‏:‏


لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَكَّةٍ ويَعْبُوب ** وصَارِمٍ يَقْتُلُ ضُلاَّل الشِّيَبْ


6 ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيالعريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحًا سيفه، رأي رسول اللهصلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقالله‏:‏ والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم‏؟‏ قال‏:‏ أجل والله يا رسولالله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهلالشرك أحب إلىّ من استبقاء الرجال‏.‏


7 وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي، فأتى رسول الله صلى اللهعليه وسلم فأعطاه جِذْلًا من حطب، فقال‏:‏ ‏(‏قاتل بهذا يا عكاشة‏)‏، فلماأخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفًا في يده طويلالقامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين،وكان ذلك السيف يسمى العَوْن، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى قتل فيحروب الردة وهو عنده‏.‏


8 وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عميرالذي خاض المعركة ضد المسلمين،مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال مصعبللأنصاري‏:‏ شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال أبوعزيز لأخيه مصعب‏:‏ أهذه وصاتك بي‏؟‏ فقال مصعب‏:‏ إنه أي الأنصاري أخيدونك‏.‏


9 ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلىالقليب، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هوكئيب قد تغير، فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيكشيء‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه،ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلًا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلىالإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك‏.‏ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقالله خيرًا‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#38

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*قتلى الفريقين :

انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين، وبفتح مبين بالنسبةللمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلًا، ستة منالمهاجرين وثمانية من الأنصار‏.‏

أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون، وأسر سبعون‏.‏ وعامتهم القادة والزعماء والصناديد‏.‏

ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلىفقال‏:‏ ‏(‏بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتمونيونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس‏)‏، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب منقُلُب بدر‏.‏

وعن أبي طلحة‏:‏ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعةوعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طَويّ من أطواء بدر خَبِيثمُخْبث‏.‏ وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاث ليال، فلما كان ببدراليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، واتبعه أصحابه‏.‏ حتىقام على شفة الرَّكِىّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، ‏(‏يا فلانبن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله‏؟‏ فإنا قدوجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا‏؟‏‏)‏ فقال عمر‏:‏يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها‏؟‏ قال النبي صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏ وفيرواية‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون‏)‏‏.

*مكة تتلقى نبأ الهزيمة :


فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة؛ تبعثروا في الوديان والشعاب، واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلًا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أول من قدم بمصاب قريش الحَيْسُمَان بن عبد اللهالخزاعى، فقالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعةوأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، في رجال من الزعماء سماهم‏.‏ فلما أخذيعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحِجْر‏:‏ والله إن يعقلهذا، فاسألوه عنى‏.‏ قالوا‏:‏ ما فعل صفوان بن أمية‏؟‏ قال‏:‏ ها هو ذاجالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا‏.‏

وقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كنت غلامًا للعباسوكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل،وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءهالخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزًا، وكنت رجلًا ضعيفًاأعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحىوعندى أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجررجليه بشر حتى جلس على طُنُب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهرى، فبينما هو جالسإذ قال الناس‏:‏ هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال لهأبو لهب‏:‏ هلم إلىَّ، فعندك لعمرى الخبر، قال‏:‏ فجلس إليه،والناس قيامعليه‏.‏ فقال‏:‏ يابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس‏؟‏ قال‏:‏ ما هو إلاأن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيفشاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لَقِينَا رجال بيض على خيل بُلْقبين السماء والأرض، والله ما تُلِيق شيئًا، ولا يقوم لها شيء‏.‏

قال أبو رافع‏:‏ فرفعت طنب الحجرة بيدى، ثم قلت‏:‏ تلك والله الملائكة‏.‏قال‏:‏ فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملنىفضرب بى الأرض، ثم برك علىّ يضربني، وكنت رجلًا ضعيفًا فقامت أم الفضل إلىعمود من عُمُد الحجرة فأخذته، فضربته به ضربة فَلَعَتْ في رأسه شجة منكرة،وقالت‏:‏ استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليًا ذليلًا، فوالله ما عاشإلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة ‏[‏وهي قرحة تتشاءم بها العرب‏]‏فقتلته، فتركه بنوه، وبقى ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه،فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوهبالحجارة من بعيد حتى واروه‏.‏

هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر، وقد أثر ذلك فيهمأثرًا سيئًا جدًا، حتى منعوا النياحة على القتلى؛ لئلا يشمت بهمالمسلمون‏.‏

ومن الطرائف أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحبأن يبكي عليهم، وكان ضرير البصر، فسمع ليلًا صوت نائحة، فبعث غلامه،وقال‏:‏ انظر هل أحل النَّحْبُ‏؟‏ هل بكت قريش على قتلاها‏؟‏ لعلي أبكيعلى أبي حكيمة ابنه فإن جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال‏:‏ إنما هي امرأةتبكى على بعير لها أضلته، فلم يتمالك الأسود نفسه وقال‏:‏

أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص ** ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكى إن بكيت على عقيل ** وبكى حارثا أسد الأسود

وبكيهم ولا تسمى جميعا ** وما لأبي حكيمة من نديد

ألا قد ساد بعدهم رجال ** ولولا يوم بدر لم يسودوا

*المدينة تتلقى أنباء النصر :

ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى أهلالمدينة؛ ليعجل لهم البشرى، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهلالعالية، وأرسل زيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة‏.‏

وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة،حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأي أحدالمنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ناقة رسول الله صلى الله عليهوسلم قال‏:‏ لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقولمن الرعب، وجاء فَلاّ

فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتىتأكد لديهم فتح المسلمين، فَعَمَّت البهجة والسرور، واهتزت أرجاء المدينةتهليلًا وتكبيرًا، وتقدم رءوس المسلمين الذين كانوا بالمدينة إلى طريقبدر، ليهنئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح المبين‏.‏

قال أسامة بن زيد‏:‏ أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول اللهصلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله صلى اللهعليه وسلم خلفنى عليها مع عثمان‏.


يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#39

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة :

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام،وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم، ولما اشتدهذا الخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرد الجميع ما بأيديهم،ففعلوا، ثم نزل الوحى بحل هذه المشكلة‏.‏

عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معهبدرًا، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردونويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسولالله صلى الله عليه وسلم؛ لا يصيب العدو منه غِرَّة، حتى إذا كان الليل،وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم‏:‏ نحن حويناها، وليسلأحد فيها نصيب،وقال الذين خرجوا في طلب العدو‏:‏ لستم أحق بها منا، نحننحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ خفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به، فأنزل الله‏:‏‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِفَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَوَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏1‏]‏‏.‏ فقسمها رسولالله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين‏.‏

وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشهنحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النفل الذي أصيب منالمشركين، وجعل عليه عبد الله بن كعب، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل علىكَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين علىالسواء بعد أن أخذ منها الخمس‏.‏

وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث وكان هو حامل لواءالمشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمى قريش، ومن أشد الناس كيدًا للإسلاموإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه علي بن أبي طالب‏.‏

ولما وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط وقدأسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذيكان ألقى سَلا جَزُور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيالصلاة، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله، لولا اعتراض أبي بكر رضي اللهعنه فلما أمر بقتله قال‏:‏ من للصِّبْيَةِ يا محمد‏؟‏ قال‏:‏‏(‏النار‏)‏‏.‏ فقتله عاصم ابن ثابت الأنصارى، ويقال‏:‏ علي بن أبيطالب‏.‏

وكان قتل هذين الطاغيتين واجبًا نظرًا إلى سوابقهما، فلم يكونا من الأسارى فحسب، بل كانا من مجرمى الحرب بالاصطلاح الحديث‏.‏


*وفود التهنئة :

ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى الرَّوْحَاء لقيه رءوس المسلمين الذينكانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولينيهنئونه بالفتح‏.‏ وحينئذ قال لهم سَلَمَة بن سلامة‏:‏ما الذي تهنئوننابه‏؟‏ فوالله إن لَقِينا إلا عجائز صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ،فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏يا بن أخي،أولئك الملأ‏)‏‏.‏

وقال أسيد بن حضير‏:‏ يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينك،والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكنظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏

ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كلعدو له بالمدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبدالله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهرًا‏.‏

وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم، فقسمهم على أصحابه، وأوصى بهمخيرًا‏.‏ فكان الصحابة يأكلون التمر، ويقدمون لأسرائهم الخبز، عملًا بوصيةرسول الله صلى الله عليه وسلم


* قضية الأسارى :

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في الأسارى،فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإنيأرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أنيهديهم الله، فيكونوا لنا عضدًا‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ترى يابن الخطاب‏؟‏‏)‏ قال‏:‏قلت‏:‏ والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان قريبلعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكنحمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادةللمشركين‏.‏ وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم‏.‏

فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذمنهم الفداء‏:‏ فلما كان من الغد قال عمر‏:‏ فغدوت إلى النبي صلى اللهعليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت‏:‏ يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيكأنت وصاحبك‏؟‏ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقالرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهمالفداء، فقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة‏)‏ شجرة قريبة‏.‏

وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىحَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُيُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَاللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏67، 68‏]‏‏.‏

والكتاب الذي سبق من الله قيل‏:‏ هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا مَنًّابَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ففيه الإذن بأخذ الفدية منالأسارى؛ ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أنيثخنوا في الأرض، وقيل‏:‏ بل الآية المذكورة نزلت فيما بعد، وإنما الكتابالذي سبق من الله هو ما كان في علم الله من إحلال الغنائم لهذه الأمة، أومن المغفرة والرحمة لأهل بدر‏.‏

وحيث إن الأمر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء، وكانالفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهلمكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرةغلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء‏.‏

ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدة من الأسارى فأطلقهم بغير فداء،منهم‏:‏ المطلب ابن حَنْطَب، وصَيْفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجُمَحِى،وهو الذي قتله أسيرا في أحد، وسيأتي‏.‏

ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب، وكانت قد بعثت فيفدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبيالعاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذنأصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت، وبعث رسول الله صلى اللهعليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال‏:‏ ‏(‏كونا ببطن يَأجَجحتى تمر بكما زينب فتصحباها‏)‏، فخرجا حتى رجعا بها‏.‏ وقصة هجرتها طويلةومؤلمة جدًا‏.‏

وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر‏:‏ يا رسولالله، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يَدْلَعْ لسَانُه، فلا يقوم خطيبًا عليك فيموطن أبدًا، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب؛ احترازًاعن المُثْلَةِ، وعن بطش الله يوم القيامة‏.‏

وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد‏.‏


*القرآن يتحدث حول موضوع المعركة :

وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي إن صحهذا التعبير على هذه المعركة، يختلف كثيرًا عن التعاليق التي ينطق بهاالملوك والقواد بعد الفتح‏.‏

إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين أولًا إلى بعض التقصيرات الأخلاقية التيكانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم؛ ليسعوا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتبالكمال، وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات‏.‏

ثم ثَنَّى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيبللمسلمين‏.‏ ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم، فتتسور نفوسهمالغطرسة والكبرياء، بل ليتوكلوا على الله، ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليهالصلاة والسلام‏.‏

ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى الله عليه وسلملأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التيتتسبب في الفتوح في المعارك‏.‏

ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والالتزام به‏.‏

ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة‏.‏

ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعددخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروبأهل الجاهلية، ويتفوق المسلمون في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنياأن الإسلام ليس مجرد وجهة نظر، بل هو دين يثقف أهله عمليًا على الأسسوالمبادئ التي يدعو إليها‏.‏

ثم قرر بنودًا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها، والذين يسكنون خارجها‏.‏

وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبينتأنصبة الزكاة الأخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرىتخفيفًا لكثير من الأوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجريناللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربًا في الأرض‏.‏

ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هوالعيد الذي وقع في شوال سنة 2 ه، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوةبدر‏.‏ فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهمبتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا منبيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبةإلى الله، وحنينًا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم،وأيدهم بهمن النصر، وقد ذكرهم بذلك قائلًا‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌمُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُفَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏26‏]‏‏.

يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#40

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

النشاط العسكري بين بدر وأحد



إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركةفاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة‏.‏ والذين كانواأشد استياء لنتائج هذه المعركة هم أولئك الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة؛وهم المشركون، أو الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً علىكيانهم الديني والاقتصادي، وهم اليهود‏.‏ فمنذ أن انتصر المسلمون في معركةبدر كان هذان الفريقان يحترقان غيظاً وحنقًا على المسلمين؛ ‏{‏لَتَجِدَنَّأَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَأَشْرَكُواْ‏}� � ‏[‏المائدة‏:‏82‏]‏، وكانت في المدينة بطانة للفريقيندخلوا في الإسلام حين لم يبق مجال لعزهم إلا في الإسلام، وهم عبد الله بنأبي وأصحابه، ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظاً من الأوليين‏.‏


وكانت هناك فرقة رابعة، وهم البدو الضاربون حول المدينة، لم يكن يهمهممسألة الكفر والإيمان، ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب، فأخذهم القلق،واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهموبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمينوصاروا لهم أعداء‏.‏


وتبين بهذا أن الانتصار في بدر كما كان سبباً لشوكة المسلمين وعزهموكرامتهم كذلك كان سبباً لحقد جهات متعددة، وكان من الطبيعي أن يتبع كلفريق ما يراه كفيلاً لإيصاله إلى غايته‏.‏


فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالإسلام، وتأخذ في طريق المؤامراتوالدسائس الخفية كانت فرقة من اليهود تعلن بالعداوة، وتكاشف عن الحقدوالغيظ، وكانت مكة تهدد بالضرب القاصم، وتعلن بأخذ الثأر والنقمة، وتهتمبالتعبئة العامة جهاراً، وترسل إلى المسلمين بلسان حالها، تقول‏:‏


ولا بد من يوم أغرّ مُحَجَّل ** يطول استماعي بعده للنوادب


وفعلاً فقد قادت غزوة قاصمة إلى أسوار المدينة عرفت في التاريخ بغزوة أحد، والتي كان لها أثر سيئ على سمعة المسلمين وهيبتهم‏.‏


وقد لعب المسلمون دوراً هاماً للقضاء على هذه الأخطار، تظهر فيه عبقريةقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذهالأخطار، وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء عليها، ونذكر في السطورالآتية صورة مصغرة منها‏:‏




*غزوة بني سُلَيم بالكُدْر :


أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر أنبني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فباغتهم النبي صلى اللهعليه وسلم في مائتي راكب في عقر دراهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقالله‏:‏ الكُدْر‏.‏ ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استوليعليها جيش المدينة، وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمسفأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاما يقال له‏:‏ ‏(‏يسار‏)‏ فأعتقه‏.‏


وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة‏.‏


وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 ه بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام، أوفيالمحرم للنصف منه، واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سِبَاع بنعُرْفُطَة‏.‏ وقيل‏:‏ ابن أم مكتوم‏.‏



*مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم :


كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضباً، وجعلت مكة تغليكالمِرْجَل ضد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تآمر بطلان من أبطالها أنيقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم، وهوالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏


جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر بعد وقعة بدر بيسيروكان عمير من شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابهوهم بمكة وكان ابنه وهب بن عمير في أساري بدر، فذكر أصحاب القَلِيبومصابهم، فقال صفوان‏:‏ والله إن في العيش بعدهم خير‏.‏


قال له عمير‏:‏ صدقت واللّه، أما واللّه لولا دَيْن على ليس له عندي قضاء،وعيال أخشي عليهم الضَّيْعةَ بعدي لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإن ليقِبَلَهُمْ عِلَّةً، ابني أسير في أيديهم‏.‏


فاغتنمها صفوان وقال‏:‏ على دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيإلى، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم‏.‏


فقال له عمير‏:‏ فاكتم عني شأني وشأنك‏.‏ قال‏:‏ أفعل‏.‏


ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذَ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم به المدينة،فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب وهو في نفر منالمسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر فقال عمر‏:‏ هذا الxxx عدوالله عمير ما جاء إلا لشر‏.‏ ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم،فقال‏:‏ يا نبي الله، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال‏:‏‏(‏فأدخله علي‏)‏، فأقبل إلى عمير فلَبَّبَهُ بحَمَالة سيفه، وقال لرجالمن الأنصار‏:‏ ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عندهواحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسولالله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال‏:‏ ‏(‏أرسله ياعمر، ادن يا عمير‏)‏، فدنا وقال‏:‏ أنْعِمُوا صباحاً، فقال النبي صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحيةأهل الجنة‏)‏‏.‏


ثم قال‏:‏ ‏(‏ما جاء بك يا عمير ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه‏.‏


قال‏:‏ ‏(‏فما بال السيف في عنقك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً ‏؟‏


قال‏:‏ ‏(‏اصدقني، ما الذي جئت له ‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ ما جئت إلا لذلك‏.‏


قال‏:‏ ‏(‏بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليبمن قريش، ثم قلت‏:‏ لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحملصفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك‏)‏‏.‏


قال عمير‏:‏ أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنتتأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلاأنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هدانيللإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق‏.‏ فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا لهأسيره‏)‏‏.‏


وأما صفوان فكان يقول‏:‏ أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعةبدر‏.‏ وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه فحلف صفوانألا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدا‏.‏


ورجع عمير إلى مكة وأقام بها يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه ناس كثير‏.‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#41

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

غزوة بني قينقاع:

قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود،وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأتمن المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها‏.‏ ولكن اليهود الذين ملأواتاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهمالقديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطرابفي صفوف المسلمين‏.‏ وهاك مثلاً من ذلك‏:‏


*نموذج من مكيدة اليهود‏‏ :

قال ابن إسحاق‏:‏ مر شاس بن قيس وكان شيخاً ‏[‏يهودياً‏]‏ قد عسا ، عظيمالكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسولالله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه،فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذيكان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَبهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتيشاباً من يهود كان معه، فقال‏:‏ اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يومبُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار،ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيينعلى الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ إن شئتم رددناها الآن جَذَعَةيعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم وغضب الفريقانجميعاً، وقالوا‏:‏ قد فعلنا، موعدكم الظاهرة والظاهرة‏:‏ الحَرَّة السلاحالسلاح، فخرجوا إليها ‏[‏وكادت تنشب الحرب‏]‏‏.‏

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابهالمهاجرين حتى جاءهم فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعويالجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع بهعنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم‏)‏

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال منالأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس‏.‏

هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والفتن فيالمسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية، وقد كانت لهم خططشتي في هذا السبيل‏.‏ فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار،ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبلالمعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى، فإن كان لهم عليه يتقاضونهصباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه وكانوايقولون‏:‏ إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوتفليس لك علينا من سبيل‏.‏

كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرونعلى كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة‏.‏


*بنو قَينُقَاع ينقضون العهد‏ :


لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهمقد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب القاصي والداني‏.‏ تميزت قدر غيظهم،وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي‏.‏

وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف وسيأتي ذكره كما أن شرطائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينةفي حي باسمهم وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرفكانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة،وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود‏.‏

فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهمواستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذيكل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم‏.‏

وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم‏.‏

روي أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لما أصاب رسولالله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوقبني قينقاع‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصابقريشاً‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريشكانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس،وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْسَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏ قَدْكَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِيسَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَالْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَلَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران 12، 13‏]‏‏.‏

كان في معني ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر عن الحرب، ولكن كظمالنبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخضعنه الليإلى والأيام‏.‏

وازداد اليهود من بني قينقاع جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينةقلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبوابالحياة‏.‏

روي ابن هشام عن أبي عون‏:‏ أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعتهفي سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت،فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي غافلة فلما قامت انكشفتسوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكانيهودياً فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع‏.‏


*الحصار ثم التسليم ثم الجلاء‏‏ :


وحينئذ عِيلَ صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبالُبَابة بن عبد المنذر، وأعطي لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وساربجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشدالحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 ه، ودام الحصار خمس عشرةليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب فهو إذا أرادوا خذلانقوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم فنزلوا على حكم رسول الله صلىالله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا‏.‏

وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول بدور نفاقه، فألح على رسول الله صلىالله عليه وسلم أن يصدر عنهم العفو، فقال‏:‏ يا محمد، أحسن في موإلى وكانبنو قينقاع حلفاء الخزرج فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكررابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول اللَّّهصلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أرسلني‏)‏، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً ، ثمقال‏:‏ ‏(‏ويحك، أرسلني‏)‏‏.‏ ولكن المنافق مضى على إصراره وقال‏:‏ لاوالله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعونيمن الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ‏؟‏ إني والله امرؤ أخشيالدوائر‏.‏

وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق الذي لم يكن مضي علىإظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب عامله بالحسنى‏.‏ فوهبهم له، وأمرهمأن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام، فقلأن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم‏.‏

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِيودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولي جمعالغنائم محمد بن مسلمة‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#42

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*غزوة السَّوِيق :

بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم،كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظمكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر ألا يمس رأسه ماء منجنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبِرَّ يمينه، حتى نزل بصدْرقَناة إلى جبل يقال له‏:‏ ثَيبٌ، من المدينة على بَرِيد أو نحوه، ولكنه لميجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنهدخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتي حيي بنأخطب، فاستفتح بابه، فأبي وخاف، فانصرف إلى سَلاَّم بن مِشْكَم سيد بنِيالنضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فَقَرَاه وسقاه الخمر،وبَطَن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتي أصحابه،فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها‏:‏‏[‏العُرَيض‏]‏، فقطعوا وأحرقوا هناك أصْْوَارًا من النخل، ووجدوا رجلاًمن الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة‏.‏

وبلغ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيانوأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهموتمويناتهم، يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلى اللهعليه وسلم إلى قَرْقَرَةِِ الكُدْر، ثم انصرف راجعاً‏.‏ وحمل المسلمون ماطرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق‏.‏ وقد وقعت فيذي الحجة سنة 2 ه بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبالبابة بن عبد المنذر‏.‏

*غزوة ذي أمر :

وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 ه‏.‏

وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنجمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطرافالمدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائةوخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان‏.‏

وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له‏:‏ جُبَار من بني ثعلبة، فأدخلعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلىبلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو‏.‏

وتفرق الأعداء في رءوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة‏.‏ أما النبيصلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمي‏[‏بذي أمر‏]‏ فأقام هناك صفراً كله من سنة 3 ه أو قريباً من ذلك، ليشعرالأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجح إلىالمدينة‏.‏

*قتل كعب بن الأشرف :

كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقاً على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرا بالدعوة إلى حربه‏.‏

كان من قبيلة طيئ من بني نَبْهان وأمه من بني النضير، وكان غنياً مترفاًمعروفاً بجماله في العرب، شاعراً من شعرائها‏.‏ وكان حصنه في شرق جنوبالمدينة خلف ديار بني النضير‏.‏

ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال‏:‏أحق هذا ‏؟‏ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصابهؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها‏.‏

ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلموالمسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلىقريش، فنزل على المطلب بن أبي وَدَاعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكيفيها على أصحاب القَلِيب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكيحقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكةسأله أبو سفيان والمشركون‏:‏ أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه‏؟‏ وأيالفريقين أهدي سبيلاً‏؟‏ فقال‏:‏ أنتم أهدي منهم سبيلا، وأفضل، وفي ذلكأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًامِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْسَبِيلاً‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء‏.‏

وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لكعب بن الأشرف ‏؟‏فإنه آذى الله ورسوله‏)‏، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعَبَّاد بن بشر، وأبونائلة واسمه سِلْكَان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة والحارث بن أوس،وأبو عَبْس بن جبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة‏.‏

وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لماقال‏:‏ ‏(‏من لكعب بن الأشرف ‏؟‏ فإنه قد آذى الله ورسوله‏)‏، قام محمد بنمسلمة فقال‏:‏ أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏قال‏:‏ فائذن لي أن أقول شيئاً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏قل‏)‏‏.‏

فأتاه محمد بن مسلمة، فقال‏:‏ إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عَنَّانا‏.‏

قال كعب‏:‏ والله لَتَمَلُّنَّهُ‏.‏

قال محمد بن مسلمة‏:‏ فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أيشيء يصير شأنه ‏؟‏ وقد أردنا أن تسلفنا وَسْقًا أو وَسْقَين‏.‏

قال كعب‏:‏ نعم، أرهنوني‏.‏

قال ابن مسلمة‏:‏ أي شيء تريد ‏؟‏

قال‏:‏ أرهنوني نساءكم‏.‏

قال‏:‏ كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ‏؟‏

قال‏:‏ فترهنوني أبناءكم‏.‏

قال‏:‏ كيف نرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحَدُهم فيقال‏:‏ رُهِن بوسق أو وسقين هذا عار علينا‏.‏ ولكنا نرهنك الَّلأْمَة، يعني السلاح‏.‏

فواعده أن يأتيه‏.‏

وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطرافالأشعار سويعة، ثم قال له‏:‏ ويحك يا بن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريدذكرها لك فاكتم عني‏.‏

قال كعب‏:‏ أفعل‏.‏

قال أبو نائلة‏:‏ كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عنقَوْسٍ واحدة، وقطعتْ عنا السبل، حتى ضاع العيال، وجُهِدَت الأنفس،وأصبحنا قد جُهِدْنا وجُهِد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابنمسلمة‏.‏

وقال أبو نائلة أثناء حديثه‏:‏ إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك‏.‏

وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصد، فإن كعباً لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار‏.‏

وفي ليلة مُقْمِرَة ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 ه اجتمعت هذهالمفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بَقِيع الغَرْقَد،ثم وجههم قائلاً‏:‏ ‏(‏انطلقوا على اسم الله، اللّهم أعنهم‏)‏، ثم رجع إلىبيته، وطفق يصلى ويناجي ربه‏.‏

وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزلإليهم، فقالت له امرأته وكان حديث العهد بها‏:‏ أين تخرج هذه الساعة ‏؟‏أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم‏.‏

قال كعب‏:‏ إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفح رأسه‏.‏

وقد كان أبو نائلة قال لأصحابه‏:‏ إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذارأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهمساعة، ثم قال أبو نائلة‏:‏ هل لك يا بن الاشرف أن نتماشى إلى شِعْب العجوزفنتحدث بقية ليلتنا ‏؟‏ قال‏:‏ إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلةوهو في الطريق ‏:‏ ما رأيت كالليلة طيباً أعطر ، وزهي كعب بما سمع ،فقال‏:‏ عندي أعطر نساء العرب ، قال أبو نائلة ‏:‏ أتأذن لي أن أشم رأسك‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه ‏.‏

ثم مشى ساعة ثم قال ‏:‏ أعود ‏؟‏ قال كعب‏:‏ نعم ، فعاد لمثلها ‏.‏ حتى اطمأن ‏.‏

ثم مشى ساعة ثم قال‏:‏ أعود ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، فأدخل يده في رأسه، فلمااستمكن منه قال‏:‏ دونكم عدو الله ، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغنشيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة مِغْوَلاً فوضعه في ثُنَّتِهِ، ثم تحامل عليهحتي بلغ عانته، فوقع عدو الله قتيلاً، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت منحوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران‏.‏

ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزفالدم، فلما بلغت المفرزة حَرَّة العُرَيْض رأت أن الحارث ليس معهم، فوقفتساعة حتي أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتي إذا بلغوا بَقِيع الغَرْقَدكبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه،فكبر، فلما انتهوا إليه قال‏:‏ ‏(‏أفلحت الوجوه‏)‏، قالوا‏:‏ ووجهك يارسول الله، ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل عليجرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده‏.‏

ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهمالعنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوةحين يري أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطراباتوعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء،وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها‏.‏

وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم إلي حين لمواجهة الأخطار التي كانيتوقع حدوثها من خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير منالمتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخرى ‏.‏

يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#43

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*غزوة بُحْران :

وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليهوسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3 ه إلى أرض يقال لها‏:‏ بحران وهي مَعْدِنبالحجاز من ناحية الفُرْع فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى منالسنة الثالثة من الهجرة ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً‏.




* سرية زيد بن حارثة :


وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وقعت في جمادي الآخرة سنة 3 ه‏.‏

وتفصيلها‏:‏ أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف، واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هَمٌّ آخر‏.‏

قال صفوان بن أمية لقريش وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتهاإلى الشام‏:‏ إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنعبأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل ‏؟‏ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهممعه، فما ندري أين نسلك ‏؟‏ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنافلم يكن لها من بقاء‏.‏ وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام فيالصيف، وإلى الحبشة في الشتاء‏.‏

ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان‏:‏تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداًإلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذهالطريق كل الجهل فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فُرَات بنحَيَّان من بني بكر بن وائل دليلاً له، ويكون رائده في هذه الرحلة‏.‏

وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباءهذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة‏.‏ وذلك أن سَلِيط بن النعمانكان قد أسلم اجتمع في مجلس شرب وذلك قبل تحريم الخمر مع نعيم بن مسعودالأشجعي ولم يكن أسلم إذ ذاك فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عنقضية العير وخطة سيرها،فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي لهالقصة‏.‏

وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادةزيد بن حارثة الxxxي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة على حين غرة وهيتنزل على ماء في أرض نجد يقال له‏:‏ قَرْدَة بالفتح فالسكون فاستولي عليهاكلها، ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أيمقاومة‏.‏

وأسر المسلمون دليل القافلة فرات بن حيان، وقيل‏:‏ ورجلين غيره وحملواغنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائةألف، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعدأخذ الخمس، وأسلم فرات بن حيان على يديه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، اشتد لها قلق قريشوزادتها هما وحزناً‏.‏ ولم يبق أمامها إلا طريقان،إما أن تمتنع عن غطرستهاوكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحربشاملة تعيد لها مجدها التليد، وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين بحيثلا يبقي لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية،فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئةكاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيدالقوي لمعركة أحد‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#44

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

غزوة أحد



* استعداد قريش لمعركة ناقمة‏ :


كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساةالهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذالثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا منالاستعجال في فداء الأساري حتى لا يتفطن المسلمون مدي مأساتهم وحزنهم‏.‏


وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفيغيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة‏.‏


وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة‏.‏


وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبوسفيان، والتي كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم‏:‏يا معشر قريش، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المالعلى حربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألفبعير، والمال خمسين ألف دينار، وفي ذلك أنزل الله تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّالَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِاللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّيُغْلَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏


ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيشوكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض، حتى إن صفوان بنأمية أغري أبا عزة الشاعر الذي كان قد أسر في بدر، فَمَنَّ عليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضدهأغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عنالغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعارهالتي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر مُسَافع بن عبد منافالجمحي لنفس المهمة‏.‏


وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيقخائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارًا كبيراً من تمويناته في هذهالغزوة‏.‏


وزاد الطينة بلة أو زاد النار إذكاء، إن صح هذا التعبير ما أصاب قريشاًأخيراً في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها،وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش فياستعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين‏.‏



* قوام جيش قريش وقيادته‏‏ :


ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركينثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأي قادة قريش أن يستصحبوامعهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهموأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة‏.‏


وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتافرس ، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع‏.‏ وكانتالقيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليديعاونه عكرمة بن أبي جهل‏.‏ أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار‏.‏



* جيش مكة يتحرك‏ :


تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت التاراتالقديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتالمرير‏.‏ الاستخبارات النبوية تكشف


* حركة العدو‏ :


وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلماتحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلمضمنها جميع تفاصيل الجيش‏.‏


وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بينمكة والمدينة التي تبلغ مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر في ثلاثة أيام،وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء‏.‏


قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فأمره بالكتمان،وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار‏.‏



* استعداد المسلمين للطوارئ‏‏ :


وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارئ‏.‏


وقامت مفرزة من الأنصار فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادةبحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهمالسلاح‏.‏ وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها ؛ خوفا من أنيؤخذوا على غرة‏.‏


وقامت دوريات من المسلمين لاكتشاف تحركات العدو تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين‏.




* الجيش المكي إلى أسوار المدينة‏‏ :


وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلىالأبْوَاء اقترحت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بنبش قبر أم رسول الله صلىالله عليه وسلم ، بَيدَ أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب،وحذروا من العواقبالوخيمة التي تلحقهم لو فتحو هذا الباب‏.‏


ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العَقيق، ثم انحرفمنه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد، في مكان يقال له‏:‏عَينَيْن، في بطن السَّبْخَة من قناة على شفير الوادي الذي يقع شمإلىالمدينة بجنب أحد، فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث منالهجرة‏.‏



*المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع‏ :


ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر حتى الخبر الأخير عنمعسكره، وحينئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياًعسكرياً أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها،قال‏:‏ ‏(‏إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يذبح، ورأيت في ذُبَابسيفي ثُلْماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة‏)‏، وتأوّل البقر بنفر منأصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرعبالمدينة‏.‏


ثم قدم رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها،فإن أقامالمشركون بمعسكرهم أقاموا بِشَرِّ مُقَام وبغير جدوي، وإن دخلوا المدينةقاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هوالرأي‏.‏ ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقينوكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج‏.‏ ويبدو أن موافقته لهذاالرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية، بلليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد، وشاء الله أن يفتضح هووأصحابه لأول مرة أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهمونفاقهم يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على تلك الأفاعيالتي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم‏.‏


فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ومن غيرهم،فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك حتىقال قائلهم‏:‏ يا رسول الله،كنا نتمني هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقهإلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم‏.‏


وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى اللهعليه وسلم الذي كان قد أبلي أحسن بلاء في معركة بدر فقد قال للنبي صلىالله عليه وسلم ‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهمبسيفي خارج المدينة ‏.‏


وتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه مراعاة لهؤلاء المتحمسين،واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر‏.‏


*تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال‏ :


ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجدوالاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرحالناس بذلك‏.‏ ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العَوَإلى ، ثمدخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجججججججججججج بسلاحه وظاهربين درعين ‏[‏أي لبس درعا فوق درع‏]‏ وتقلد السيف، ثم خرج على الناس‏.‏


وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير‏:‏استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمرإليه،فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له‏:‏ يا رسول الله،ماكان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل‏.‏ فقالرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه وهيالدرع أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه‏)‏ ‏.‏


وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب‏:‏


1‏.‏ كتيبة المهاجرين، وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري‏.‏


2‏.‏ كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطي لواءها أسيد بن حضير‏.‏


3‏.‏ كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطي لواءها الحُبَاب بن المنذر‏.‏


وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع، ولم يكن فيهم من الفرسانأحد ،واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي فيالمدينة،وآذن بالرحيل، فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام النبيصلى الله عليه وسلم يعدوان دارعين‏.‏


ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسألعنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضدالمشركين، فسأل‏:‏ ‏(‏هل أسلموا ‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏لا، فأبى أن يستعين بأهلالكفر على أهل الشرك‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#45

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*استعراض الجيش‏‏ :

وعندما وصل إلى مقام يقال له‏:‏ ‏[‏الشيخان‏]‏ استعرض جيشه، فرد مناستصغره ولم يره مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطابوأسامة بن زيد، وأسيد بن ظُهَير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعَرَابَةبن أوْس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعدبن حَبَّة، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل علىشهوده القتال ذلك اليوم‏.‏


وأجاز رافع بن خَدِيج، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما، وذلك أن رافعبن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه، فقال سمرة‏:‏ أنا أقوي منرافع،أنا أصرعه، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أنيتصارعا أمامه فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً‏.‏


* المبيت بين أحد والمدينة‏‏ :


وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك،واختار خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بنمسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولي ذَكْوَان بن عبد قيس حراسةالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة‏.




* تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه‏ :


وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج، حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر، وكانبمقربة جداً من العدو، فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبيالمنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر ثلاثمائة مقاتل قائلاً‏:‏ ما ندري علامنقتل أنفسنا ‏؟‏ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تركرأيه وأطاع غيره‏.‏


ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسولالله صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذاالمكان معني‏.‏ ولو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بلكان هدفه الرئيسي من هذا التمرد في ذلك الظرف الدقيق أن يحدث البلبلةوالاضطراب في جيش المسلمين على مرأي ومسمع من عدوهم،حتى ينحاز عامة الجيشعن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنهار معنويات من يبقي معه، بينما يتشجعالعدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبيصلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسةإلى هذا المنافق وأصحابه‏.‏


وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان بنوحارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتابعدما سري فيهما الاضطراب، وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول اللهتعالي‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُوَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏آلعمران‏:‏ 122‏]‏‏.‏


وحاول عبد الله بن حَرَام والد جابر بن عبد الله تذكير هؤلاء المنافقينبواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع،ويقول‏:‏ تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا‏:‏ لو نعلم أنكمتقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً‏:‏ أبعدكم الله أعداءالله، فسيغني الله عنكم نبيه‏.‏


وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَنَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِأَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْلِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَبِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَايَكْتُمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏‏.‏


*بقية الجيش الإسلامي إلى أحد‏‏ :


وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش وهمسبعمائة مقاتل ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبينأحد في مناطق كثيرة، فقال‏:‏ ‏(‏من رجل يخرج بنا على القوم من كَثَبٍ أيمن قريب من طريق لا يمر بنا عليهم ‏؟‏‏)‏‏.‏


فقال أبو خَيثَمةَ‏:‏ أنا يارسول الله، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحديمر بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب‏.‏


ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مِرْبَع بن قَيظِي وكان منافقاً ضرير البصرفلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول‏:‏ لا أحل لك أنتدخل حائطي إن كنت رسول الله‏.‏ فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى اللهعليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تقتلوه، فهذا الأعْمَى أعمى القلب أعمى البصر‏)‏‏.‏


ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوةالوادي، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد،وعلى هذا صار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة‏.‏


*خطة الدفاع‏:


وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال،فاختار منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطيقيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهمبالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة وعرف فيما بعد بجبلالرماة جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالى مائة وخمسين متراً من مقرالجيش الإسلامي‏.‏


والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلماته التيألقاها إلى هؤلاء الرماة، فقد قال لقائدهم‏:‏ ‏(‏انضح الخيل عنا بالنبل،لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين منقبلك‏)‏ وقال للرماة‏:‏ ‏(‏احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا،وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا‏)‏، وفي رواية البخاري أنه قال‏:‏‏(‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإنرأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم‏)‏‏.‏


بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول اللهصلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أنيتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعمليةالتطويق‏.‏


أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبيربن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجهفرسان خالد بن الوليد،وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمينورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف ‏.‏


ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلي فيها عبقرية قيادة النبي صلى اللهعليه وسلم لعسكرية، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطةأدق وأحكم من هذا؛ فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيهبعد العدو، فإنه حمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمي ميسرته وظهره حينيحتدم القتال بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي،واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين ولايلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم،ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدمواإليه،وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيءمن فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوض النقص العددي في رجالهباختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين‏.‏


وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3ه‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#46

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش‏‏ :

ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم،وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عنداللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراًونادي أصحابه‏:‏ ‏(‏من يأخذ هذا السيف بحقه‏؟‏‏)‏، فقام إليه رجال ليأخذوهمنهم على بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب حتى قام إليهأبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال‏:‏ وما حقه يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏‏(‏أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أنا آخذه بحقه يا رسولالله، فأعطاه إياه‏.‏


وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذااعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت‏.‏ فلما أخذ السيف عصب رأسهبتلك العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن‏)‏‏.




*تعبئة الجيش المكي‏ :


أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبيسفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بنالوليد وكان إذ ذاك مشركاً وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاةصفوان ابن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة‏.‏


أما اللواء فكان إلى مفرزة من بني عبد الدار، وقد كان ذلك منصبهم منذ أناقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلاب كما أسلفنا فيأوائل الكتاب وكان لا يمكن لأحد أن ينازعهم في ذلك؛ تقيداً بالتقاليد التيورثوها كابراً عن كابر، بيد أن القائد العام أبا سفيان ذكرهم بما أصابقريشاً يوم بدر حين أسر حامل لوائهم النضر بن الحارث، وقال لهم ليستفزغضبهم ويثير حميتهم‏:‏ يا بني عبد الدار، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابناما قد رأيتم، وإنما يؤتي الناس من قبل راياتهم، وإذا زالت زالوا، فإما أنتكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه‏.‏


ونجح أبو سفيان في هدفه، فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب،وهموا به وتواعدوه وقالوا له‏:‏ نحن نسلم إليك لواءنا ‏؟‏ستعلم غداً إذاالتقينا كيف نصنع‏.‏ وقد ثبتوا عند احتدام المعركة حتى أبيدوا عن بكرةأبيهم‏.‏



* مناورات سياسية من قبل قريش‏ :


وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوفالمسلمين‏.‏ فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم‏:‏ خلوا بيننا وبينابن عمنا فننصرف عنكم، ، فلا حاجة لنا إلى قتالكم‏.‏ ولكن أين هذهالمحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال، فقد رد عليه الأنصار رداًعنيفاً، وأسمعوه ما يكره‏.‏


واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخري لنفس الغرض،فقد خرج إلى الأنصار عميل خائن يسمي أبا عامر الفاسق واسمه عبد عمرو ابنصَيفِي، وكان يسمي الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق،وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شَرِق به، وجاهر رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم علىرسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوهأطاعوه، ومالوا معه فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعُبْدَانأهل مكة‏.‏ فنادي قومه وتعرف عليهم، وقال‏:‏ يا معشر الأوس، أنا أبوعامر‏.‏ فقالوا‏:‏ لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق‏.‏ فقال‏:‏ لقد أصابقومي بعدي شر‏.‏ ولما بدأ القتال قاتلهم قتالاً شديداً وراضخهمبالحجارة‏.‏


وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان‏.‏ويدل عملهم هذا على ما كان يسيطر عليهم من خوف المسلمين وهيبتهم، معكثرتهم وتفوقهم في العدد والعدة‏.‏


* جهود نسوة قريش في التحميس‏‏ :


وقامت نسوة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة، تقودهن هند بنت عتبةزوجة أبي سفيان، فكن يتجولن في الصفوف، ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال،ويحرضن على القتال، ويثرن حفائظ الأبطال، ويحركن مشاعر أهل الطعان والضرابوالنضال، فتارة يخاطبن أهل اللواء فيقلن‏:‏


وَيْها بني عبد الدار **


ويها حُمَاة الأدبار **


ضرباً بكل بتار **


وتارة يأززززززززززززن قومهن على القتال وينشدن‏:‏


إن تُقْبلُوا نُعَانِق **


ونَفْرِشُ النمارق **


أو تُدْبِرُوا نُفَارِق **


فراق غير وَامِق **


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#47

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*أول وقود المعركة‏‏ :

وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان، وآنت مرحلة القتال، وكان أول وقود المعركةحامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش،يسميه المسلمون كبش الكتيبة‏.‏ خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة،فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير ولم يمهله، بل وثبإليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنهوذبحه بسيفه‏.‏


ورأي النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكبر، وكبر المسلمونوأثنى على الزبير، وقال في حقه‏:‏ ‏(‏إن لكل نبي حوارياً، وحواريالزبير‏)‏ ‏.




* ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته‏ :


ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاطالميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فقد تعاقب بنو عبدالدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبةعثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول‏:‏


إنَّ على أهْل اللوَاء حقاً ** أن تُخْضَبَ الصَّعْدَة أو تَنْدَقَّا


فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته‏.‏


ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصابحنجرته، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه‏.‏ وقيل‏:‏ بل خرج أبو سعد يدعو إلىالبراز، فتقدم إليه على بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه على فقتله‏.‏


ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبيالأفْلَح بسهم فقتله، فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة،فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهماالجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت علىحياته‏.‏ وقيل‏:‏ بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضي عليه‏.‏


هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار،قتلوا جميعاً حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بنشُرَحْبِيل، فقتله على بن أبي طالب، وقيل‏:‏ حمزة بن عبد المطلب، ثم حملهشُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عنالإسلام ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً، ثمحمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً‏.‏


فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار من حمله اللواء أبيدوا عن آخرهم، ولم يبقمنهم أحد يحمل اللواء‏.‏ فتقدم غلام لهم حبشي اسمه صُؤَاب فحمل اللواء،وأبدي من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذينقتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلايسقط، حتى قتل وهو يقول‏:‏ اللّهم هل أعزرت ‏؟‏ يعني هل أعذرت‏؟‏‏.‏


وبعد أن قتل هذا الغلام صُؤاب سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً‏.‏


* القتال في بقية النقاط‏‏ :


وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري فيسائر نقاط المعركة، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين، فانطلقواخلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود، وهم يقولون‏:‏‏[‏أمت، أمت‏]‏ كان ذلك شعاراً لهم يوم أحد‏.‏


أقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء، آخذاً بسيف رسول الله صلى اللهعليه وسلم، مصمماً على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقيمشركاً إلا قتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا‏.‏قال الزبير بن العوام‏:‏وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه،وأعطاه أبا دجانة، وقلت أي في نفسي‏:‏ أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقدقمت إليه، فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع ‏؟‏فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار‏:‏ أخرج أبودجانة عصابة الموت، فخرج وهو يقول‏:‏


أنا الذي عاهدني خليلي ** ونحن بالسَّفْح لدى النَّخِيل


ألا أقوم الدَّهْرَ في الكَيول ** أضْرِبْ بسَيف الله والرسول


فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلاذَفَّفَ عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمعبينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته،فَعَضَّتْ بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله ‏.‏


ثم أمعن أبو دجانة في هدِّ الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش، وهو لايدري بها‏.‏ قال أبو دجانة‏:‏رأيت إنساناً يخْمِش الناس خمشاً شديداً،فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولَوْلَ، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسولالله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة‏.‏


وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة‏.‏ قال الزبير بن العوام‏:‏ رأيت أبادجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها،فقلت‏:‏الله ورسوله أعلم ‏.‏


وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، فقد اندفع إلى قلب جيشالمشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير، ينكشف عنه الأبطال كما تتطايرالأوراق أمام الرياح الهوجاء، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادةحاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين، حتى صرع وهو في مقدمةالمبرزين، ولكن لا كما تصرع الأبطال وجهاً لوجه في ميدان القتال، وإنماكما يغتال الكرام في حلك الظلام‏.‏


* مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب‏ :


يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب‏:‏ كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم، وكان عمهطُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير‏:‏إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق‏.‏ قال‏:‏ فخرجت مع الناس وكنترجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً فلما التقيالناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجملالأوْرَق، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء‏.‏ فوالله إني لأتهيأ لهأريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبدالعزي، فلما رآه حمزة قال له‏:‏ هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور وكانتأمه ختانة قال‏:‏ فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه ‏.‏


قال‏:‏ وهززززززززززززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثُنَّتِهأحشائه حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ، وتركته وإياهاحتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن ليبغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت ‏

.‏


* السيطرة على الموقف‏‏ :


وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسولهحمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله‏.‏ فقد قاتليومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، والزبير بن العوام،ومصعب بن عمير، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعدبن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائمالمشركين، وفتَّ في أعضادهم‏.‏


* من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة‏‏ :

وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حَنْظَلة الغَسِيل وهو حنظلة بن أبيعامر، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق، والذي مضي ذكره قريباًكان حنظلة حديث عهد بالعُرْس، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلعمن أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقي بجيش المشركين في ساحةالقتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب،وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلمااستعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#48

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*نصيب فصيلة الرماة في المعركة‏ :

وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يدبيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكةبقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات؛ ليحطموا جناحالجيش الإسلامي الأيسر، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلةوالارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهمبالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث‏.‏


* الهزيمة تنزل بالمشركين‏‏ :


هكذا دارت رحي الحرب الزَّبُون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطرًا علىالموقف كله حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمينوالشمال والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لابضع مئات قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين‏.‏

وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور،وانكسرت همتها حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتلصُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار،ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادةالعز والمجد والوقار‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لاشك فيها‏.‏

روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال‏:‏ والله لقد رأيتني أنظر إلىخَدَم سوق هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولاكثير‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح‏:‏ فلما لقيناهم هربوا حتىرأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن ‏.‏ وتبعالمسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم‏.‏

* غلطة الرماة الفظيعة‏‏ :

و
بينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكةلم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلةالرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحةبالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تركتأسوأ أثر على سمعتهم، وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر‏.‏

لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليهوسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أوالهزيمة، ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة لما رأي هؤلاء الرماة أنالمسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهملبعض‏:‏ الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون ‏؟‏

أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم،وقال‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت‏:‏ والله لنأتينالناس فلنصيبن من الغنيمة ‏.‏ ثم غادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماةمواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم‏.‏وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة أو أقل منأصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا‏.‏

* خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي‏ :


وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبلالرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبدالله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين، ثم انقض علىالمسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطورالجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم وهي عمرة بنت علقمةالحارثية فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركونولاثوا به، وتنادي بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال،وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحي‏.‏


* موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‏ :

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة تسعة نفر منأصحابه في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان‏:‏ إما أن ينجوبالسرعة بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلىمصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهمجبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد‏.‏

وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير،فقد رفع صوته ينادي أصحابه‏:‏ ‏(‏إلي عباد الله‏)‏، وهو يعرف أن المشركينسوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراًبنفسه في هذا الظرف الدقيق‏.‏

وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون‏.‏


* تبدد المسلمين في الموقف‏‏ :


أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمهاإلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذاوراءها‏؟‏ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهمإلى ما فوق الجبل‏.‏

ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقعالقتل في المسلمين بعضهم من بعض‏.‏ روي البخاري عن عائشة قالت‏:‏ لما كانيوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس‏:‏ أي عباد الله أخراكم أياحترزوا من ورائكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هوبأبيه اليمان، فقال‏:‏ أي عباد الله أبي أبي‏.‏ قالت‏:‏ فوالله ما احتجزواعنه حتى قتلوه، فقال حذيفة‏:‏ يغفر الله لكم‏.‏ قال عروة‏:‏ فوالله مازالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله ‏.‏

وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منهاالكثيرون؛لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح‏:‏إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادتتنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقيبأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي رأس المنافقينليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان‏.‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا مابأيديهم فقال‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ فقالوا‏:‏ قتل رسول الله صلى الله عليهوسلم، قال‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليهرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ اللّهم إني أعتذر إليك مما صنعهؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدمفلقيه سعد بن معاذ، فقال‏:‏ أين يا أبا عمر ‏؟‏ فقال أنس‏:‏ واها لريحالجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتىعرفته أخته بعد نهاية المعركة ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح،وضربة بسيف، ورمية بسهم ‏.‏

ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال‏:‏ يا معشر الأنصار، إن كان محمد قدقتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم‏.‏فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهمحتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه ‏.‏

ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال‏:‏ يافلان، أشعرت أن محمداً قد قتل ‏؟‏ فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمد قد قتلفقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم ‏.‏

وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية،ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي،وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقرالقيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مُخْتَلَق،فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حولمركز منيع، بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة‏.‏

وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل التطويق فىبدايته، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبيطالب وغيرهم رضي الله عنهم كانوا فى مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطرعلى ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام والتحية صاروا فى مقدمة المدافعين‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#49

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*احتدام القتال حول رسول الله‏‏ :

وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق، وتطحن بين شِقَّي رَحَيالمشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله صلى اللهعليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادي المسلمين‏:‏ ‏(‏هلموا إلي، أنا رسولالله‏)‏، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليهبثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين المشركين وبينهؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفانيوالبسالة والبطولة‏.‏


روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد فيسبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال‏:‏ ‏(‏من يردهم عنا ولهالجنة ‏؟‏ أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتىقتل ثم رهقوه أيضاً فقال‏:‏ ‏(‏من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي فيالجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتلالسبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه أي القرشيين‏:‏ ‏(‏ماأنصفنا أصحابنا‏)‏ ‏.‏


وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‏.‏




* أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم‏ :


وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبيعثمان قال‏:‏ لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التييقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وكانت أحرج ساعةبالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلىالمشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم علىالنبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاصبالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفتهالسفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارسعنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكالأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنتهصلى الله عليه وسلم ضربة أخري عنيفة كالأولي حتى دخلت حلقتان من حلقالمِغْفَر في وجْنَتِه، وقال‏:‏ خذها وأنا ابن قمئة‏.‏ فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهة‏:‏ ‏(‏أقمأك الله‏)‏ ‏.‏


وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه،فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول‏:‏ ‏(‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروارباعيته، وهو يدعوهم إلى الله‏)‏، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَمِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْفَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏128‏]‏ ‏.‏


وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجهرسوله‏)‏، ثم مكث ساعة ثم قال‏:‏ ‏(‏اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏، وفي صحيح مسلم أنه قال‏:‏‏(‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ ، وفيالشفاء للقاضي عياض أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏


ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلى الله عليهوسلم إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولةنادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا وهما اثنان فحسب سبيلاً إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتىأجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏


فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانتهوقال‏:‏‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏ ‏.‏ ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلىالله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد‏.‏


وأما طلحة بن عبيد الله فقد روي النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركينحول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، قال جابر‏:‏ فأدركالمشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏من للقوم ‏؟‏‏)‏ فقالطلحة‏:‏ أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد، بنحو ماذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة‏.‏ قال جابر‏:‏ ثمقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال‏:‏ حَسِّ، فقالالنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو قلت‏:‏ بسم الله، لرفعتك الملائكةوالناس ينظرون‏)‏، قال‏:‏ ثم رد الله المشركين ‏.‏ ووقع عند الحاكم فيالإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشلت إصبعه، أيالسبابة والتي تليها ‏.‏


وروي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏


وروي الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ‏:‏‏(‏من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيدالله‏)‏ ‏.‏


وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت‏:‏ كان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏.‏


وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً‏:‏


يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ ** لك الجنان وبُوِّئتَ المَهَا العِينَا


وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي الصحيحينعن سعد، قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومعه رجلانيقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد‏.‏ وفيرواية‏:‏ يعني جبريل وميكائيل‏.‏


* بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم‏ :


وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار منصحابته صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتاللم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعوا صوته صلى الله عليه وسلم حتىأسرعوا إليه ؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسولالله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات وستة من الأنصار قد قتلواوالسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح فلما وصلواأقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضرباتالعدو، ورد هجماته‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكرالصديق رضي الله عنه‏.‏


روي ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت‏:‏ قال أبو بكر الصديق‏:‏ لما كانيوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاءإلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه،قلت‏:‏ كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، ‏[‏حيث فاتني مافاتني، فقلت‏:‏ يكون رجل من قومي أحب إلي‏]‏ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدةبن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى اللهعليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏دونكم أخاكم فقد أوجب‏)‏، وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم فيوَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عنالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلاتركتني، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلىالله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة، قال أبوبكر‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر،إلا تركتني، قال‏:‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدةالأخري، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏دونكم أخاكم، فقدأوجب‏)‏، قال‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‏.‏وفي تهذيب تاريخ دمشق ‏:‏ فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أوأقل أو أكثر، بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا منشأنه‏.‏


وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة منأبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة، ومصعب بن عمير، وعلى بن أبي طالب ، وسهلبن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعبالمازنية، وقتادة ابن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبوطلحة‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#50

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* تضاعف ضغط المشركين‏ :

كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهمعلى المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفرالتي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذه على بيده،واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً، وقال نافع بن جبير‏:‏ سمعترجلاً من المهاجرين يقول‏:‏ شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية،ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏:‏ دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا،ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه فيذلك صفوان، فقال‏:‏ والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجناأربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك ‏.‏

* البطولات النادرة‏ :

وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخنظيراً‏.‏ كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،ويرفع صدره ليقيه سهام العدو‏.‏ قال أنس‏:‏ لما كان يوم أحد انهزم الناسعن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له،وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمرمعه بجَعْبَة من النبل فيقول‏:‏ ‏(‏انثرها لأبي طلحة‏)‏، قال‏:‏ ويشرفالنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة‏:‏ بأبي أنتوأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحْرِي دون نحرك ‏.‏

وعنه أيضاً قال‏:‏ كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترسواحد، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي، فكان إذا رمي تشرف النبي صلى الله عليهوسلم، فينظر إلى موقع نبله‏.‏

وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَرَّسَ عليه بظهره‏.‏ والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك‏.‏

وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص الذي كسر الرَّباعية الشريفةفضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص شديدالحرص على قتل أخيه عتبة هذا إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب‏.‏

وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بنالنعمان‏:‏ أن رسول الله رمي عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بنالنعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه، فردهارسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما‏.‏

وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج‏.‏

وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليهوسلم حتى أنقاه، فقال‏:‏ ‏(‏مُجَّه‏)‏، فقال‏:‏ والله لا أمجه، ثم أدبريقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أراد أن ينظر إلى رجل منأهل الجنة فلينظر إلى هذا‏)‏، فقتل شهيداً‏.‏

وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابنقمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضرباتبسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثناعشر جرحاً‏.‏

وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجومابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت،فأخذ اللواء بيده اليسري، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري، ثمبرك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسولالله لشبهه به فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح‏:‏ إن محمداً قد قتل‏.‏

* إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة‏ :

ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلمفي المشركين والمسلمين‏.‏ وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثيرمن الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضيوالاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلي المسلمين‏.




* الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف‏ :

ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب، فقاتل قتالاًشديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة، يقاتلونويدافعون‏.‏

وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشهالمطوق، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك وكان أول من عرفه فنادي بأعلىصوته‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فأشار إليه أن اصمت وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون إلا أن هذا الصوت بلغإلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاًمن الصحابة‏.‏

وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلىشعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون فيهجومهم ؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام ‏.‏

تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة أحد فرسان المشركين إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ وقام رسول الله صلى اللهعليه وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بنالصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحقبرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعطف عبد الله بن جابر فارس آخر من فرسان مكة على الحارث بن الصِّمَّة،فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة البطلالمغامر ذو العصابة الحمراء على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارترأسه‏.‏

وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كماتحدث عنه القرآن‏.‏ قال أبو طلحة‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتىسقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ‏.‏

وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة في انسحاب منظم إلى شعب الجبل، وشقلبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلتعبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏



*مقتل أبي بن خلف‏ :


قال ابن إسحاق‏:‏ فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركهأبي بن خلف وهو يقول‏:‏ أين محمد ‏؟‏ لا نجوتُ إن نجا‏.‏ فقال القوم‏:‏ يارسول الله، أيعطف عليه رجل منا ‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏‏(‏دعوه‏)‏، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلمالحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنهتطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه منفرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ تدحرج منها عن فرسهمراراً‏.‏ فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقنالدم، قال‏:‏ قتلني والله محمد، قالوا له‏:‏ ذهب والله فؤادك، والله إن بكمن بأس، قال‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏:‏‏(‏أنا أقتلك‏)‏ ، فوالله لو بصقعلى لقتلني‏.‏ فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة‏.‏وفي روايةأبي الأسود عن عروة، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه‏:‏ أنه كانيخور خوار الثور، ويقول‏:‏ والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذيالمجاز لماتوا جميعاً ‏.‏


* طلحة ينهض بالنبي صلى الله عليه وسلم‏‏ :


وفي أثناء انسحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة منالجبل، فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع ؛ لأنه كان قد بَدَّنَ وظاهر بينالدرعين، وقد أصابه جرح شديد‏.‏فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتىاستوي عليها، وقال‏:‏ ‏(‏أوْجَبَ طلحةُ‏)‏ ، أي‏:‏الجنة‏.‏


* آخر هجوم قام به المشركون‏‏ :


ولما تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قامالمشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ بينارسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل يقودهمأبو سفيان وخالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏اللّهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا‏)‏، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معهمن المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ‏.‏


وفي مغازي الأموي‏:‏ أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم لسعد‏:‏‏(‏اجْنُبْهُمْ‏)� � يقول‏:‏ ارددهم فقال‏:‏ كيفأجْنُبُهُمْ وحدي ‏؟‏ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمي بهرجلاً فقتله، قال‏:‏ ثم أخذت سهمي أعرفه، فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذتهأعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت‏:‏ هذا سهم مبارك،فجعلته في كنانتي‏.‏ فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه ‏.‏


* تشويه الشهداء‏‏ :


وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لميكونوا يعرفون من مصيره شيئاً بل كانوا على شبه اليقين من قتله رجعوا إلىمقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم وكذا اشتغلتنساؤهم بقتلي المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج،ويبقرون البطون‏.‏ وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أنتسيغها فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً خلاخيل وقلائد‏.




* مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة‏‏ :


وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدي استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدي استماتتهم في سبيل الله‏:‏


1‏.‏ قال كعب بن مالك‏:‏ كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيلالمشركين بقتلي المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمةيجوز المسلمين وهو يقول‏:‏ استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم‏.‏ وإذا رجل منالمسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلموالكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتىالتقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلمعن وجهه، وقال‏:‏ كيف تري يا كعب ‏؟‏ أنا أبو دجانة ‏.‏


2‏.‏ جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قالأنس‏:‏ لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان أري خَدَمسوقهما تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثمترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ‏.‏ وقال عمر‏:‏ كانت‏[‏أم سَلِيط من نساء الأنصار‏]‏ تزفر لنا القرب يوم أحد ‏.‏


وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخولالمدينة، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم‏:‏هاك المغزل، وهلمسيفك‏.‏ ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحي، فرماها حِبَّانبالكسر بن العَرَقَة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، فشقذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لانصل له، وقال‏:‏‏(‏ارم به‏)‏، فرمي به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقعمستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثمقال‏:‏‏(‏استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته‏)‏ ‏.‏


* بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب‏‏ :


ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقره من الشِّعب خرج على أبيطالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس قيل‏:‏ هو صخرة منقورة تسعكثيراً‏.‏ وقيل‏:‏ اسم ماء بأحد فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصبعلى رأسه وهو يقول‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه‏)‏ ‏.‏


وقال سهل‏:‏ والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليهوسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دُووِي ‏؟‏ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلىبن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدمإلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها فاستمسك الدم‏.‏


وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبى صلى الله عليه وسلمودعا له بخير‏.‏ وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً‏.



يتبع


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#51

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر‏ :


ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادي أفيكممحمد‏؟‏ فلم يجيبوه‏.‏ فقال‏:‏ أفيكم ابن أبي قحافة‏؟‏ فلم يجبيبوه‏.‏فقال‏:‏ أفيكم عمر بن الخطاب‏؟‏ فلم يجيبوه وكان النبي صلى الله عليه وسلممنعهم من الإجابة ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيامالإسلام بهم‏.‏ فقال‏:‏ أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أنقال‏:‏ يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقي الله ما يسوءك‏.‏فقال‏:‏ قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني‏.‏

ثم قال‏:‏ أعْلِ هُبَل‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا تجيبونه‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولوا‏:‏ الله أعلى وأجل‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ لنا العُزَّى ولا عزى لكم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا تجيبونه‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولوا‏:‏الله مولانا، ولا مولي لكم‏)‏‏.‏

ثم قال أبو سفيان‏:‏ أنْعَمْتَ فَعَال ، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال‏.‏

فأجابه عمر، وقال‏:‏ لاسواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار‏.‏

ثم قال أبو سفيان‏:‏ هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏ائته فانظر ما شأنه‏؟‏‏)‏ فجاءه، فقال له أبو سفيان‏:‏ أنشدكالله يا عمر، أقتلنا محمداً‏؟‏ قال عمر‏:‏ اللّهم لا‏.‏ وإنه ليستمع كلامكالآن‏.‏ قال‏:‏ أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر‏.‏

* مواعدة التلاقي في بدر :‏‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي‏:‏ إن موعدكم بدرالعام القابل‏.‏فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه‏:‏‏(‏قل‏:‏ نعم، هو بيننا وبينك موعد‏)‏‏.‏


* التثبت من موقف المشركين‏ :‏

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب، فقال‏:‏ ‏(‏اخرج فيآثار القوم فانظر ماذا يصنعون‏؟‏ وما يريدون‏؟‏ فإن كانوا قد جَنَبُواالخيل، وامْتَطُوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيلوساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة‏.‏ والذي نفسي بيده، لئن أرادوهالأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم‏)‏‏.‏ قال على‏:‏ فخرجت في آثارهم أنظرماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووَجَّهُوا إلى مكة ‏.‏



* تفقد القتلى والجرحى‏‏ :

وفرغ الناس لتفقد القتلي والجرحي بعد منصرف قريش‏.‏ قال زيد بن ثابت‏:‏بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع‏.‏ فقاللي‏:‏ ‏(‏إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له‏:‏ يقول لك رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ كيف تجدك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ فجعلت أطوف بين القتلي، فأتيتهوهو بآخر رمق، فيه سبعون ضربة ؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورميةبسهم، فقلت‏:‏ يا سعد، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك‏:‏ أخبرنيكيف تجدك‏؟‏ فقال‏:‏ وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له، يارسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار‏:‏ لا عذر لكم عند الله إنخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته‏.‏

ووجدوا في الجرحي الأُصَيرِِم عمرو بن ثابت وبه رمق يسير، وكانوا من قبليعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا‏:‏ إن هذا الأصيرم ما جاء به‏؟‏ لقدتركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه‏:‏ ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ علىقومك، أم رغبة في الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ بل رغبة في الإسلام، آمنت باللهورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون،ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏هو منأهل الجنة‏)‏‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ ولم يُصَلِّ لله صلاة قط ‏.‏

ووجدوا في الجرحي قُزْمَان وكان قد قاتل قتال الأبطال ؛ قتل وحده سبعة أوثمانية من المشركين وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر،وبشره المسلمون فقال‏:‏ والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ماقاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول إذا ذكر له‏:‏ ‏(‏إنه من أهل النار‏)‏ وهذا هو مصير المقاتلينفي سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله، وإن قاتلوا تحت لواءالإسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة‏.‏

وعلى عكس من هذا كان في القتلي رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه‏:‏ يامعشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق‏.‏قالوا‏:‏إن اليوم يومالسبت‏.‏ قال‏:‏لا سبت لكم‏.‏فأخذ سيفه وعدته، وقال‏:‏ إن أصبت فمإلىلمحمد‏.‏ يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل‏.‏فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مُخَيرِيق خير يهود‏)‏‏.

*حالة الطوارئ في المدينة‏‏ :

بات المسلمون في المدينة ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 ه بعدالرجوع من معركة أحد وهم في حالة الطوارئ، باتوا وقد أنهكهم التعب، ونالمنهم أي منال يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدهم الأعلى رسولالله صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب‏.‏

* غزوة حمراء الأسد‏ :

وبات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الموقف، فقد كان يخاف أنالمشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التيكسبوها في ساحة القتال، فلا بد من أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريقلغزو المدينة مرة ثانية، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي‏.‏

قال أهل المغازي ما حاصله‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم نادي في الناس،وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو وذلك صباح الغد من معركة أحد، أي يومالأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 ه وقال‏:‏ ‏(‏لا يخرج معنا إلا من شهدالقتال‏)‏، فقال له عبد الله بن أبي‏:‏ أركب معك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏،واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد، والخوف المزيد،وقالوا‏:‏ سمعاً وطاعة‏.‏ واستأذنه جابر بن عبد الله، وقال‏:‏ يا رسولالله، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناتهفائذن لي أسير معك، فأذن له‏.‏

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة، فعسكروا هناك‏.‏

وهناك أقبل مَعْبَد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمفأسلم ويقال‏:‏ بل كان على شركه، ولكنه كان ناصحاً لرسول الله صلى اللهعليه وسلم لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف فقال‏:‏ يا محمد، أماوالله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك‏.‏ فأمرهرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فَيُخَذِّلَه‏.‏

ولم يكن ما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفكير المشركين فيالعودة إلى المدينة إلا حقاً، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستةوثلاثين ميلاً من المدينة تلاوموا فيما بينهم، قال بعضهم لبعض‏:‏لم تصنعواشيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم،فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم‏.‏

ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهمتقديراً صحيحاً ؛ ولذلك خالفهم زعيم مسئول ‏[‏صفوان بن أمية‏]‏ قائلاً‏:‏يا قوم، لاتفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج أي منالمسلمين في غزوة أحد فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكونالدولة عليكم‏.‏ إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة، وأجمعجيش مكة على المسير نحو المدينة‏.‏ ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه منمقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه،فقال‏:‏ ما وراءك يا معبد‏؟‏ فقال معبد وقد شن عليه حرب أعصاب دعائيةعنيفة‏:‏ محمد قد خرج في أصحابه، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقونعليكم تحرقاً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ماضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ ويحك، ما تقول‏؟‏

قال‏:‏ والله ما أري أن ترتحل حتى تري نواصي الخيل أو حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم‏.‏

قال‏:‏ فلا تفعل، فإني ناصح‏.‏

وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب، فلم ير العافية إلافي مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصابدعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة،وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه‏.‏ فقد مر به ركب من عبد القيس يريدالمدينة، فقال‏:‏ هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذهزبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه‏.‏

فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد،فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان، وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْجَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ‏}‏ أي زاد المسلمين قولهم ذلك‏{‏إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُفَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌوَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏‏[‏آلعمران‏:‏ 173، 174‏]‏‏.‏

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد بعد مقدمه يوم الأحدالإثنين والثلاثاء والأربعاء 9، 10، 11 شوال سنة 3 ه ثم رجع إلى المدينة،وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إلى المدينة أبا عَزَّةالجمحي وهو الذي كان قد منّ عليه من أساري بدر ؛ لفقره وكثرة بناته، علىألا يظاهر عليه أحداً، ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي صلىالله عليه وسلم والمسلمين، كما أسلفنا، وخرج لمقاتلتهم في أحد فلما أخذهرسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا محمد، أقلني، وامنن على، ودعنيلبناتي، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول‏:‏ خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمنمن جحر مرتين‏)‏، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه‏.‏

كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة، وهو معاوية بن المغيرة بن أبيالعاص جد عبد الملك بن مروان لأمه ؛ وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحدجاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستأمن له عثمانرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله‏.‏فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحسابقريش، فلما رجع الجيش خرج معاوية هارباً، فأمر رسول الله صلى الله عليهوسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فتعقباه حتى قتلاه ‏.‏

ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة، وإنما هي جزء من غزوة أحد، وتتمة لها وصفحة من صفحاتها‏.‏

تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها، وطالما بحث الباحثون حول مصيرهذه الغزوة، هل كانت هزيمة أم لا‏؟‏ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكريفي الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحةالقتال، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح، وأنطائفة من المؤمنين انهزمت قطعاً، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي،لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح‏.‏

فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين، وأنالمقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار مع الارتباك الشديدوالفوضي العامة بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته، وأن كفته لمتسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحداً من جيش المدينة لم يقع فيأسر الكفار، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين، وأن الكفارلم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل فيمعسكره، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام كماهو دأب الفاتحين في ذلك الزمان بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتالقبل أن يتركها المسلمون، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراريوالأموال، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب، وكانت مفتوحة وخالية تماماً‏.‏

كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوافيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليهمن إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق وكثيراً ما يلقي الفاتحون بمثلهذه الخسائر التي نالها المسلمون أما أن ذلك كان نصراً وفتحاً فكلاوحاشا‏.‏

بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف أنه كان يخاف على جيشهالمعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال، ويزداد ذلك تأكداً حين ننظرإلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد‏.‏

وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حرباً غير منفصلة، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبهمن النجاح والخسارة، ثم حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحةالقتال ويترك مقره لاحتلال العدو، وهذا هو معني الحرب غير المنفصلة‏.‏

وإلى هذا يشير قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِإِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَوَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 104‏]‏، فقدشبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم، مما يفيد أن الموقفينكانا متماثلين، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#52

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*القرآن يتحدث حول موضوع المعركة‏‏ :

ونزل القرآن يلقي ضوءاً على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلةمرحلة، وصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة، وأبدي النواحيالضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبة إلى واجبهم فيمثل هذه المواقف الحاسمة، وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التيأنشئت للحصول عليها هذه الأمة، والتي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجتللناس‏.‏

كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين، ففضحهم وأبدي ما كان في باطنهم منالعداوة لله ولرسوله، مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج في قلوبضعفاء المسلمين، والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود أصحابالدس والمؤامرة وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة‏.‏

نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلةمن مراحل المعركة‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُالْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 121 ‏]‏، وتتركفي نهايتها تعليقاً جامعاً على نتائج هذه المعركة وحكمتها، قال تعإلى‏:‏‏{‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِحَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُلِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِمَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْوَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]
‏‏.‏



* الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة‏ :

قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطاً تاماً ‏.‏ وقال ابن حجر‏:‏قال العلماء‏:‏ وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائدوالحكم الربانية أشياء عظيمة، منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية،وشؤم ارتكاب النهي؛ لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلىالله عليه وسلم ألا يبرحوا منه‏.‏

ومنها أن عادة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لوانتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره،ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بينالأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عنالمسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعلوالقول عاد التلويح تصريحاً، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم،فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم‏.‏

ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس، وكسراً لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون‏.‏

ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها‏.‏

ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم‏.‏

ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك منكفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحقبذلك الكافرين‏.

السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب



كان لمأساة أحد أثر سيئ على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهمعن النفوس، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الأخطاربالمدينة من كل جانب، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر،وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم وتستأصل شأفتهم‏.‏

فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة‏.‏ثم قامت قبائل عَضَل وقَارَة في شهر صفر سنة 4ه بمكيدة تسببت في قتل عشرةمن الصحابة، وفي نفس الشهر نفسه قام عامر بن الطُّفَيل العامري بتحريض بعضالقبائل حتى قتلوا سبعين من الصحابة، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئرمَعُونَة، ولم تزل بنو نضير خلال هذه المدة تجاهر بالعداوة حتى قامت فيربيع الأول سنة 4 ه بمكيدة تهدف إلى قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وتجرأتبنو غَطَفَان حتى همت بالغزو على المدينة في جمادي الأولي سنة 4 ه‏.‏

فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين إلى حينيهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي صرفتوجوه التيارات، وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبتهم العلو والمجدمن جديد‏.‏ وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بهاإلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها قدراً من سمعة جيشه، واستعاد بها من مكانتهشيئاً مذكوراً، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم، بل زادت فيها، وفيالصفحات الآتية شيء مما جري بين الطرفين‏.‏


* سرية أبي سلمة‏ :

أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلتاستخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومنأطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسونمقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة، وعقد له لواء‏.‏وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم،فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها، وعادوا إلىالمدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً‏.‏

كان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4 ه‏.‏ وعاد أبو سلمة وقد نفر عليه جرح كان قد أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات‏.‏


* بعث عبد الله بن أُنَيس‏ :‏

وفي اليوم الخامس من نفس الشهر المحرم سنة 4 ه نقلت الاستخبارات أن خالدبن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى اللهعليه وسلم عبد الله ابن أنيس ليقضي عليه‏.‏

وظل عبد الله بن أنيس غائباً عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يومالسبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالداً وجاء برأسه، فوضعه بين يديالنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عصا وقال‏:‏ ‏(‏هذه آية بيني وبينك يومالقيامة‏)‏، فلما حضرته الوفاة أوصي أن تجعل معه في أكفانه‏.‏



* بعث الرَّجِيع :‏

وفي شهر صفر من نفس السنة أي الرابعة من الهجرة قدم على رسول الله صلىالله عليه وسلم قوم من عَضَل وقَارَة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أنيبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر في قول ابنإسحاق، وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة وأمر عليهم مَرْثَد بن أبيمَرْثَد الغَنَوِي في قول ابن إسحاق، وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جدعاصم بن عمر بن الخطاب فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع وهو ماء لهُذَيلِبناحية الحجاز بين رَابِغ وجُدَّة استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقاللهم‏:‏ بنو لَحْيَان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتىلحقوهم، فأحاطوا بهم وكانوا قد لجأوا إلى فَدْفَد وقالوا ‏:‏ لكم العهدوالميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً‏.‏ فأما عاصم فأبي من النزولوقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خُبَيب وزيد بنالدَّثِنَّةِ ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخري، فنزلوا إليهمولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قِسِيهم، فقال الرجل الثالث ‏:‏ هذا أولالغدر، وأبي أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه،وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رءوسهم يوم بدر، فأماخبيب فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلىالتنعيم، فلما أجمعوا على صلبه قال ‏:‏ دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوهفصلاهما، فلما سلم قال‏:‏ والله لولا أن تقولوا‏:‏ إن ما بي جزع لزدت، ثمقال‏:‏اللّهم أحْصِهِمْ عَدَدًا، واقتلهم بَدَدًا ، ولا تُبْقِ منهم أحدا،ثم قال‏:‏ فقال له أبو سفيان‏:‏ أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه، وأنك فيأهلك‏؟‏ فقال‏:‏ لا والله، ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذيهو فيه تصيبه شوكة تؤذيه‏.‏ ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمروبن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلاً، فذهب به فدفنه، وكان الذي تولي قتلخبيب هو عقبة بن الحارث، وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يوم بدر‏.‏

وفي الصحيح أن خبيباً أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قِطْفًا من العنب، وما بمكة ثمرة‏.‏

وأما زيد بن الدَّثِنَّة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه‏.‏

وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه وكان عاصم قتل عظيماً منعظمائهم يوم بدر فبعث الله عليه مثل الظُّلَّة من الدَّبْر الزنابير فحمتهمن رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء‏.‏ وكان عاصم أعطي الله عهداً ألا يمسهمشرك ولا يمس مشركاً‏.‏ وكان عمر لما بلغه خبره يقول‏:‏ يحفظ الله العبدالمؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته ‏.‏


* مأساة بئر مَعُونة‏ :

وفي الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرَّجِيع وقعت مأساة أخري أشد وأفظع من الأولي، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة‏.‏

وملخصها ‏:‏ أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بمُلاَعِب الأسِنَّة قدم علىرسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولميبعد، فقال ‏:‏ يا رسول الله، لو بعثت أصحابك إلى أهل نَجْد يدعونهم إلىدينك لرجوت أن يجيبوهم، فقال‏:‏ ‏(‏إني أخاف عليهم أهل نجد‏)‏، فقال أبوبََرَاء ‏:‏ أنا جَارٌ لهم، فبعث معه أربعين رجلاً في قول ابن إسحاق، وفيالصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح وأمر عليهم المنذر بنعمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمُعْنِقَ لِيمُوت ، وكانوا من خيار المسلمينوفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعاملأهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة وهي أرضبين بني عامر وحَرَّة بني سُلَيْم فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن مِلْحَانأخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بنالطُّفَيْل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذهافيه ورأى الدم، قال حرام ‏:‏ الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة‏.‏

ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجلجوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَيَّة ورِعْل وذَكَوان،فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتىقتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار، فإنه ارْتُثَّ من بين القتلي،فعاش حتى قتل يوم الخندق‏.‏

وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأياالطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل معأصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مُضَر جَزَّ عامرناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه‏.‏

ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً معه أنباءالمصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبةأحد ؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح ؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة‏.‏

ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقَرْقَرَة من صدر قناة، نزل في ظلشجرة، وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهويري أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليهوسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل،فقال ‏:‏‏(‏لقد قتلت قتيلين لأدِيَنَّهما‏)‏، وانشغل بجمع ديتهما منالمسلمين ومن حلفائهم اليهود ، وهذا الذي صار سبباً لغزوة بني النضير، كماسيذكر‏.‏

وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيعاللتين وقعتا خلال أيام معدودة ، تألما شديداً، وتغلب عليه الحزن والقلق ،حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه‏.‏ففي الصحيح عن أنس قال ‏:‏ دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلواأصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رِعْل وذَكْوَانولَحْيَان وعُصَية، ويقول‏:‏‏(‏عُصَية عَصَتْ الله ورسوله‏)‏، فأنزل اللهتعالى على نبيه قرآناً قرأناه حتى نسخ بعد‏:‏ ‏(‏بلغوا عنا قومنا أنالقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه‏)‏ فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قُنُوتَه ‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#53

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*غزوة بني النضير‏ :

قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين إلا أنهم لميكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقدوالعداوة، ويختارون أنواعاً من الحيل ؛ لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أنيقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعدوقعة بني قينقاع وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزمواالهدوء والسكوت‏.‏

ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلونبالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سراً، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين ‏.‏

وصبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعةالرَّجِيع وبئر مَعُونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلىالله عليه وسلم‏.‏

وبيان ذلك‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهمأن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي وكانذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة فقالوا ‏:‏ نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك‏.‏ فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بماوعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه‏.‏

وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم،فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا ‏:‏ أيكم يأخذ هذه الرحي، ويصعدفيلقيها على رأسه يشدخه بها‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش‏:‏أنا‏.‏ فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم‏:‏ لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بماهممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه‏.‏ ولكنهم عزموا على تنفيذخطتهم‏.‏

ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بماهموا به، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا ‏:‏ نهضتولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود‏.‏

وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بنيالنضير يقول لهم ‏:‏ ‏(‏اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكمعشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه‏)‏‏.‏ ولم يجد يهود مناصاً منالخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين عبد اللهبن أبي بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معيألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم ‏{‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْلَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنقُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏11‏]‏ وتنصركم قريظة وحلفاؤكممن غطفان‏.‏

وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بنأخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلميقول ‏:‏ إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك‏.‏

ولا شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة للمسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم فيهذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأوا كَلَبالعرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجةمن القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفاًبالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادتحساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعاتوأفراداً، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بنيالنضير بعد همهم باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم مهما تكن النتائج‏.‏

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه،ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وسار إليهم،وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهي إليهم فرض عليهم الحصار‏.‏

والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة،وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلكيقول حسان‏:‏

وهان على سَرَاةِ بني لُؤي ** حريق بالبُوَيْرَةِ مستطير

‏[‏البويرة ‏:‏ اسم لنخل بني النضير‏]‏ وفي ذلك أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاقَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَافَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 5‏]‏‏.‏

واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاولأحد أن يسوق لهم خيراً، أو يدفع عنهم شراً، ولهذا شبه سبحانه وتعإلىقصتهم، وجعل مثلهم‏:‏‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِاكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏16‏]‏

ولم يطل الحصار فقد دام ست ليال فقط، وقيل ‏:‏ خمس عشرة ليلة حتى قذف اللهفي قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للاستسلام ولإلقاء السلاح، فأرسلوا إلىرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ نحن نخرج عن المدينة‏.‏ فأنزلهم على أنيخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح‏.‏

فنزلوا على ذلك، وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك، بلحتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملواعلى ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي بن أخطب وسلاَّم بن أبيالحُقَيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط ‏:‏يامِينُ بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما‏.‏

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولي على أرضهموديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفاً‏.‏

وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليهوسلم ؛ يضعها حيث يشاء، ولم يخَمِّسْها لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجِفالمسلمون عليها بِخَيلٍ ولا رِكاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة،إلا أنه أعطي أبا دُجَانة وسهل بن حُنَيف الأنصاريين لفقرهما‏.‏ وكان ينفقمنها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكُرَاع عدة في سبيلالله‏.‏

كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، أغسطس 625م، وأنزلالله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلكالمنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثني على المهاجرين والأنصار، وبين جوازالقطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد فيالأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوي والاستعداد للآخرة، ثم ختمهابالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته‏.‏

وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر ‏:‏ قل ‏:‏ سورة النضير ‏.‏

هذه خلاصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السير حول هذه الغزوة‏.‏ وقد رويأبو داود وعبد الرزاق وغيرهما سبباً آخر حول هذه الغزوة، وهو أنه لما كانتوقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود ‏:‏ إنكم أهل الحلقةوالحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبينخَدَم نسائكم شيء وهو الخلاخيل فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضيرعلى الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اخرج إلينا فيثلاثين رجلاً من أصحابك، ولنخرج في ثلاثين حبراً، حتى نلتقي في مكان كذا،نَصَفٌ بيننا وبينكم، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا، فخرجالنبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً منيهود، حتى إذا برزوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض ‏:‏ كيف تخلصونإليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه، كلهم يحب أن يموت قبله، فأرسلوا إليه‏:‏ كيف تفهم ونفهم ونحن ستون رجلاً ‏؟‏ اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرجإليك ثلاثة من علمائنا، فليسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك،فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة نفر من أصحابه واشتملوا ‏[‏أياليهود‏]‏ على الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم،فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى بني أخيها، وهو رجل مسلم منالأنصار، فأخبرته خبر ما أرادت بنو النضير من الغدر برسول الله صلى اللهعليه وسلم، فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فسارهبخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فرجع النبي صلى اللهعليه وسلم، فلما كان من الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلمبالكتائب فحاصرهم، وقال لهم ‏:‏ ‏(‏إنكم لاتأمنون عندي إلا بعهد تعاهدونيعليه‏)‏، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غداالغد على بني قريظة بالخيل والكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أنيعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهمحتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحَلْقةوالحلْقة‏:‏ السلاح فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعتهموأبواب بيوتهم وخشبها، فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها، فيحملون ما وافقهممن خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام ‏.



*غزوة نجد : ‏

وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون في غزوة بني النضير دون قتال وتضحية توطدسلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن للرسول صلىالله عليه وسلم أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد،وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران، وبلغت بهمالجرأة إلى أن أرادوا القيام بجر غزوة على المدينة‏.‏

فقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين، نقلت إليهاستخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني مُحَارِب وبني ثعلبةمن غَطَفَان، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد،ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة؛ حتى لا يعاودوا مناكرهمالتي ارتكبها إخوانهم مع المسلمين‏.‏

وأضحي الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلاحذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة،وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين‏.‏

وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزوة معينة غزاها المسلمون في أرضنجد في شهر ربيع الثاني أو جمادي الأولي سنة 4 ه، ويسمون هذه الغزوة بغزوةذات الرِّقَاع‏.‏ أما وقوع الغزوة خلال هذه المدة فهو أمر تقتضيه ظروفالمدينة، فإن موسم غزوة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين انصرافهمن أحد، كان قد اقترب‏.‏ وإخلاء المدينة، مع ترك البدو والأعراب علىتمردهم وغطرستهم، والخروج لمثل هذا اللقاء الرهيب لم يكن من مصالح سياسةالحروب قطعاً ، بل كان لا بد من خضد شوكتهم وكف شرهم، قبل الخروج لمثل هذهالحرب الكبيرة، التى كانوا يتوقعون وقوعها فى رحاب بدر ‏.‏

وأما أن تلك الغزوة التى قادها الرسول صلى الله عليه وسلم فى ربيع الآخرأو جمادى الأولى سنة 4 ه هى غزوة ذات الرقاع فلا يصح، فإن غزوة ذات الرقاعشهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعرى رضي الله عنهما، وكان إسلام أبى هريرةقبل غزوة خيبر بأيام، وكذلك أبو موسى الأشعرى رضي الله عنه، وافى النبىصلى الله عليه وسلم بخيبر‏.‏ وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، ويدل علىتأخرها عن السنة الرابعة أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فيها صلاةالخوف، وكانت أول شرعية صلاة الخوف فى غزوة عُسْفَان، ولا خلاف أن غزوةعسفان كانت بعد الخندق، وكانت غزوة الخندق فى أواخر السنة الخامسة‏.



يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#54

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*غزوة الأحزاب :

عاد الأمن والسلام، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعوث التياستغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود الذين كانوا قد ذاقوا ألواناًمن الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم لم يفيقوا منغيهم، ولم يستكينوا، ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر‏.‏ فهمبعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التيكانت قائمة بين المسلمين والوثنيين، ولما تحول مجري الأيام لصالحالمسلمين، وتمخضت الليإلى والأيام عن بسط نفوذهم، وتوطد سلطانهم تحرقهؤلاء اليهود أي تحرق‏.‏

وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدة، لتصويب ضربةإلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها‏.‏ ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهمجرأة على قتال المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة‏.‏

خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة،يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم منأنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروجإلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها‏.‏

ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوالذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب،وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى اللهعليه وسلم والمسلمين‏.‏

وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة وقائدهمأبو سفيان في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت منالشرق قبائل غطفان‏:‏ بنو فَزَارة، يقودهم عُيينَة بن حِصْن، وبنو مُرَّة،يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ، كما خرجتبنو أسد وغيرها‏.‏

واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه‏.‏

وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيشربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشبابوالشيوخ‏.‏

ولو بلغت هذه الأحزاب والمحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتةلكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس، وربما تبلغ إلى استئصالالشأفة وإبادة الخضراء، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزلواضعة أناملها على العروق النابضة، تتجسس الظروف، وتقدر ما يتمخض عنمجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينةإلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير‏.‏

وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلي، تناول فيهموضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهلالشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي ضي الله عنه‏.‏

قال سلمان‏:‏ يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا‏.‏ وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك‏.‏

وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الحظة، فوكل إلى كلعشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً، وقام المسلمون بجد ونشاطيحفرون الخندق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهمهذا‏.‏ ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال‏:‏ كنا مع رسول الله في الخندق،وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفر للمهاجرينوالأنصار‏)‏‏.‏

وعن أنس‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرينوالأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلمارأي ما بهم من النصب والجوع قال‏:‏

اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا مجيبين له‏:‏

نحن الذين بايعوا محمداً ** على الجهاد ما بقينا أبداً

وفيه عن البراء بن عازب قال‏:‏ رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من ترابالخندق حتى واري عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجزبكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول‏:‏

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى رغبوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا

قال‏:‏ ثم يمد بها صوته بآخرها، وفي رواية‏:‏

إن الألى قد بغوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا

كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتتالأكباد، قال أنس‏:‏ كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهمبإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولهاريح‏.‏

وقال أبو طلحة‏:‏ شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعناعن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين‏.‏

وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأي جابر بنعبد الله في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديدًا فذبح بهيمة، وطحنتامرأته صاعاً من شعير، ثم التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً أنيأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق،وهم ألف، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت بُرْمَة اللحم تغط به كماهي، وبقي العجين يخبز كما هو‏.‏

وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدي به أبوهوخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منها التمر، وبدده فوقثوب، ثم دعا أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد، حتى صدر أهلالخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثواب‏.‏

وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابرقال‏:‏ إنا يوم خندق نحفر، فعرضتكُدْية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هذه كدية عرضتفي الخندق‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أنا نازل‏)‏، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثناثلاثة لا نذوق ذواقاً فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المِعْوَل، فضرب فعادكثيباً أهْيل أو أهْيم ، أي صار رملاً لا يتماسك‏.‏

وقال البراء‏:‏ لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذمنها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءة وأخذالمعول فقال‏:‏ ‏(‏بسم الله‏)‏، ثم ضرب ضربة، وقال‏:‏ ‏(‏الله أكبر، أعطيتمفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة‏)‏، ثم ضرب الثانيةفقطع آخر، فقال‏:‏ ‏(‏الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائنالأبيض الآن‏)‏، ثم ضرب الثالثة، فقال‏:‏ ‏(‏بسم الله‏)‏، فقطع بقيةالحجر، فقال‏:‏ ‏(‏الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبوابصنعاء من مكاني‏)‏‏.‏

وروي ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه‏.‏

ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانبسوي الشمال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن زحف مثل هذا الجيشالكبير، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذاالجانب‏.

وواصلالمسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهمفي المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثنيالعرمرم إلى أسوار المدينة‏.‏

وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بينالجُرْف وزَغَابَة، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتىنزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد‏.‏

‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَاوَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَازَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌمَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا‏}‏‏[‏ الأحزاب‏:‏12‏]‏‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلواظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار‏.‏وكانشعارهم‏:‏ ‏[‏حم لا ينصرون‏]‏، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمربالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة‏.‏

ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاًيحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لميكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة كما قالوامكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً‏.‏

وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروامنها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لايجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليهالتراب، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور‏.‏

وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوي في ترقب نتائجالحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّوعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكاناً ضيقاً منالخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع، وخرجعلى بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموامنها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له على بن أبي طالب، وقالكلمة حمي لأجلها وكان من شجعان المشركين وأبطالهم فاقتحم عن فرسه فعقرهوضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه،وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن تركعكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو‏.‏

وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناءالطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل، وناضلوهمأشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم‏.‏

ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه‏:‏ أنعمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش‏.‏ فقال‏:‏ يا رسولالله صلى الله عليه وسلم، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقالالنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأنا والله ما صليتها‏)‏، فنزلنا مع النبيصلى الله عليه وسلم بُطْحَان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلي بعدها المغرب‏.‏

وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا علىالمشركين، ففي البخاري عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يومالخندق‏:‏ ‏(‏ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاةالوسطي حتى غابت الشمس‏)‏‏.‏

وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاءفصلاهن جميعاً‏.‏ قال النووي‏:‏ وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعةالخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها‏.‏ انتهي‏.‏

ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة منالمسلمين، دامت أياماً، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجربينهما قتال مباشر أو حرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة‏.‏

وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع‏:‏ ستة منالمسلمين، وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف‏.‏

وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكْحَل،رماه رجل من قريش يقال له‏:‏ حَبَّان بن العَرِقَة، فدعا سعد‏:‏ اللّهمإنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه،اللّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريششيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتيفيها‏.‏ وقال في آخر دعائه‏:‏ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‏.‏

وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعيالدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم‏:‏ انطلقكبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتي كعب بن أسدالقرظي سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله صلىالله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب، كما تقدم فضرب عليه حييالباب فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي‏:‏ إنيقد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها،حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة، وبغطفان على قادتها وسادتها، حتىأنزلتهم بذَنَب نَقْمَي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحواحتى نستأصل محمداً ومن معه‏.‏

فقال له كعب‏:‏ جئتني والله بذُلِّ الدهر وبجَهَامٍ قد هَرَاق ماؤه، فهويرْعِد ويبْرِق، ليس فيه شيء‏.‏ ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لمأر من محمد إلا صدقا ووفاء‏.‏

فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه في الذِّرْوَة والغَارِب، حتى سمح له على أنأعطاه عهداً من الله وميثاقاً‏:‏ لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداًأن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئمما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين‏.‏

وفعلاً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ كانت صفيةبنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساءوالصبيان، قالت صفية‏:‏ فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربتبنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بينناوبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غورعدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت‏:‏ فقلت‏:‏ ياحسان، إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل علىعورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلموأصحابه، فانزل إليه فاقتله‏.‏

قال‏:‏ والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت‏:‏ فاحتجزت ثم أخذت عموداً،ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصنوقلت‏:‏ يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل،قال‏:‏ ما لي بسلبه من حاجة‏.‏

وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثر عميق فيحفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصونفي منعة من الجيش الإسلامي مع أنها كانت خالية عنهم تماماً فلم يجترئوامرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيينبالمؤن، كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون منمؤنهم عشرين جملاً‏.‏

وانتهي الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلىتحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعثلتحقيق الخبر السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحةوخَوَّات بن جبير، وقال‏:‏ ‏(‏انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاءالقوم أم لا ‏؟‏ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تَفُتُّوا فيأعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس‏)‏‏.‏ فلما دنوا منهموجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسولالله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقالوا‏:‏ من رسول الله ‏؟‏ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد‏.‏ فانصرفواعنهم، فلما أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا‏:‏عَضَل وقَارَة ؛ أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع‏.‏

وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب‏.‏

وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيءيمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعونالانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غيرمنعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُوَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاهُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًاشَدِيدًا‏}‏‏[‏ الأحزاب‏:‏10، 11‏]‏

ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال‏:‏ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوزكسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط‏.‏ وحتىقال بعض آخر في ملأ من رجال قومه‏:‏ إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لناأن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة‏.‏ وحتى همت بنو سلمةبالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَوَالَّذِين َ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُإِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَلَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُالنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍإِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12، 13‏]‏‏.‏

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غَدْر قريظة،فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض مبشراً يقول‏:‏‏(‏الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره‏)‏، ثم أخذ يخططلمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة؛لئلا يؤتي الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لابد من إقدام حاسم، يفضيإلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقاً لهذا الهدف أراد أن يصالح عُيينَة بن حصنوالحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما،ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مديقوتها وبأسها مراراً، وجرت المراودة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك،فقالا‏:‏ يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيءتصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللهوعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً،فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ‏؟‏ واللهلا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال‏:‏ ‏(‏إنما هو شيء أصنعه لكملما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة‏)‏‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#55

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

ثم إن الله عز وجل وله الحمد صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم،وفَلَّ حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له‏:‏ نعيم بنمسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال‏:‏ يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرنيما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما أنت رجل واحد،فَخذِّلْ عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة‏)‏، فذهب من فوره إلى بني قريظةوكان عشيراً لهم في الجاهلية فدخل عليهم وقال‏:‏ قد عرفتم ودي إياكم،وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا‏:‏ صدقت‏.‏ قال‏:‏ فإن قريشاً ليسوا مثلكم،البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلىغيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه،وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقواببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، قالوا‏:‏ فما العمل يا نعيم ‏؟‏قال‏:‏ لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن‏.‏ قالوا‏:‏ لقد أشرت بالرأي‏.‏

ثم مضي نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم‏:‏ تعلمون ودي لكم ونصحي لكم‏؟‏قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمدوأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثميوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهممثل ذلك‏.‏

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة 5ه بعثوا إلى يهود‏:‏ أنا لسنا بأرضمقام، وقد هلك الكُرَاع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسلإليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوافيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهمرسلهم بذلك قالت قريش وغطفان‏:‏ صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود إناوالله لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقالتقريظة‏:‏ صدقكم والله نعيم‏.‏ فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم،وخارت عزائمهم‏.‏

وكان المسلمون يدعون الله تعإلى‏:‏ ‏(‏اللهم استر عوراتنا وآمنروعاتنا‏)‏، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال‏:‏‏(‏اللّهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللّهم اهزمهموزلزلهم‏)‏‏.‏

وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركينوسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم،ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يقر لهمقرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعبوالخوف‏.‏

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفةبن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجعإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول اللهصلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه اللهقتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلىالمدينة‏.‏

وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقامالمشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهراً أو نحوشهر‏.‏ ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوالونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله صلى الله عليهوسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة‏.‏

إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيهاقتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عنتخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوةالصغيرة التي تنمو في المدينة ؛ لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمعأقوي مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلي الله الأحزاب‏:‏ ‏(‏الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم‏)‏‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#56

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*غزوة بني قريظة



وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله إلى المدينة، جاءه جبريل \ عند الظهر،وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال‏:‏ أو قد وضعت السلاح‏؟‏ فإن الملائكة لمتضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بنيقريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسارجبريل في موكبه من الملائكة‏.‏



وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس‏:‏ من كان سامعاًمطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا ببني قريظة، واستعمل على المدينة ابن أممكتوم، وأعطي الراية على بن أبي طالب، وقدّمه إلى بني قريظة، فسار على حتىإذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏



وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار، حتىنزل على بئر من آبار قريظة يقال لها‏:‏ بئر أنَّا‏.‏ وبادر المسلمون إلىامتثال أمره، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة، وأدركتهم العصر فيالطريق فقال بعضهم‏:‏ لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، حتى إنرجالاً منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة، وقال بعضهم‏:‏ لم يرد منا ذلك،وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق، فلم يعنف واحدة منالطائفتين‏.‏



هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي صلىالله عليه وسلم، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرساً، فنازلوا حصون بنيقريظة، وفرضوا عليهم الحصار‏.‏



ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال‏:‏ إما أنيسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهموأموالهم وأبنائهم ونسائهم وقد قال لهم‏:‏ والله، لقد تبين لكم أنه لنبيمرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهمبأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مُصْلِِتِين،يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسولالله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويكبسوهم يوم السبت ؛ لأنهم قد أمنوا أنيقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذقال سيدهم كعب بن أسد في انزعاج وغضب‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمهليلة واحدة من الدهر حازماً‏.‏



ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول اللهصلى الله عليه وسلم، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين،لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيره، وكان حليفاً لهم،وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَالنساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا‏:‏ يا أبا لبابة،أتري أن ننزل على حكم محمد‏؟‏ قال‏:‏ نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه، يقول‏:‏إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضي على وجهه، ولم يرجعإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة، فربطنفسه بسارية المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلمبيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً‏.‏ فلما بلغ رسول الله صلى اللهعليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال‏:‏ ‏(‏أما إنه لو جاءني لاستغفرت له،أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللهعليه‏)‏‏.‏



وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلىالله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل ؛لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون؛ ولأن المسلمينكانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعبالذي اعتراهم ؛ لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلاأن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذتمعنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالبوالزبير بن العوام، وصاح علي‏:‏ يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاقحمزة أو لأفتحن حصنهم‏.



وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمررسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحتإشراف محمد بن مسلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال فيناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسولالله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج،وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال‏:‏ ‏(‏ألا ترضون أن يحكم فيهم رجلمنكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فذاك إلى سعد بن معاذ‏)‏‏.‏قالوا‏:‏ قد رضينا‏.‏



فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قدأصاب أكْحُلَه في معركة الأحزاب‏.‏ فأُركب xxxxاً، وجاء إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم، فجعلوا يقولون، وهم كَنَفَيْهِ‏:‏ يا سعد، أجمل فيمواليك، فأحسن فيهم، فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجعإليهم شيئاً، فلما أكثروا عليه قال‏:‏ لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومةلائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعي إليهم القوم‏.‏



ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة‏:‏ ‏(‏قوموا إلىسيدكم‏)‏، فلما أنزلوه قالوا‏:‏ يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك‏.‏قال‏:‏ وحكمي نافذ عليهم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وعلى المسلمين‏؟‏قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ وعلى من هاهنا‏؟‏ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسولالله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيمًا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم،وعلي‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبي الذرية، وتقسمالأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد حكمت فيهم بحكمالله من فوق سبع سموات‏)‏‏.‏



وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة، بالإضافة إلى ماارتكبوا من الغدر الشنيع، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائةسيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس، وحَجَفَة ، حصلعليها المسلمون بعد فتح ديارهم‏.‏


وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارثامرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم، فجعليذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم‏.‏فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد‏:‏ ما تراه يصنع بنا‏؟‏فقال‏:‏ أفي كل موطن لا تعقلون‏؟‏ أما ترون الداعي لا ينزع‏؟‏ والذاهبمنكم لا يرجع‏؟‏ هو والله القتل وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة،فضربت أعناقهم‏.‏



وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين كانوا قد نقضوا الميثاقالمؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بهافي حياتهم، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذينيستحقون المحاكمة والإعدام‏.‏



وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بنأخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان قد دخل مع بني قريظة فيحصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليهحينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتي به وعليهحُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها مجموعة يداه إلىعنقه بحبل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما والله ما لمت نفسيفي معاداتك، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب‏.‏ ثم قال‏:‏ أيها الناس، لا بأسبأمر الله، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس،فضربت عنقه‏.‏



وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك‏.‏



وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنْبَتَ، وترك من لم ينبت، فكان ممن لم ينبت عطية القُرَظِي، فترك حياً فأسلم، وله صحبة‏.‏



واستوهب ثابت بن قيس، الزبير بن باطا وأهله وماله وكانت للزبير يد عندثابت فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ثابت بن قيس‏:‏ قدوهبك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك‏.‏فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه‏:‏ سألتك بيدي عندك يا ثابت إلاألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، واستحيا ثابت منولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة‏.‏



واستوهبت أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم وله صحبة‏.‏



وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم‏.‏



وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهمبرسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي،فخلي سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب‏.‏



وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منهاالخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجلسهماً واحداً، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاريفابتاع بها خيلاً وسلاحاً‏.‏



واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم رَيْحَانة بنت عمروبن خُنَافة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، هذا ما قاله ابنإسحاق‏.‏وقال الxxxي‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم أعتقها، وتزوجها سنة 6 ه،وماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع‏.‏



ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه التيقدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب لهخيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته‏.‏ قالتعائشة‏:‏ فانفجرت من لَبَّتِهِ فلم يَرُعْهُمْ وفي المسجد خيمة من بنيغفار إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا‏:‏ يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينامن قبلكم، فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات منها‏.‏



وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اهتز عرشالرحمن لموت سعد بن معاذ‏)‏‏.‏ وصحح الترمذي من حديث أنس قال‏:‏ لما حملتجنازة سعد بن معاذ قال المنافقون‏:‏ ما أخف جنازته، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الملائكة كانت تحمله‏)‏‏.‏



قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين، وهو خلاد بن سُوَيْد الذيطرحت عليه الرحى امرأة من قريظة‏.‏ ومات في الحصار أبو سِنان بن مِحْصَنأخو عُكَّاشَة‏.‏



وأما أبو لُبابة، فأقام مرتبطاً بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كلصلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول اللهصلى الله عليه وسلم سَحَرًا وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها،وقالت‏:‏ يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبيأن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر النبي صلى اللهعليه وسلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه‏.‏



وقعت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة 5 ه، ودام الحصار خمساً وعشرين ليلة‏.‏



وأنزل الله تعإلى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، ذكرفيها أهم جزئيات الوقعة، وبين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب،ونتائج الغدر من أهل الكتاب‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#57

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* مقتل سَلاَّم بن أبي الحُقَيْق‏‏ :

كان سلام بن أبي الحقيق وكنيته أبو رافع من أكابر مجرمي اليهود الذينحزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة ، وكان يؤذيرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنتالخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله‏.‏ وكان قتل كعب بن الأشرفعلى أيدي رجال من الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم، فلذلكأسرعوا إلى هذا الاستئذان‏.‏

وأذن رسول الله في قتله ونهي عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامهاخمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد الله بن عَتِيك‏.‏

خرجت هذه المفرزة، واتجهت نحو خيبر ؛ إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنوامنه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه‏:‏اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا منالباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب‏:‏يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب‏.‏

قال عبد الله بن عَتِيك‏:‏ فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثمعلق الأغاليق على وَدٍّ‏.‏ قال‏:‏ فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحتالباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علإلى له، فلما ذهب عنه أهل سمرهصعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من داخل‏.‏ قلت‏:‏ إن القوملو نَذِروا بي لم يخلصوا إلى حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيتمظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت‏.‏ قلت‏:‏ أبا رافع، قال‏:‏ منهذا‏؟‏ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئاً،وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت‏:‏ ما هذاالصوت يا أبا رافع‏؟‏ فقال‏:‏ لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبلبالسيف‏.‏ قال‏:‏ فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله‏.‏ ثم وضعت ضَبِيب السيففي بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباًباباً، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أري أني قد انتهيت إلىالأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتىجلست على الباب‏.‏ فقلت‏:‏ لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته‏؟‏ فلما صاحالديك قام الناعي على السور، فقال‏:‏ أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز،فانطلقت إلى أصحابي فقلت‏:‏ النجاء، فقد قتل الله أبا رافع‏.‏ فانتهيت إلىالنبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته فقال‏:‏ ‏(‏ابسط رجلك‏)‏، فبسطت رجليفمسحها فكأنما لم أشتكها‏.‏

هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافعواشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد الله بنأنيس، وفيه‏:‏ أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبد الله بن عتيك حملوه،وأتوا مَنْهَرًا من عيونهم فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران واشتدوا فيكل وجه، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، وأنهم حين رجعوا احتملوا عبدالله بن عتيك حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5 ه‏.‏

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وقريظة أخذ يوجه حملاتتأديبية إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلامإلا بالقوة القاهرة‏.‏


* سرية محمد بن مسلمة‏ :‏

وكانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكباً‏.‏

تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض نجد،وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6 ه إلىبطن بني بكر بن كلاب‏.‏ فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعماوشاء، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال الحنفيسيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمرمسيلمة الكذاب ، فأخذه المسلمون، فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواريالمسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما ذا عندك ياثمامة‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعمعلى شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ماشئت، فتركه، ثم مرّ به مرةأخري ؛ فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً ، ثم مر مرة ثالثةفقال بعد ما دار بينهما الكلام السابق‏:‏ ‏(‏أطلقوا ثمامة‏)‏، فأطلقوه،فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال‏:‏ والله، ماكان على وجه الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى،والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلى من دينك، فقد أصبح دينك أحبالأديان إلى، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش قالوا‏:‏ صبأت يا ثمامة،قال‏:‏ لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لايأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليهوسلم‏.‏ وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتىجهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أنيكتب إلى ثمامة يخلي إليه حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليهوسلم‏.‏

* غزوة بني لَحْيَان‏ :

بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلةفي الحجاز إلى حدود مكة‏.‏ والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريشوالأعراب، لم يكن يري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلادبمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم،واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بنيلحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جماديالأولي سنة 6 ه في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم،وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان واد بينأمَجَ وعُسْفَان حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنولحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم،وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلىكُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة‏.‏ وكانت غيبته عنهاأربع عشرة ليلة‏.‏

* متابعة البعوث والسرايا‏ :

ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا، وهاك صورة مصغرة منها‏:‏

1 سرية عُكَّاشَة بن مِحْصَن إلى الغَمْر في ربيع الأول أو الآخر سنة6ه‏.‏ خرج عكاشة في أربعين رجلاً إلى الغمْر، ماء لبني أسد، ففر القوم،وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة‏.‏

2 سرية محمد بن مَسْلَمَة إلى ذي القَصَّة في ربيع الأول أو الآخر سنة 6ه‏.‏ خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى ذي القصة في ديار بني ثعلبة، فكمنالقوم لهم وهم مائة فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهمجريحاً‏.‏

3 سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6 ه، وقد بعثهالنبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعهأربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبحفأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم،وغنموا نَعَما وشاء‏.‏

4 سرية زيد بن حارثة إلى الجَمُوم في ربيع الآخر سنة 6ه والجموم ماء لبنيسليم في مَرِّ الظَّهْرَان خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُزَيْنَة يقاللها‏:‏ حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسري،فلما قفل زيد بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسهاوزوجها‏.‏

5 سرية زيد إلى العِيص في جمادي الأولي سنة 6 ه في سبعين ومائة راكب،وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول الله صلىالله عليه وسلم‏.‏وأفلت أبو العاص، فأتي زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلبمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أموال العير عليه ففعلت، وأشار رسولالله صلى الله عليه وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردواالكثير والقليل والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدي الودائعإلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينببالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف، كما ثبت في الحديث الصحيح ردها بالنكاحالأول ؛ لأن آية تحريم المسلمات على الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك، وأما ماورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد، أو رد عليه بعد ست سنين فلا يصحمعني، كما أنه ليس بصحيح سنداً‏.‏ والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيففإنهم يقولون‏:‏ إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان قبيل الفتح‏.‏ ثميناقضون أنفسهم، فيقولون‏:‏ إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان، وقد بسطناالكلام شيئاً في تعليقنا على بلوغ المرام‏.‏ وجنح موسي بن عقبة إلى أن هذاالحادث وقع في سنة 7ه من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا الضعيف‏.‏

6 سرية زيد أيضاً إلى الطَّرِف أو الطَّرِق في جمادي الآخر سنة 6 ه‏.‏ خرجزيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسولالله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نَعَمِهِم عشرين بعيراً،وغاب أربع ليال‏.‏

7 سرية زيد أيضاً إلى وادي القري في رجب سنة 6 ه‏.‏ خرج زيد في اثني عشررجلاً إلى وادي القري؛ لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهمسكان وادي القري ؛ فقتلوا تسعة، وأفلتت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة‏.‏

8 سرية الخَبَط تذكر هذه السرية في رجب سنة 8 ه، ولكن السياق يدل على أنهاكانت قبل الحديبية قال جابر‏:‏ بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم فيثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش، فأصابناجوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحرثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقي إلينا البحردابة يقال لها‏:‏ العَنْبَر، فأكلنا منه نصف شهر، وادَّهَنَّا منه حتىثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطولرجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا من لحمة وَشَائِق،فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك،فقال‏:‏ ‏(‏هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمة شيء تطعمونا‏؟‏‏)‏فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه‏.‏

وإنما قلنا‏:‏ إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية؛ لأن المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية‏.‏


* غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع في شعبان سنة 5 أو 6 ه :

وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف من حيث الوجهةالعسكرية، إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والاضطراب في المجتمعالإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطتالمجتمع الإسلامي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس‏.‏ ونسردالغزوة أولاً، ثم نذكر تلك الوقائع‏.‏

كانت هذه الغزوة في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي، وسنة ست على قول ابن إسحاق‏.‏

وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبيضِرَار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فبعث بُرَيْدَة بن الحصيب الأسلمي لتحقيق الخبر، فأتاهم، ولقيالحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهالخبر‏.‏

وبعد أن تأكد لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع فيالخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقينلم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل‏:‏ أباذر، وقيل‏:‏ نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، وكان الحارث بن أبي ضرار قدوجه عينًا ؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقي المسلمون عليه القبضوقتلوه‏.‏

ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلموقتله عينه، خافوا خوفاً شديداً وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهيرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المُرَيْسِيع بالضم فالفتح مصغراً، اسملماء من مياههم في ناحية قُدَيْد إلى الساحل فتهيأوا للقتال‏.‏ وَصَفَّرسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق،وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول اللهصلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة وانهزم المشركون،وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعموالشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظناً منهأنه من العدو‏.‏

كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم‏:‏ هو وَهْم، فإنه لم يكنبينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبي ذراريهم وأموالهم، كما فيالصحيح أغار رسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وذكرالحديث‏.‏ انتهي‏.‏

وكان من جملة السبي‏:‏ جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت ابن قيس، فكاتبها، فأدي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها،فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا،وقالوا‏:‏ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة، فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاقعبد الله بن أبي وأصحابه، نري أن نورد أولاً شيئاً من أفعالهم في المجتمع الإسلامي‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#58

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق‏‏ :

قدمنا مراراً أن عبد الله بن أبي كان يَحْنَقُ على الإسلام والمسلمين،ولاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم حَنَقًا شديداً ؛ لأن الأوسوالخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخَرَزَ ليتوجوهإذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يري أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم هو الذي استلبه ملكه‏.‏

وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعدأن تظاهر به‏.‏ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على xxxx ليعود سعدبن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي فخَمَّرَ ابن أبي أنفه، وقال‏:‏لا تُغَبِّرُوا علينا‏.‏ ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىالمجلس القرآن، قال‏:‏ اجلس في بيتك، ولا تؤذنا في مجالسنا‏.‏

وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدوًا للهولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي وتوهينكلمة الإسلام‏.‏ وكان يوإلى أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع كماذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين،وإثارة الارتباك والفوضي في صفوفهم بما مضي‏.‏

وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهربالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة،فيقول‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم اللهوأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول اللهصلى الله عليه وسلم ويخطب‏.‏ وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يومالجمعة التي بعد أحد مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع قام ليقول ما كانيقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له‏:‏ اجلس أي عدوالله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطي رقاب الناس، وهويقول‏:‏ والله لكأنما قلت بُجْرًا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصاربباب المسجد‏.‏‏.‏‏.‏ فقال‏:‏ ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى اللهعليه وسلم، قال‏:‏ والله ما أبتغي أن يستغفر لي‏.‏

وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم‏:‏‏{‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْأَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏ الحشر‏:‏11‏]‏‏.‏

وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة القلق والاضطراب وإلقاءالرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قصه الله تعالى في سورة الأحزاب‏:‏‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌمَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُيَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْأَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 12: 20‏]‏‏.‏

بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفونجيداً أن سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي وكثرة السلاح والجيوشوالعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المجتمعالإسلامي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيضإنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المثل الأعلى إلى حدالإعجاز لهذه القيم، كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أنالقضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أنيشنوا حرباً دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأنيجعلوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبةالخاطئة‏.‏ ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين،ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهمكل حين‏.‏ تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبي‏.‏

وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمالمؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليدالعرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمةحليلة المتبني على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلمبزينب وجد المنافقون ثُلْمَتَيْن حسب زعمهم لإثارة المشاغب ضد النبي صلىالله عليه وسلم‏.‏

الأولى‏:‏ أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج‏؟‏

الثانية‏:‏ أن زينب كانت زوجة ابنه مُتَبَنَّاه فالزواج بها من أكبرالكبائر، حسب تقاليد العرب‏.‏ وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقواقصصاً وأساطير، قالوا‏:‏ إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حباً،وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذهالدعاية المختلقة نشراً بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذاالزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثراً قوياً في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآنبالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ عن سعة نشر هذه الدعايةأن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِاللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَكَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بنيالمصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللينوالتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر ؛ إذكانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلاَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْمَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏126‏]‏‏.‏

عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 ه




* سبب عمرة الحديبية‏ :


ولما تطورت الظروف في الجزيزة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذتطلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً، وبدأتالتمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كانقد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام‏.‏

أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هووأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهموقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك،وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر‏.‏

* استنفار المسلمين‏ :


واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير منالأعراب، أما هو فغسل ثيابه، وركب ناقته القَصْواء، واستخلف على المدينةابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي‏.‏ وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدةسنة 6 ه، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال‏:‏ ألف وخمسمائة،ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر‏:‏ السيوف في القُرُب‏.‏

* المسلمون يتحركون إلى مكة‏ :


وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه،وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عيناً له من خزاعةيخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه، فقال‏:‏ إنيتركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوكوصادوك عن البيت، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال‏:‏‏(‏أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم‏؟‏ فإن قعدوا قعدواموتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذاالبيت فمن صدنا عنه قاتلناه‏؟‏‏)‏ فقال أبو بكر‏:‏ الله ورسوله أعلم، إنماجئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه،فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فروحوا‏)‏، فراحوا‏.‏

* محاولة قريش صد المسلمين عن البيت‏ :

وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم عقدت مجلساًاستشارياً قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسولالله صلى الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاًنازلة بذي طُوَي، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاعالغَمِيم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة‏.‏ وقد حاول خالد صدالمسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراءي الجيشان‏.‏ ورأي خالد المسلمين فيصلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال‏:‏ لقد كانوا على غرة، لو كنا حملناعليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين وهم في صلاة العصر ميلةواحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالداً‏.‏

* تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي‏‏ :

وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم ذاتاليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبيةمن أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم،تركه إلى اليسار، فلما رأي خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عنطريقه انطلق يركض نذيراً لقريش‏.‏

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته،فقال الناس‏:‏ حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ ، فقالوا‏:‏ خلأت القصواء، فقال النبيصلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسهاحابس الفيل‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيهاحرمات الله إلا أعطيتهم إياها‏)‏، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصيالحديبية، على ثَمَد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث أننزحوه‏.‏ فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً منكنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتىصدروا‏.‏

*بُدَيْل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش‏‏ :

ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي فينفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلممن أهل تُهَامَة، فقال‏:‏ إني تركت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياهالحديبية، معهم العُوذ المطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت‏.‏ قالرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنامعتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم،ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا،وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهمعلى أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره‏)‏‏.‏

قال بديل‏:‏ سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتي قريشاً، فقال‏:‏ إني قدجئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم‏.‏

فقال سفهاؤهم‏:‏ لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء‏.‏ وقال ذوو الرأيمنهم‏:‏ هات ما سمعته‏.‏ قال‏:‏ سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مِكْرَزبن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ هذا رجل غادر، فلماجاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم‏.‏

* رسل قريش‏ :

ثم قال رجل من كنانة اسمه الحُلَيْس بن علقمة‏:‏ دعوني آته‏.‏ فقالوا‏:‏ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها‏)‏،فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي ذلك‏.‏ قال‏:‏ سبحان الله ماينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال‏:‏ رأيت البدن قدقلدت وأشعرت، وما أري أن يصدوا، وجري بينه وبين قريش كلام أحفظه‏.‏

فقال عروة بن مسعود الثقفي‏:‏ إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها،ودعوني آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواًمن قوله لبديل‏.‏ فقال له عروة عند ذلك‏:‏ أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك،هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخري فوالله إني لا أريوجوها، وإني أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال له أبوبكر‏:‏ امصص بَظْر اللات، أنحن نفر عنه‏؟‏ قال‏:‏ من ذا‏؟‏ قالوا‏:‏ أبوبكر، قال‏:‏ أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بهالأجبتك‏.‏ وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته،والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليهالمِغْفَرُ، فكلما أهوي عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يدهبنعل السيف، وقال‏:‏ أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفععروة رأسه، وقال‏:‏ من ذا‏؟‏ قالوا‏:‏ المغيرة بن شعبة، فقال‏:‏ أي عُذَر،أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك‏؟‏ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهليةفقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منه في شيء‏)‏ ‏(‏وكان المغيرةابن أخي عروة‏)‏‏.‏

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له،فرجع إلى أصحابه، فقال‏:‏ أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصروكسري والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدمحمداً، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجههوجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذاتكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#59

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*هو الذي كف أيديهم عنكم‏‏ :

ولما رأي شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللواإلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموابتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائدالحرس اعتقلهم جميعاً‏.‏

ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلكأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْوَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْعَلَيْهِمْ‏}� � ‏[‏الفتح‏:‏ 24‏]‏

* عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش‏‏ :

وحينئذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذرقائلاً‏:‏ يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إنأوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه،وأرسله إلى قريش، وقال‏:‏ أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً،وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات،فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان‏.‏

فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا‏:‏ أين تريد‏؟‏ فقال‏:‏بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، قالوا‏:‏ قد سمعنا ماتقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرجفرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلىزعماء قريش، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا العرض، وأبي أنيطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

* إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان‏ :

واحتبسته قريش عندها ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضعالراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة وطالالاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم لما بلغته الإشاعة‏:‏ ‏(‏لا نبرح حتى نناجز القوم‏)‏، ثم دعا أصحابهإلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة علىالموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموتثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليهوسلم بيد نفسه وقال‏:‏ ‏(‏هذه عن عثمان‏)‏‏.‏ ولما تمت البيعة جاء عثمانفبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له‏:‏ جَدُّبن قَيْس‏.‏

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذابيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَاللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَالشَّجَرَةِ‏}‏الآي� � ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏

* إبرام الصلح وبنوده‏‏ :

وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدتله ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنهدخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه \ قال‏:‏ ‏(‏قد سهللكم أمركم‏)‏، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه‏:‏

1‏.‏ الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كانالعام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب،السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض‏.‏

2‏.‏ وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض‏.‏

3‏.‏ من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقدقريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً منذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‏.‏

4‏.‏ من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه أي هارباً منهم رده عليهم،ومن جاء قريشاً ممن مع محمد أي هارباً منه لم يرد عليه‏.‏

ثم دعا علياً ليكتب الكتاب، فأملي عليه‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏فقال سهيل‏:‏ أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو‏؟‏ ولكن اكتب‏:‏ باسمكاللّهم‏.‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏ ثم أملي‏:‏ ‏(‏هذا ماصالح عليه محمد رسول الله‏)‏ فقال سهيل‏:‏ لو نعلم أنك رسول الله ماصددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب‏:‏ محمد بن عبد الله فقال‏:‏‏(‏إني رسول الله وإن كذبتموني‏)‏، وأمر علياً أن يكتب‏:‏ محمد بن عبدالله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ‏.‏ فمحاه صلى اللهعليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهدرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب،كما قدمنا في أوائل الكتاب، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلفالقديم ودخلت بنو بكر في عهد قريش‏.‏

* رد أبي جندل‏‏ :

وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد خرجمن أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل‏:‏ هذا أول ماأقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا لم نقضالكتاب بعد‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً‏.‏ فقال النبي صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏فأجزه لي‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ما أنا بمجيزه لك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏بلىفافعل‏)‏، قال‏:‏ ما أنا بفاعل‏.‏ وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره ؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته‏:‏ يامعشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني‏؟‏ فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمنمعك من المستضعفين فرجاً ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً،وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم‏)‏‏.‏

فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول‏:‏ اصبريا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم xxx، ويدني قائم السيفمنه، يقول عمر‏:‏ رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه،ونفذت القضية‏.‏


* النَّحْر والحَلْق للحِلِّ عن العمرة‏‏ :

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال‏:‏ ‏(‏قوموافانحروا‏)‏، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهمأحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت‏:‏ يا رسولالله، أتحب ذلك‏؟‏ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعوحالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه،ودعا حالقه فحلقه، فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلقبعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة،والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل،كان في أنفه بُرَةٌ من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى اللهعليه وسلم للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة‏.‏ وفي هذا السفر أنزلالله فدية الأذي لمن حلق رأسه، بالصيام، أو الصدقة، أو النسك، في شأن كعببن عُجْرَة‏.‏

* الإباء عن رد المهاجرات‏ :

ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم فيالحديبية، فرفض طلبهم هذا ؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصددهذا البند هي‏:‏ ‏(‏وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلارددته علينا‏)‏ ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً‏.‏ وأنزل الله في ذلك‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُمُهَاجِرَات ٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏}‏، حتى بلغ ‏{‏بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقولهتعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّايُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏، فمنأقرت بهذه الشروط قال لها‏:‏ ‏(‏قد بايعتك‏)‏، ثم لم يكن يردهن‏.‏

وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم‏.‏ فطلق عمر يومئذ امرأتينكانتا له في الشرك، تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخري صفوان بن أمية‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#60

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة‏ :

هذا هو صلح الحديبية، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيمللمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصالشأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتهاالحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينيةوالصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوةالمسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواهعلى أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لاتهمهاالآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلامبأجمعها، فلايهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل‏.‏أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش‏؟‏ وفتحا مبيناً بالنسبة إلىالمسلمين‏؟‏ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكنأهدافها بالنسبة إلى المسلمين مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناءالناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذييهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقدحصل هذا الهدف بجميعأجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين،وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كانعدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلاميفي سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف‏.‏


أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوابادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمبَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏، أما المسلمون فلم يكنالمقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيلالله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته، فالعقد بوضعالحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلىضعفه وانهياره‏.‏


أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضاً فشل لقريش،وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط‏.‏


أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهيما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضربالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله، وعنمدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذاارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائهفيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إنهمن ذهب منا إليهم فأبعده الله‏)‏‏.‏ وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لميبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعةللمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً‏؟‏ وهذا الذيأشار إليه النبي بقوله‏:‏ ‏(‏ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاًومخرجاً‏)‏‏.‏


والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقةينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهمالوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بدله من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ‏.‏ وما سمح به النبي صلى الله عليه وسلم منأنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنهيعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذاالشرط‏.‏



* حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى الله عليه وسلم :


هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد‏.‏


الأولي‏:‏ أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به‏؟‏


الثانية‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهاردينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح‏؟‏


كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون، وصارت مشاعرالمسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنودالصلح‏.‏ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى اللهعليه وسلم وقال‏:‏ يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل‏؟‏ قال‏:‏‏(‏بلى‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار‏؟‏ قال‏:‏‏(‏بلي‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم اللهبيننا وبينهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهوناصري ولن يضيعني أبداً‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيتفنطوف به‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بلي، فأخبرتك أنا نأتيه العام‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا‏.‏قال‏:‏ ‏(‏فإنك آتيه ومطوف به‏)‏‏.‏


ثم انطلق عمر متغيظا فأتي أبا بكر، فقال له كما قال لرسول الله صلى اللهعليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلمسواء، وزاد‏:‏ فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق‏.‏


ثم نزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏[‏سورة الفتح‏:‏1‏]‏، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه‏.‏ فقال‏:‏ يارسول الله، أو فتح هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ فطابت نفسه ورجع‏.‏


ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً، قال عمر‏:‏ فعملت لذلك أعمالاً،مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذيتكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً‏

.‏



* انحلت أزمة المستضعفين‏ :


ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلترجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بَصِير، رجل من ثقيف حليفلقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ العهدالذي جعلت لنا‏.‏ فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا بهحتى بلغا ذا الحُلَيْفَة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحدالرجلين‏:‏ والله إني لأري سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال‏:‏أجل، والله إنه لجيد، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ‏.‏ فقال أبو بصير‏:‏أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد‏.‏


وفر الآخر حتى أتي المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم حين رآه‏:‏ ‏(‏لقد رأى هذا ذعراً‏)‏، فلما انتهي إلى النبي صلىالله عليه وسلم قال‏:‏ قُتِل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال‏:‏يا نبي الله، قد والله أوْفَي الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني اللهمنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويل أمه، مِسْعَر حَرْبٍ لوكان له أحد‏)‏، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي سِيفَالبحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج منقريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة‏.‏ فو الله مايسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذواأموالهم‏.‏ فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحملما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم،فقدموا عليه المدينة‏.‏



* إسلام أبطال من قريش‏‏ :

وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليدوعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنمكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها‏)‏‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#61

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*المرحلة الثانية: طور جديد :

إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين، فقد كانتقريش أقوي قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحربإلى رحاب الأمن والسلام انكسر أقوي جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة قريشوغَطَفَان واليهود ولما كانت قريش ممثلة للوثنية، وزعيمتهم في ربوع جزيرةالعرب انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير،ولذلك لا نري لغطفان استفزازاً كبيراً بعد هذه الهدنة، وجل ما جاء منهمإنما جاء من قبل إغراء اليهود‏.‏

أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر،وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجججججججججججج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربةحول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أولإلحاق الخسائر الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى اللهعليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر‏.‏

ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت المسلمين فرصة كبيرة لنشرالدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال، وبرزنشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري ؛ ولذلك نري أن نقسم هذه المرحلةإلى قسمين‏:‏

1 النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء‏.‏

2 النشاط العسكري‏.‏

وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول موضوع مكاتبة الملوكوالأمراء ؛ إذ الدعوة الإسلامية هي المقدمة طبعاً، بل ذلك هو الهدف الذيعاني له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن، والقلاقلوالاضطرابات‏.‏

* مكاتبة الملوك والأمراء :

في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام‏.‏

ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له‏:‏ إنهم لا يقرءون كتابا إلاوعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، نقشه‏:‏ محمدرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر‏:‏ محمد سطر،ورسول سطر، والله سطر، هكذا‏.‏

واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزمالعلامة المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرةالمحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام‏.‏ وفيما يلي نصوصهذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه‏.‏

1 الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة‏:‏

وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليهوسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع منالهجرة‏.‏ وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيدأنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعلهنص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهدالمكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ‏:‏ ‏(‏وقدبعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودعالتجبر‏)‏‏.‏

وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي،الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أنلا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً، وأن محمدًاعبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم، ‏{‏يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًاوَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِنتَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ فإن أبيتفعليك إثم النصارى من قومك‏)‏‏.‏

وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله باريس نص كتاب قد عثر عليه فيالماضي القريب بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط وبذلالدكتور في تحقيق ذلك النص جهداً بليغاً، واستعان في ذلك كثيراً باكتشافاتالعصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمنالمهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتولالطيبة الحصينة، فحملت بعيسي من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعوإلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذيجاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى‏)‏‏.‏

وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليهوسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظرفي الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه،والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى اللهعليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآيةالكريمة‏:‏ ‏{‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىكَلَمَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏ }‏ إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسمالأصحمة صريحاً، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عنديأنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلىخليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم‏.‏

وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديهانصوص هذه الكتب‏.‏ والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم بأن النص الذيأورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليهوسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحاً،والعلم عند الله‏.‏

ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيأخذه النجاشي، ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يدجعفر بن أبي طالب، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه‏:‏

‏[‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلامعليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو،أما بعد‏:‏

فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرضإن عيسي لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثتبه إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً،وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين‏)‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفراً ومن معهمن مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهمعلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر‏.‏

وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلىالله عليه وسلم يوم وفاته، وصلي عليه صلاة الغائب، ولما مات وتخلف علىعرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً آخر، ولا يدري هلأسلم أم لا‏؟‏‏.‏

2 الكتاب إلى المقوقس ملك مصر‏:‏

وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيمالقبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلمتسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط،‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًاوَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِنتَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏)‏

واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏.‏ فلما دخل حاطب علىالمقوقس قال له‏:‏ إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه اللهنكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبرغيرك بك‏.‏

فقال المقوقس‏:‏ إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه‏.‏

فقال حاطب‏:‏ ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إنهذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهممنه النصاري، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، ومادعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدركقوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسناننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به‏.‏

فقال المقوقس‏:‏ إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهودفيه‏.‏ ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهنالكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر‏.‏

وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه،ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد‏:‏

فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياًبقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين،لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلامعليك‏)‏‏.‏

ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دُلْدُل،بقيت إلى زمن معاوية ، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهيالتي ولدت له إبراهيم‏.‏ وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#62

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

النشاط العسكري بعد صلح الحديبية




* غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد‏‏ :

هذه الغزوة حركة مطاردة ضد فصيلة من بني فَزَارة قامت بعمل القرصنة في لِقَاحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وقبلخيبر‏.‏ ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلاث، وروي ذلكمسلم مسنداً من حديث سلمة ابن الأكوع‏.‏ وذكر الجمهور من أهل المغازي أنهاكانت قبل الحديبية، وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي‏.‏

وخلاصة الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال‏:‏ بعث رسولالله صلى الله عليه وسلم بظهره مع غلامه رَبَاح، وأنا معه بفرس أبي طلحة،فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع،وقتل راعيه، فقلت‏:‏ يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة، وأخبر رسولالله صلى الله عليه وسلم، ثم قمت على أكَمَة، واستتقبلت المدينة، فناديتثلاثاً‏:‏ يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز،أقول‏:‏

‏[‏خُذْها‏]‏ أنا ابنُ الأكْوَع ** واليومُ يومُ الرُّضّع

فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر،ثم رميته فتعفرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهمبالحجارة، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسولالله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثماتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحاً يستخفون،ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة، يعرفها رسول الله صلىالله عليه وسلم وأصحابه‏.‏ حتى أتوا متضايقاً من ثَنِيَّةٍ، فجلسوايتغدون، وجلست على رأس قَرْن، فصعد إلى منهم أربعة في الجبل، قلت‏:‏ هلتعرفونني‏؟‏ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولايطلبني فيدركني، فرجعوا‏.‏ فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلىالله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم أخرم، وعلى أثره أبو قتادة،وعلى أثره المقداد بن الأسود، فالتقي عبد الرحمن وأخرم، فعقر بعبد الرحمنفرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة بعبدالرحمن فطعنه فقتله، وولي القوم مدبرين، فتبعتهم أعدو على رجلي، حتىيعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له‏:‏ ذو قَرَد، ليشربوا منه،وهم عطاش، فأجليتهم عنه، فما ذاقوا قطرة منه، ولحقني رسول الله صلى اللهعليه وسلم والخيل عشاء، فقلت‏:‏ يا رسول الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتنيفي مائة رجل استنقذت ما عندهم من السَّرْح، وأخذت بأعناق القوم، فقال‏:‏‏(‏يا بن الأكوع‏.‏ ملكت فأسجح‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏إنهم ليقرون الآن فيغطفان‏)‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير فرساننا اليوم أبو قتادة،وخير رجالتنا سلمة‏)‏‏.‏ وأعطاني سهمين، سهم الراجل وسهم الفارس، وأردفنيوراءه على العَضْبَاء راجعين إلى المدينة‏.‏

استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو‏.‏


* غزوة خيبر ووادي القُري (‏في المحرم سنة 7 ه‏)‏ :

كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة‏.‏

* سبب الغزوة‏ :

ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوي أجنحة الأحزاب الثلاثة،وهو قريش، وأمن منه تماماً بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحينالباقيين اليهود وقبائل نجد حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء فيالمنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة اللهوالدعوة إليه‏.‏

ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر ومركز الاستفزازات العسكرية، ومعدنالتحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا‏.‏

أما كون خيبر بهذه الصفة، فلا ننسي أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضدالمسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالاتبالمنافقين الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي وبغطفان وأعراب الباديةالجناح الثالث من الأحزاب وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال، فألقواالمسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلىالله عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتكبرأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكنالواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا فيالقيام بهذا الواجب ؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم وهي قريش كانتمجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاءالمجرمين، واقترب لهم يوم الحساب‏.‏

* الخروج إلى خيبر‏ :

قال ابن إسحاق‏:‏ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع منالحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر‏.‏

قال المفسرون‏:‏ إن خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله‏:‏‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَلَكُمْ هَذِهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20‏]‏ يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرةخيبر‏.‏

* عدد الجيش الإسلامي‏‏ :


ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليهوسلم في غزوة الحديبية أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهمقائلاً‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىمَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنيُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَاللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَايَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن ألا يخرجمعه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة‏.‏

واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري، وقال ابن إسحاق‏:‏ نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، والأول أصح عند المحققين‏.‏

وبعد خروجه صلى الله عليه وسلم قدم أبو هريرة المدينة مسلماً، فوافي سباعبن عرفطة في صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته أتي سباعا فزوده، حتى قدم علىرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه فيسهمانهم‏.‏

* اتصال المنافقين باليهود‏‏ :

وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبيإلى يهود خيبر‏:‏ إن محمداً قصد قصدكم، وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولاتخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل، لاسلاح معهم إلا قليل، فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيقوهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم ؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر،ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبواالمسلمين‏.‏


* الطريق إلى خيبر‏ :

وسلك رسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر بالكسر، وقيل‏:‏بالتحريك ثم على الصهباء، ثم نزل على واد يقال له‏:‏ الرجيع، وكان بينهوبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لإمداداليهود، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطاً، فظنوا أنالمسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا، وخلوا بين رسول الله صلىالله عليه وسلم وبين خيبر‏.‏

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيشوكان اسم أحدهما‏:‏ حُسَيْل ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر منجهة الشمال أي جهة الشام فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام،كما يحول بينهم وبين غطفان‏.‏

قال أحدهما‏:‏ أنا أدلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل حتى انتهيإلى مفرق الطرق المتعددة وقال‏:‏ يا رسول الله، هذه طرق يمكن الوصول من كلمنها إلى المقصد، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً‏.‏ قال‏:‏ اسم واحد منهاحزن، فأبي النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه، قال‏:‏ اسم الآخر شاش،فامتنع منه أيضاً، وقال‏:‏ اسم الآخر حاطب، فامتنع منه أيضاً، قال حسيل‏:‏فما بقي إلا واحد‏.‏ قال عمر‏:‏ ما اسمه‏؟‏ قال‏:‏ مَرْحَب، فاختار النبيصلى الله عليه وسلم سلوكه‏.‏


* بعض ما وقع في الطريق‏ :

1 عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبرفسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر‏:‏ يا عامر، ألا تسمعنا منهنيهاتك‏؟‏ وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو بالقوم، يقول‏:‏

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينا

فاغفر فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنا ** وَثبِّت الأقدام إن لاقينا

وألْقِينْ سكينة علينا ** إنا إذا صِيحَ بنا أبينا

وبالصياح عَوَّلُوا علينا **

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من هذا السائق‏)‏ قالوا‏:‏ عامربن الأكوع، قال‏:‏ ‏(‏يرحمه الله‏)‏‏:‏ قال رجل من القوم‏:‏ وجبت يا نبيالله، لولا أمتعتنا به‏.‏

وكانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد ، وقد وقع ذلك في حرب خيبر‏.‏

2 وبالصهباء من أدني خيبر صلي النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دعابالأزواد، فلم يؤت إلا بالسَّوِيق، فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، ثم قامإلى المغرب، فمضمض، ومضمض الناس، ثم صلي ولم يتوضأ ، ثم صلي العشاء‏.‏

3 ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال‏:‏ ‏(‏قفوا‏)‏، فوقف الجيش، فقال‏:‏‏(‏اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، وربالشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية،وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر مافيها، أقدموا، بسم الله‏)‏‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#63

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل





*الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر‏‏ :

وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من خيبر،ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي قومًا بليللم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس، وركب المسلمون، فخرج أهلخيبر بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيشقالوا‏:‏ محمد، والله محمد والخَمِيس ، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقالالنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر، خربتخيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏‏
.‏


* حصون خيبر‏‏ :

وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون‏:‏

1 حصن ناعم‏.‏ 2 حصن الصَّعْب بن معاذ‏.‏

3 حصن قلعة الزبير‏.‏ 4 حصن أبي‏.‏

5 حصن النِّزَار‏.‏

والحصون الثلاثة الأولي منها كانت تقع في منطقة يقال لها‏:‏ ‏(‏النطاة‏)‏ وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ‏.‏

أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط‏:‏

1 حصن القَمُوص ‏[‏وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير‏]‏‏.‏

2 حصن الوَطِيح‏.‏

3 حصن السُّلالم‏.‏

وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها‏.‏

والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال‏.‏

* معسكر الجيش الإسلامي‏‏ :

وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اختار لمعسكره منزلاً، فأتاهحُبَاب بن المنذر، فقال‏:‏ يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله،أم هو الرأي في الحرب‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بل هو الرأي‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول الله،إن هذا المنزل قريب جدًا من حصن نَطَاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهميدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصلإليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضًا هذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرضوخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا، قال صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏الرأي ما أشرت‏)‏، ثم تحول إلى مكان آخر‏.‏

* التهيؤ للقتال وبشارة الفتح‏‏ :

ولما كانت ليلة الدخول وقيل‏:‏ بل بعد عدة محاولات ومحاربات قال النبي صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبهالله ورسوله، ‏[‏يفتح الله على يديه ‏]‏‏)‏ فلما أصبح الناس غدوا على رسولالله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال‏:‏ ‏(‏أين علي بن أبيطالب‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، قال‏:‏ ‏(‏فأرسلواإليه‏)‏، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له،فبرئ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال‏:‏ يا رسول الله، أقاتلهمحتى يكونوا مثلنا، قال‏:‏ ‏(‏انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهمإلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأن يهديالله بك رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم‏)‏‏.‏

* بدء المعركة وفتح حصن ناعم‏‏ :

أما اليهود فإنهم لما رأوا الجيش وفروا إلى مدينتهم تحصنوا في حصونهم، وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال‏.‏

وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم‏.‏

وكان خط الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف‏.‏

خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهودإلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب،فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سلمة بن الأكوع‏:‏ فلماأتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول‏:‏

قد عَلِمتْ خيبر أني مَرْحَب ** شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب

إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب **

فبرز له عمي عامر فقال‏:‏

قد علمت خيبر أني عامر ** شاكي السلاح بطل مُغَامِر

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، وكانسيفه قصيرًا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عينركبته فمات منه، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن له لأجرينوجمع بين إصبعيه إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد، قَلَّ عربي مَشَي بهامِثْلَه‏)‏‏.‏

ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخري وجعل يرتجز بقوله‏:‏

قد علمت خيبر أني مرحب‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فبرز له على بن أبي طالب‏.‏ قال سلمة ابن الأكوع‏:‏ فقال علي‏:‏

أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَهْ ** كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَهْ

أُوفِيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَهْ **

فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه‏.‏

ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال‏:‏ منأنت‏؟‏ فقال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي‏:‏ علوتم وما أنزل علىموسى‏.‏

ثم خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول‏:‏ من يبارز‏؟‏ فبرز إليه الزبير، فقالتصفية أمه‏:‏ يا رسول الله، يقتل ابني، قال‏:‏ ‏(‏بل ابنك يقتله‏)‏، فقتلهالزبير‏.‏

ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، انهارتلأجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أنهذا القتال دام أيامًا لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهوديئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحمالمسلمون حصن ناعم‏.‏

* فتح حصن الصعب بن معاذ‏‏ :

وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قامالمسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليهالحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلملفتح هذا الحصن دعوة خاصة‏.‏

روي ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا‏:‏ لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم إنك قد عرفتحالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظمحصونها عنهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا‏)‏‏.‏ فغدا الناس ففتح اللهعز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه‏.‏

ولما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصنكان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن،ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعضالمنجنيقات والدبابات‏.‏

ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان رجالمن الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول اللهصلى الله عليه وسلم بذلك نهي عن لحوم الحمر الإنسية‏.‏

* فتح قلعة الزبير‏ :

وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعةالزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ ، لا تقدر عليه الخيل والرجاللصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصار، وأقاممحاصرًا ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال‏:‏ يا أبا القاسم، إنك لوأقمت شهرًا ما بالوا، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليلويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهمأصحروا لك‏.‏ فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفرمن المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صلى اللهعليه وسلم‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#64

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل


* فتح قلعة أبي‏ :

وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرضالمسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلبالمبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هوالبطل المشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابةالحمراء‏.‏ وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معهالجيش الإسلامي، وجري قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود منالقلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول‏.‏

* فتح حصن النَّزَار‏ :

كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأنالمسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم في هذاالسبيل، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قدأخلوا منها القلاع الأربعة السابقة‏.‏

وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكونالحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه‏.‏ أمااليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهمقاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة‏.‏

وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، أمر النبي صلى الله عليهوسلم بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعواالخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزمأمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصنكما تسللوا من الحصون الأخري، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلميننساءهم وذراريهم‏.‏

وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحيةالنَّطَاة والشَّقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخري إلا أن اليهودبمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني منبلدة خيبر‏.

*فتح الشطر الثاني من خيبر‏ :

ولما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق، تحول إلىأهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص‏:‏ حصن بني أبي الحُقَيْق من بنيالنضير، وحصن الوَطِيح والسُّلالم، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاةوالشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن‏.‏

واختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أملا‏؟‏ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ منسياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضةللاستسلام‏.‏

أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعدالمفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارةالقتال، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال‏.‏

ومهما كان، فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحيةالكتيبة فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهودلا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهمالمنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلمالصلح‏.‏

* المفاوضة‏‏ :

وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنزلفأكلمك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم منالمقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بينرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراءوالبيضاء أي الذهب والفضة والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وبرئت منكم ذمة الله وذمةرسوله إن كتمتموني شيئا‏)‏، فصالحوه على ذلك ، وبعد هذه المصالحة تم تسليمالحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر‏.‏

* قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد‏‏ :

وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا، غيبا مَسْكًا فيهمال وحُلُي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكِنَانة الربيع،وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتي رجلمن اليهود فقال‏:‏ إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسولالله صلى الله عليه وسلم لكنانة‏:‏ ‏(‏أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك‏؟‏‏)‏قال‏:‏ نعم، فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي،فأبي أن يؤديه‏.‏ فدفعه إلى الزبير، وقال‏:‏ عذبه حتى نستأصل ما عنده،فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلىالله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة وكان محمودقتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل بالجدار فمات ‏.‏

وذكر ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة‏.‏

وسبي رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول‏.‏

* قسمة الغنائم‏‏ :

وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا‏:‏ يامحمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم،ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها،وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كلزرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم، وكانعبد الله بن رواحة يخرصه عليهم‏.‏

وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثةآلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين النصف منذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحدالمسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل بهمن أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة منالله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكانمعهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارسثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد‏.‏

ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ ما شبعنا حتىفتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت‏:‏ لما فتحت خيبر قلنا‏:‏ الآن نشبعمن التمر ، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ردالمهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صارلهم بخيبر مال ونخيل‏.



* قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين‏‏ :

وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه‏.‏

قال أبو موسي‏:‏ بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن،فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي في بضع وخمسين رجلاً من قومي، ركبناسفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرًا وأصحابهعنده، فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة،فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلمحين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهدمعه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم‏.‏

ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيهوقال‏:‏ ‏(‏والله ما أدري بأيهما أفرح‏؟‏ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر‏)‏‏.‏

وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمروبن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم النجاشي على مركبين، وكانواستة عشر رجلاً، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم، وبقيتهم جاءوا إلىالمدينة قبل ذلك‏.‏


* الزواج بصفية‏‏ :

ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيقلغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الxxxي، فقال‏:‏ يا نبي الله،أعطني جارية من السبي، فقال‏:‏ اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاءرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله، أعطيت دحية صفيةبنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك، قال‏:‏ ‏(‏ادعوهبها‏)‏‏.‏ فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏خذ جارية من السبي غيرها‏)‏، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلمالإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسدالصهباء راجعًا إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له منالليل، فأصبح عروسًا بها، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق،وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها‏.‏

ورأى بوجهها خضرة، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ يا رسول الله، رأيتقبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكرمن شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي‏.‏ فقال‏:‏ تمنين هذا الملكالذي بالمدينة‏.‏

* أمر الشاة المسمومة‏ :

ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينببنت الحارث، امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم، شاة مَصْلِيَّةً، وقد سألت أي عضوأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقيل لها‏:‏ الذراع، فأكثرت فيهامن السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول اللهصلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها، ولفظها،ثم قال‏:‏ ‏(‏إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم‏)‏، ثم دعا بها فاعترفت،فقال‏:‏ ‏(‏ما حملك على ذلك‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ إن كان ملكًا استرحتمنه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فتجاوز عنها‏.‏

وكان معه بِشْر بن البراء بن مَعْرُور، أخذ منها أكلة فأساغها، فمات منها‏.‏

واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا‏.‏

* قتلى الفريقين في معارك خيبر‏ :

وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة من قريشوواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل خيبر والباقون منالأنصار‏.‏

ويقال‏:‏ إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً‏.‏

وذكر العلامة المنصورفوري 91 رجلاً، ثم قال‏:‏ إني وجدت بعد التفحص 32اسما، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجلأكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر، والصحيح أنهقتل في بدر‏.‏

أما قتلي اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً‏.‏


* فَدَك‏‏ :

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن مسعودإلى يهود فَدَك، ليدعوهم إلى الإسلام، فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبرقذف الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونهعلى النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدكلرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة؛ لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#65

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

وادي القُرَي‏ :

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القري، وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب‏.‏

فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي، وهم على تعبئة، فقتل مِدْعَم عَبْدٌلرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس‏:‏ هنيئا له الجنة، فقال النبيصلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كلا، والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلَة التي أخذهايوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا‏)‏، فلما سمعبذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشِرَاك أو شراكين، فقالالنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شراك من نار أو شراكان من نار‏)‏‏.‏

ثم عَبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصَفَّهم، ودفعلواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحُبَاب بن المنذر، وراية إلى سهل بنحُنَيْف، وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجلمنهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخرفبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشررجلاً، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام‏.‏

وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه، ثم يعود، فيدعوهم إلىالإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمسقيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغَنَّمَهُ اللهُ أموالهم،وأصابوا أثاثا ومتاعًا كثيرًا‏.‏

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القري أربعة أيام‏.‏ وقسم علىأصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها كماعامل أهل خيبر‏.‏

* تَيْمَاء‏‏ :

ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فَدَك ووادي القُرَي، لميبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح،فقبل ذلك منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم‏.‏ وكتبلهم بذلك كتابا وهاك نصه‏:‏ هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أن لهمالذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد، وكتبخالد بن سعيد‏.‏

* العودة إلى المدينة‏ :

ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى المدينة، وفي الطريقأشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير‏:‏ ‏(‏الله أكبر، الله أكبر،لا إله إلا الله‏)‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربعوا علىأنفسكم، إنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا‏)‏‏.‏

وفي مرجعه ذلك سار النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، ثم نام في آخر الليلببعض الطريق، وقال لبلال‏:‏ ‏(‏اكلأ لنا الليل‏)‏، فغلبت بلالاً عيناه،وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد، حتى ضربتهم الشمس، وأول من استيقظبعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من ذلك الوادي، وتقدم، ثمصلي الفجر بالناس، وقيل‏:‏ إن هذه القصة في غير هذا السفر‏.‏

وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر، يبدو أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 ه‏.‏

* سرية أبَان بن سعيد‏ :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلاءالمدينة تماما بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعًا، بينما الأعرابضاربة حولها، تطلب غرة المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة ؛ولذلك أرسل سرية إلى نجد لإرهاب الأعراب تحت قيادة أبان بن سعيد، بينماكان هو إلى خيبر، وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه،فوافي النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد افتتحها‏.‏

والأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7ه، وقد ورد ذكرها في البخاري‏.‏ قال ابن حجر‏:‏ لم أعرف حال هذه السرية‏.‏


* بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة :

* غزوة ذات الرِّقَاع‏ :

ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كسر جناحين قويين من أجنحةالأحزاب الثلاثة تفرغ تمامًا للالتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعرابالقساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهبوالسلب بين آونة وأخري‏.‏

ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصونوالقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزدادبكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر ؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلاحملات التأديب والإرهاب، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخري‏.‏

ولفرض الشوكة أو لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطرافالمدينة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذاتالرقاع‏.‏

وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزوة في السنة الرابعة، ولكن حضور أبيموسي الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذه الغزوة يدل على وقوعها بعدخيبر، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7 ه‏.‏

وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلمسمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان، فأسرعبالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أباذر أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلىموضع يقال له‏:‏ نخل، على بعد يومين من المدينة، ولقي جمعاً من غطفان،فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضاً ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلي بهم يومئذصلاة الخوف‏.‏وفي رواية البخاري‏:‏ وأقيمت الصلاة فصلي بطائفة ركعتين، ثمتأخروا، وصلي بالطائفة الأخري ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلمأربع، وللقوم ركعتان‏.‏

وفي البخاري عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنهم قال‏:‏ خرجنا مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبتقدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع، لماكنا نعصب الخرق على أرجلنا‏.‏

وفيه عن جابر‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتيناعلى شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلىالله عليه وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول اللهصلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه‏.‏ قال جابر‏:‏ فنمنا نومة،فجاء رجل من المشركين‏:‏ فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال‏:‏ أتخافني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فمن يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏‏(‏الله‏)‏‏.‏ قال جابر‏:‏ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا،فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا‏.‏ فقاللي‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قلت‏:‏ الله، فها هو ذا جالس‏)‏، ثم لم يعاتبه رسولالله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي رواية أبي عوانة‏:‏ فسقط السيف من يده،فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏من يمنعك مني‏؟‏‏)‏قال‏:‏ كن خير آخذ، قال‏:‏ ‏(‏تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسولالله‏؟‏‏)‏ قال الأعرابي‏:‏ أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوميقاتلونك، قال‏:‏ فخلي سبيله، فجاء إلى قومه، فقال‏:‏ جئتكم من عند خيرالناس‏.‏

وفي رواية البخاري‏:‏ قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر‏:‏ اسم الرجلغَوْرَث ابن الحارث‏.‏قال ابن حجر‏:‏ ووقع عند الواقدي في سبب هذهالقصة‏:‏ أن اسم الأعرابي دُعْثُور، وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهماقصتان في غزوتين‏.‏ والله أعلم‏.‏

وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين، فنذر زوجها ألا يرجعحتى يهريق دماً في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء ليلاً، وقد أرصدرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين رَبِيئة للمسلمين من العدو، وهما عبادبن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عباداً، وهو قائم يصلي، بسهم فنزعه، ولم يبطلصلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه،فقال‏:‏ سبحان الله‏!‏ هلا نبهتني، فقال‏:‏ إني كنت في سورة فكرهت أنأقطعها‏.‏

كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلىتفاصيل السرايا بعدالغزوة نري أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفعرأسها بعد هذه الغزوة، بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت، بل وأسلمت،حتى نري عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزوحُنَيْناً، وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعدالرجوع من غزوة الفتح، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة فيالأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوابسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذهالغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة ؛ لأن الظروف فيداخل البلاد كانت قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين‏.‏

وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شوال سنة 7 ه‏.‏


* وبعث في خلال ذلك عدة سرايا‏.‏ وهاك بعض تفصيلها‏:‏

1 سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد، في صفر أوربيع الأول سنة 7 ه‏.‏ كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد،فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا،وساقوا النعم، وطاردهم جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزلمطر، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين‏.‏ ونجح المسلمون في بقيةالانسحاب‏.‏

2 سرية حِسْمَي، في جمادي الثانية سنة 7 ه، وقد مضي ذكرها في مكاتبة الملوك‏.‏

3 سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة، في شعبان سنة 7 ه، ومعه ثلاثونرجلاً‏.‏ كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتي الخبر إلى هوازنفهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة‏.‏

4 سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فَدَك، في شعبان سنة 7هفي ثلاثين رجلاً‏.‏ خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلبعند الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعاً إلابشير، فإنه ارْتُثَّ إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه، فرجع إلىالمدينة‏.‏

5 سرية غالب بن عبد الله الليثي، في رمضان سنة 7 ه إلى بني عُوَال وبنيعبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة، في مائةوثلاثين رجلاً، فهجموا عليهم جميعاً، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعماوشاء، وفي هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أنقال‏:‏ لا إله إلا الله، فلما قدموا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، كبرعليه وقال‏:‏ ‏(‏أقتلته بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ إنماقالها متعوذاً قال‏:‏ ‏(‏فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أمكاذب‏؟‏‏)‏‏.‏

6 سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر، في شوال سنة 7 ه في ثلاثين راكبًا‏.‏وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجواأسيرًا في ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وسلميستعمله على خيبر، فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظنأفضي إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين‏.‏ ذكر الواقدي هذه السرية في شوالسنة ست قبل خيبر بأشهر‏.‏

7 سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار ‏[‏بالفتح، أرض لغطفان،وقيل‏:‏ لفَزَارَة وعُذْرَة‏]‏، في شوال سنة 7 ه في ثلاثمائة من المسلمين،للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنواالنهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين،فقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما‏.‏

8 سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة، ذكرها ابن القيم في سرايا السنةالسابعة قبل عمرة القضاء، وملخصها‏:‏ أن رجلا من جُشَم بن معاوية أقبل فيعدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين‏.‏ فبعثرسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم،فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية، وصاحباه فيناحية أخري، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء، فقام رئيسالقوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم، فاحتزأبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر، وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما كان منالقوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم‏.‏

*عمرة القضاء :

قال الحاكم‏:‏ تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هَلَّ ذو القعدةأمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية،فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سويالنساء والصبيان‏.‏ ا ه‏.‏

واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري،وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذيالحُلَيْفَة، ولبي، ولبي المسلمون معه، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة،خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها‏:‏ الحَجَفوالمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح، وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري فيمائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب‏:‏ السيوف في القُرُب‏.‏

وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم عند الدخول راكباً على ناقته القَصْواء،والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون‏.‏

وخرج المشركون إلى جبل قُعَيْقِعَان الجبل الذي في شمال الكعبة ليرواالمسلمين، وقد قالوا فيما بينهم‏:‏ إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمي يثرب،فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأنيمشوا ما بين الركنين‏.‏ ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلاالإبقاء عليهم، وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته كما أمرهم بالاضطباع،أي أن يكشفوا المناكب اليمني، ويضعوا طرفي الرداء على اليسري‏.‏

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحَجُونوقد صف المشركون ينظرون إليه فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمِحْجَنِه، ثمطاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليهوسلم يرتجز متوشحاً بالسيف‏:‏

وفي حديث أنس فقال عمر‏:‏ يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليهوسلم، وفي حرم الله تقول الشعر‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏خَلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل‏)‏‏.‏

ورَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهمالمشركون قالوا‏:‏ هؤلاء الذين زعمتم أن الحمي قد وهنتهم، هؤلاء أجلد منكذا وكذا‏.‏

ولما فرغ من الطواف سعي بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقفالهدي عند المروة، قال‏:‏ ‏(‏هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر‏)‏، فنحر عندالمروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناساً إلى يَأْجُج،ليقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا‏.‏

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليومالرابع أتوا علياً فقالوا‏:‏ قل لصاحبك‏:‏ اخرج عنا فقد مضي الأجل، فخرجالنبي صلى الله عليه وسلم، ونزل بسَرِف فأقام بها‏.‏

ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادى، يا عم يا عم، فتناولهاعلي، واختصم فيها على وجعفر وزيد، فقضي النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر ؛لأن خالتها كانت تحته‏.‏

وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارثالعامرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفربن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أمالفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليهحين يمشي، فبني بها بسرف‏.‏

وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء ؛ إما لأنها كانت قضاء عن عمرةالحُدَيْبِيَة، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة أي المصالحة التي وقعت فيالحديبية، والوجه الثاني رجحه المحققون، وهذه العمرة تسمي بأربعة أسماء‏:‏القضاء، والقَضِيَّة، والقصاص، والصُّلح‏.‏

وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجوع من هذه العمرة عدة سرايا، وهي كما يلي‏:‏

1 سرية ابن أبي العوجاء، في ذي الحجة سنة 7 ه في خمسين رجلاً‏.‏ بعثه رسولالله صلى الله عليه وسلم إلى بني سُلَيْم ؛ ليدعوهم إلى الإسلام،فقالوا‏:‏ لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالاً شديداً‏.‏ جرح فيهأبو العوجاء، وأسر رجلان من العدو‏.‏

2 سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفَدَك، في صفر سنة 8ه‏.‏ بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما، وقتلوا منهم قتلي‏.‏

3 سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8 ه‏.‏ كانت بنو قُضَاعَة قد حشدتجموعاً كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليهوسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلىالإسلام، فلم يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم إلا رجلواحد، فقد ارْتُثَّ من بين القتلي‏.‏

4 سرية ذات عِرْق إلى بني هوازن، في ربيع الأول سنة 8 ه‏.‏ كانت بنو هوازنقد أمدت الأعداء مرة بعد أخري فأرسل إليها شُجَاع بن وهب الأسدي في خمسةوعشرين رجلاً، فاستاقوا نَعَما من العدو، ولم يلقوا كيداً‏.


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#66

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

معركة مؤتة



وهذه المعركة أكبر لقاء مُثْخِن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياةرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصاري،وقعت في جمادي الأولي سنة 8 ه، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 926 م‏.‏

ومؤتة ‏(‏بالضم فالسكون‏)‏ هي قرية بأدني بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان‏.‏

* سبب المعركة‏ :

وسبب هذه المعركة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عميرالأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَي‏.‏ فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغسانيوكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر فأوثقه رباطاً، ثمقدمه، فضرب عنقه‏.‏

وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالةالحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليهالأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، وهو أكبر جيش إسلاميلم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب‏.‏

* أمراء الجيش ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم‏ :

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال‏:‏‏(‏إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة‏)‏ ، وعقد لهم لواءأبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة‏.‏

وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام،فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم‏:‏ ‏(‏اغزوابسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولاتقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولاتقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء‏)
‏‏.‏


* توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة‏‏ :

ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله صلىالله عليه وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش عبد الله بنرواحة فقالوا‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقال‏:‏ أما والله ما بي حب الدنيا، ولاصبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتابالله يذكر فيها النار‏:‏‏{‏وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىرَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏71‏]‏، فلست أدري كيف ليبالصدور بعد الورود‏؟‏ فقال المسلمون‏:‏ صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم،وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة‏:‏

لكنني أسأل الرحمن مغفرة ** وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة ** بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي ** أرشده الله من غاز وقد رشدا

ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودّعهم‏.‏



* تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة‏‏ :

وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان، من أرض الشام، ممايلي الحجاز الشمإلى، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب منأرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَاموبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف‏.‏


* المجلس الاستشاري بمَعَان‏ :

لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم الذي بوغتوابه في هذه الأرض البعيدة وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب،على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل‏؟‏ حارالمسلمون، وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون،ثم قالوا‏:‏ نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا،فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‏.‏

ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلاً‏:‏ يا قوم،والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون‏:‏ الشهادة، وما نقاتل الناسبعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به،فانطلقوا، فإنما هي إحدي الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة‏.‏ وأخيراً استقرالرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة‏
.‏


* الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو‏‏ :

وحينئذ بعد أن قضي الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض العدو،حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها‏:‏ ‏[‏َشَارِف‏]‏ ثمدنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال،فجعلوا على ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي، وعلى الميسرة عبادة بنمالك الأنصاري‏.

* بداية القتال، وتناوب القواد‏ :

وهناك في مؤتة التقي الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجليواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل‏.‏ معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشةوالحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب‏.‏

أخذ الراية زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقاتلبضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام،فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعاً‏.‏

وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتىإذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه،فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلميزل رافعاً إياها حتى قتل‏.‏ يقال‏:‏ إن رومياً ضربه ضربةً قطعته نصفين،وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء ؛ ولذلك سميبجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين‏.‏

روى البخاري عن نافع؛ أن ابن عمر أخبره‏:‏ أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهوقتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره، يعني ظهره‏.‏

وفي رواية أخري قال ابن عمر‏:‏ كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بنأبي طالب فوجدناه في القتلي، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنةورمية‏.‏ وفي رواية العمري عن نافع زيادة‏:‏ ‏[‏فوجدنا ذلك فيما أقبل منجسده‏]‏‏.‏

ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة، أخذ الراية عبدالله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعضالتردد، حتى حاد حيدة ثم قال‏:‏

ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال‏:‏ شد بهذا صلبك، فإنك قدلقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة، ثم ألقاه منيده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل‏.‏

* الراية إلى سيف من سيوف الله‏‏ :

وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان اسمه ثابت بن أقرم فأخذ الراية وقال‏:‏ يامعشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا‏:‏ أنت‏.‏ قال‏:‏ ما أنابفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاًمريراً، فقد روي البخاري عن خالد بن الوليد قال‏:‏ لقد انقطعت في يدي يوممؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية‏.‏ وفي لفظ آخر‏:‏ لقددق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية‏.‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة مخبراً بالوحي، قبل أنيأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال‏:‏ ‏(‏أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذجعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف منسيوف الله، حتى فتح الله عليهم‏)‏‏.‏

* نهاية المعركة‏ :

ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين، كان مستغرباً جداً أنينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوشالروم‏.‏ ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليصالمسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه‏.‏

واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً‏.‏ ويظهربعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيشالرومان طول النهار، في أول يوم من القتال‏.‏ وكان يشعر بمسيس الحاجة إلىمكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمينمن غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة‏.‏ فقد كان يعرف جيداً أن الإفلاتمن براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة‏.‏

فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمتهساقه، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم،وقالوا‏:‏ جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد بعد أن تراءي الجيشان، وتناوشاساعة يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهمالرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهمفي الصحراء‏.‏

وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة‏.‏

* قتلى الفريقين‏‏ :

واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتلاهم، غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم‏.‏

* أثر المعركة‏‏ :

وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتهالأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها فيالدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانتالعرب تظن أن معني جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكانلقاء هذا الجيش الصغير ثلاثة آلاف مقاتل مع ذلك الجيش الضخم العرمرمالكبير مائتا ألف مقاتل ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارةتذكر‏.‏ كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخرغير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأنصاحبهم رسول الله حقاً‏.‏ ولذلك نري القبائل اللدودة التي كانت لا تزالتثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْموأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها‏.‏

وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيداًلفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#67

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*سرية ذات السَّلاسِل‏‏ :

ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربية التي تقطنمشارف الشام في معركة مؤتة من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين، شعربمسيس الحاجة إلى القيام بحكمة بالغة توقع الفرقة بينها وبين الرومان،وتكون سبباً للائتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تتحشد مثل هذه الجموعالكبيرة مرة أخري‏.‏

واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص ؛ لأن أم أبيه كانت امرأة منبَلِي‏.‏ فبعثه إليهم في جمادي الآخرة سنة 8 ه على إثر معركة مؤتة ؛ليستألفهم، ويقال‏:‏ بل نقلت الاستخبارات أن جمعاً من قُضَاعَة قد تجمعوا،يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة، فبعثه إليه، ويمكن أن يكون السبباناجتمعا معاً‏.‏

وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معهراية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثونفرساً، وأمره أن يستعين بمن مر به من بَلِي وعُذْرَةَ وبَلْقَيْنِ‏.‏ فسارالليل وَكمَنَ النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فبعثرافع بن مَكِيثٍ الجُهَنِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعثإليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، وعقد له لواء، وبعث له سراةالمهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكوناجميعاً ولا يختلفا‏.‏ فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقالعمرو‏:‏ إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرويصلي بالناس‏.‏

وسار حتى وطئ بلاد قُضَاعَة، فدوخها حتى أتي أقصي بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعاً، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا‏.‏

وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم‏.‏

وذات السلاسل ‏[‏بضم السين الأولي وفتحها‏:‏ لغتان‏]‏ بقعة وراء واديالقُرَي، بينها وبين المدينة عشرة أيام‏.‏ وذكر ابن إسحاق أن المسلميننزلوا على ماء بأرض جُذَام يقال له‏:‏ السلسل، فسمي ذات السلاسل‏.‏


* سرية أبي قتادة إلى خضرة‏ :

كانت هذه السرية في شعبان سنة 8 ه ؛ وذلك لأن بني غَطَفَان كانوا يتحشدونفي خَضِرَة وهي أرض مُحَارِب بنَجْد فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليهوسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً، فقتل منهم، وسَبَي وغنم، وكانت غيبتهخمس عشرة ليلة‏.


غزوة فتح مكة



قال ابن القيم‏:‏ هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجندهوحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيديالكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطنابعِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق بهوجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا‏.‏ ه‏.‏

* سبب الغزوة‏‏ :

قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أنيدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فيعقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبرجزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناًعلى ذلك الفريق‏.‏

وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلتبنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانتبين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذهالهدنة، وأمن كل فريق من الآخر اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا منخزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكرفي شهر شعبان سنة 8 ه، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له‏:‏‏[‏الوَتِير‏]‏ فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بنيبكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازواخزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر‏:‏ يا نوفل، إنا قد دخلناالحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة‏:‏ لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبواثأركم‏.‏ فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه‏؟‏

ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولي لهم يقال له‏:‏ رافع‏.‏

وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليهوسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال‏:‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نصرت يا عمرو بن سالم‏)‏، ثمعرضت له سحابة من السماء، فقال‏:‏ ‏(‏إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنيكعب‏)‏‏.‏

ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا علىرسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرةقريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة‏.




* أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح‏ :

ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق،لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبهالوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاًلها ليقوم بتجديد الصلح‏.‏

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاءغدرتهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد فيالمدة‏)‏‏.‏

وخرج أبو سفيان حسب ما قررته قريش فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان وهو راجعمن المدينة إلى مكة فقال‏:‏ من أين أقبلت يا بديل‏؟‏ وظن أنه أتي النبيصلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذاالوادي‏.‏ قال‏:‏ أو ما جئت محمداً‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان‏:‏ لئن كان جاء المدينة لقد علف بهاالنوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال‏:‏أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً‏.‏

وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس علىفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال‏:‏ يا بنية، أرغبت بيعن هذا الفراش، أم رغبت به عني‏؟‏ قالت‏:‏ بل هو فراش رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس‏.‏ فقال‏:‏ والله لقد أصابك بعدي شر‏.‏

ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً،ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ما أنا بفاعل‏.‏ ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال‏:‏ أأنا أشفع لكم إلىرسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكمبه، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بينيديهما، فقال‏:‏ يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة،فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال‏:‏ ويحك يا أبا سفيان،لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه‏.‏فالتفت إلى فاطمة، فقال‏:‏ هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس،فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر‏؟‏ قالت‏:‏ والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجيربين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلعوانزعاج ويأس وقنوط‏:‏ يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي،فانصحني، قال‏:‏ والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك‏.‏ ولكنك سيد بني كنانة،فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك‏.‏ قال‏:‏ أو تري ذلك مغنياً عنيشيئاً‏؟‏ قال‏:‏ لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك‏.‏ فقام أبوسفيان في المسجد، فقال‏:‏ أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركببعيره، وانطلق‏.‏

ولما قدم على قريش، قالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ جئت محمداً فكلمته،فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئتعمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قدأشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا‏؟‏ قالوا‏:‏وبم أمرك‏؟‏ قال‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا‏:‏ فهل أجازذلك محمد‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك‏.‏قال‏:‏ لا والله ما وجدت غير ذلك‏.‏

* التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء‏‏ :

يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة قبل أنيأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخلعليها أبو بكر، فقال‏:‏ يابنية، ما هذا الجهاز‏؟‏ قالت‏:‏ والله ماأدري‏.‏ فقال‏:‏ والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسولالله‏؟‏ قالت‏:‏ والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالمالخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز‏:‏ يا رب إني ناشد محمداً‏.‏‏.‏‏.‏الأبيات‏ .‏ فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان،وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز،وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال‏:‏ ‏(‏اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريشحتى نبغتها في بلادها‏)‏‏.‏

وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامهاثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذيخَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 ه؛ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلكالأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسولالله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته‏.‏

وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلىالله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغهقريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليهوسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بنالعوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال‏:‏ ‏(‏انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَخَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش‏)‏، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتىوجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنزلوها، وقالوا‏:‏ معك كتاب‏؟‏ فقالت‏:‏ مامعي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً‏.‏ فقال لها علي‏:‏ أحلف بالله،ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أولنجردنك‏.‏ فلما رأت الجد منه قالت‏:‏ أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها،فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليهوسلم، فإذا فيه‏:‏ ‏(‏من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش‏)‏ يخبرهم بمسير رسولالله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً،فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا يا حطب‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ لا تَعْجَلْ على يا رسول الله‏.‏والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأمُلْصَقًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس ليفيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلكأن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ دعني يارسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قداطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏، فذَرَفَتْ عيناعمر، وقال‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال‏.‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#68

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة‏‏ :

ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 ه، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلمالمدينة متجهاً إلى مكة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخلفعلى المدينة أبا رُهْم الغفاري‏.‏

ولما كان بالجُحْفَة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قدخرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليهوسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بنأبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالتله أم سلمة‏:‏ لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك‏.‏ وقال على لأبيسفيان بن الحارث‏:‏ ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل لهما قال إخوة يوسف ليوسف‏:‏ ‏{‏قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُعَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏91‏]‏، فإنه لا يرضي أنيكون أحد أحسن منه قولاً‏.‏ ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُاللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏92‏]‏، فأنشدهأبو سفيان أبياتاً منها‏:‏

فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال‏:‏ ‏(‏أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد‏؟‏‏)‏‏.‏


* الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان‏‏ :

وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغالكُدَيْد وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد فأفطر، وأفطر الناس معه‏.‏ ثمواصل سيره حتى نزل بمر الظهران وادي فاطمة نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدواالنيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علىالحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه

* أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ :

وركب العباس بعد نزول المسلمين بمر الظهران بغلة رسول الله صلى الله عليهوسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاًليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها‏.‏

وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيانيخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاءيتجسسون الأخبار‏.‏

قال العباس‏:‏ والله إني لأسير عليها أي على بغلة رسول الله صلى الله عليهوسلم إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيانيقول‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً‏.‏ قال‏:‏ يقول بديل‏:‏هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان‏:‏ خزاعة أقل وأذل منأن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏.‏

قال العباس‏:‏ فعرفت صوته، فقلت‏:‏ أبا حَنْظَلَة‏؟‏ فعرف صوتي، فقال‏:‏أبا الفضل‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ مالك‏؟‏ فداك أبي وأمي‏.‏ قلت‏:‏ هذارسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله‏.‏

قال‏:‏ فما الحيلة فداك أبي وأمي‏؟‏، قلت‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربنعنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلمفأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه‏.‏

قال‏:‏ فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا‏:‏ منهذا‏؟‏ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا‏:‏عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته‏.‏ حتى مررت بنار عمر بنالخطاب فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابةقال‏:‏ أبو سفيان، عدو الله‏؟‏ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد،ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت،فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليهعمر، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال‏:‏ قلت‏:‏يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمفأخذت برأسه، فقلت‏:‏ والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر فيشأنه قلت‏:‏ مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلتمثل هذا، قال‏:‏ مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلامالخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذاأصبحت فأتني به‏)‏، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فلما رآه قال‏:‏ ‏(‏ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنلا إله إلا الله‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏؟‏لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله‏؟‏‏)‏،قال‏:‏ بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏:‏ أما هذه فإن في النفسحتى الآن منها شيء‏.‏ فقال له العباس‏:‏ ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلاالله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق‏.‏

قال العباس‏:‏ يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل لهشيئاً‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليهبابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن‏)‏‏.‏

* الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة‏‏ :

و
في هذا الصباح صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 ه غادررسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبسأبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها،ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال‏:‏ يا عباس، منهذه‏؟‏ فيقول مثلا سليم، فيقول‏:‏ مإلى ولِسُلَيْم‏؟‏ ثم تمر به القبيلةفيقول‏:‏ يا عباس، من هؤلاء‏؟‏ فيقول‏:‏ مُزَيْنَة، فيقول‏:‏ ما ليولمزينة‏؟‏ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذاأخبره قال‏:‏ مالي ولبني فلان‏؟‏ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلمفي كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق منالحديد، قال‏:‏ سبحان الله‏!‏ يا عباس، من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هذا رسول اللهصلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال‏:‏ ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌولا طاقة‏.‏ ثم قال‏:‏ والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيكاليوم عظيماً‏.‏ قال العباس‏:‏ يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال‏:‏ فنعمإذن‏.‏

وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له‏:‏ اليوميوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليوم أذل الله قريشاً‏.‏ فلماحاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال‏:‏ يا رسول الله، ألمتسمع ما قال سعد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وما قال‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ قال كذا وكذا‏.‏ فقالعثمان وعبد الرحمن بن عوف‏:‏ يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريشصولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بل اليوم يوم تُعَظَّم فيهالكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً‏)‏ ثم أرسل إلى سعد فنزع منهاللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد‏.‏ وقيل‏:‏ بلدفعه إلى الزبير‏.‏

* قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي‏ :

ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس‏:‏النجاء إلى قومك‏.‏ فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته‏:‏ يامعشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به‏.‏ فمن دخل دار أبيسفيان فهو آمن‏.‏ فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت‏:‏اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لاقبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏ قالوا‏:‏ قاتلك الله، وماتغني عنا دارك‏؟‏ قال‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهوآمن‏.‏ فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا‏:‏نقدم هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا‏.‏فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيلبن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين‏.‏ وكان فيهم رجل من بني بكرحِمَاس بن قيس كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته‏:‏ لماذا تعد ماأري‏؟‏ قال‏:‏ لمحمد وأصحابه‏.‏ قالت‏:‏ والله ما يقوم لمحمد وأصحابهشيء‏.‏ قال‏:‏ إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال‏:‏

إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه ** هذا سلاح كامل وألَّه

وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة **

فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة‏.‏

*الجيش الإسلامي بذي طُوَى‏‏ :

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي وكان يضعرأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيتهليكاد يمس واسطة الرحل وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد علىالمُجَنَّبَةِ اليمني وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَةوجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال‏:‏‏(‏إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا‏)‏‏.‏

وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسري، وكان معه راية رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها من كَدَاء وأن يغرزرايته بالحَجُون، ولا يبرح حتى يأتيه‏.‏

وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر وهم الذيم لاسلاح معهم فأمره أنيأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏





يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#69

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* الجيش الإسلامي يدخل مكة‏ :

وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها‏.‏

فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه‏.‏ وقتل منأصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة‏.‏كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاءقريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا منالمشركين اثني عشر رجلاً، فانهزم المشركون، وانهزم حِمَاس بن قيس الذي كانيعد السلاح لقتال المسلمين حتى دخل بيته، فقال لامرأته‏:‏ أغلقي علىبابي‏.‏

فقالت‏:‏ وأين ما كنت تقول‏؟‏ فقال‏:‏

وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا‏.‏

وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَجُونعند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى اللهعليه وسلم‏.‏

* الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام‏ :

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفهوحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت،وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس،ويقول‏:‏ ‏{‏جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَزَهُوقًا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏81‏]‏، ‏{‏قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُالْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏49‏]‏ والأصنام تتساقط علىوجوهها‏.‏

وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلماأكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها،فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلاميستقسمان بالأزلام، فقال‏:‏ ‏(‏قاتلهم الله، والله ما استقسما بهاقط‏)‏‏.‏ ورأي في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصورفمحيت‏.‏

* الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش‏ :

ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل البابحتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعموداً عنيمينه، وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلي هناك‏.‏ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأتالمسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع‏؟‏ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال‏:‏

‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزابوحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَةالبيت وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الديةمغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد‏.‏

يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناسمن آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكممن ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكمإن الله عليم خبير‏}‏‏.

لا تثريب عليكم اليوم :

ثم قال‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ خيرًا، أخكريم وابن أخ كريم، قال‏:‏ ‏(‏فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته‏:‏‏{‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ‏}‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء‏)‏‏.



* مفتاح البيت إلى أهله :

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي رضي اللهعنه ومفتاح الكعبة في يده فقال‏:‏ اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى اللهعليك وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏أين عثمان بن طلحة‏؟‏‏)‏‏.‏ فدعي له، فقال له‏:‏ ‏(‏هاك مفتاحكيا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء‏)‏، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قالله حين دفع المفتاح إليه‏:‏ ‏(‏خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلاظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذاالبيت بالمعروف‏
)‏‏.‏


* بلال يؤذن على الكعبة :

وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن علىالكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناءالكعبة، فقال عتاب‏:‏ لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه مايغيظه‏.‏ فقال الحارث‏:‏ أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته‏.‏ فقال أبوسفيان‏:‏ أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء‏.‏فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم‏:‏ ‏(‏لقد علمت الذيقلتم‏)‏ ثم ذكر ذلك لهم‏.‏

فقال الحارث وعتاب‏:‏ نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#70

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل



* صلاة الفتح أو صلاة الشكر
:


ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب،فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها وكان ضحى فظنها من ظنها صلاة الضحى،وإنما هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏، وقد كان أخوها علي بنأبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى اللهعليه وسلم فقال لها ذلك‏.‏

* إهدار دم رجال من أكابر المجرمين :

وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابرالمجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل،وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب،ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن الأخطل، كانت تغنيانبهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهيالتي وجد معها كتاب حاطب‏.‏

فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه،فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابةفيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة‏.‏

وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه‏.‏

وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال‏:‏ ‏(‏اقتله‏)‏ فقتله‏.‏

وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك،ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين‏.‏

وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة، فقتله علي‏.‏

وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى اللهعليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هباريوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه‏.‏

وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي،قتله على‏.‏ وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة،وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبيسفيان، وقد أسلمت، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد قتلت، فيماذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنبوأم سعد القينتان، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب‏.‏

* إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير :

لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خافعلى نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليهوسلم فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقة عمير وهو يريد أن يركبالبحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏اجعلني بالخيار شهرين‏.‏ قال ‏(‏أنت بالخيار أربعة أشهر‏)‏ ثم أسلم صفوان،وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول‏.‏

وكان فضالة رجلاً جريئا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فيالطواف؛ ليقتله، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم‏.‏

* خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني من الفتح‏:‏

ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناسخطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال‏:‏ ‏(‏أيهاالناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلىيوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً،أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلمفقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسولة ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار،وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا منعرفها، ولا يختلى خلاه‏)‏، فقال العباس‏:‏ يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنهلقينهم وبيوتهم، فقال‏:‏ ‏(‏إلا الإذخر‏)‏‏.‏

وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسولالله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد‏:‏ ‏(‏يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عنالقتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتيالا لأدينه، فمن قتل بعدمقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ فقام رجل من أهل اليمن يقال له‏:‏ شاه فقال‏:‏ اكتب لي يارسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اكتبو لأبي شاه‏)‏‏.‏

* تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة :

ولما تم فتح مكة على الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي بلده ووطنه ومولده -قال الأنصار فيما بينهم‏:‏ أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتحالله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه -فلما فرغ من دعائة قال‏:‏ ‏(‏ماذا قلتم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ لا شيء يا رسولالله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم‏)‏‏.





يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#71

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* أخذ البيعة :

وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، تبين لأهلمكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له،واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايعالناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمعوالطاعة فيما استطاعوا‏.‏

وفي المدارك‏:‏ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجالأخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره،ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسولالله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم ‏(‏أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا‏)‏، فبايع عمر النساءعلى ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولاتسرقن‏)‏ فقالت هند‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من مالههنات‏؟‏ فقال أبو سفيان‏:‏ وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى اللهعليه وسلم وعرفها، فقال‏:‏ ‏(‏وإنك لهند‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، فاعف عما سلفيا نبي الله، عفا الله عنك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏ولا يزنين‏)‏‏.‏ فقالت‏:‏ أو تزني الحرة‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏ولا يقتلن أولادهن‏)‏‏.‏ فقالت‏:‏ ربيناهم صغارا، وقتلناهمكبارا، فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحكعمر حتى استلقى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يأتين ببهتان‏)‏ فقالت‏:‏ والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏ولا يعصينك في معروف‏)‏ فقالت‏:‏ والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك‏.‏

ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول‏:‏ كنا منك في غرور‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ جاءت هند بنت عتبة فقالت‏:‏ يا رسول الله ما كان على ظهرالأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم علىظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأيضا،والذي نفسي بيده‏)‏ قالت‏:‏ يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل عليحرج أن أطعم من الذي له عيالنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا أره إلا بالمعروف‏)‏‏.‏

* إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها :

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالمالإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيدالخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثانالتي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة‏:‏ من كان يؤمن باللهواليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره‏
.‏


* السرايا والبعوث :

1 ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليدإلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة 8 ه ليهدمها وكانت بنخلة،وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم أصنامهم‏.‏ وكان سدنتها بني شيبان،فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إليها، فهدمها‏.‏ ولما رجعإليها سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏هل رأيت شيئا‏؟‏‏)‏ قال ‏:‏لا قال‏:‏ ‏(‏فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها‏)‏ فرجع خالد متغيظًا قدجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيحبها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم فأخبره، فقال‏:‏ ‏(‏نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكمأبدا‏)‏‏.‏

2 ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه وهو صنم لهذيلبرهاط، على قرابة 150 كيلوا مترا شمال شرقي مكة، فلما انتهى إليه عمرو قالله السادن‏:‏ ما تريد‏؟‏ قال‏:‏ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنأهدمه قال‏:‏ لا تقدر على ذلك قال‏:‏ لم ‏؟‏ قال تمنع قال‏:‏ حتى الآن أنتعلى الباطل‏؟‏ ويحك فهل يسمع أو يبصر‏؟‏ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموابيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قال للسادن‏:‏ كيف رأيت‏؟‏ قال‏:‏أسلمت لله‏.‏

3 وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الأشهلي في عشرين فارسًا إلى مناةوكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليهاقال له سادنها‏:‏ ما تريد‏؟‏ قال‏:‏ هدم مناة، قال‏:‏ أنت وذاك، فأقبلإليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضربصدرها، فقال لها السادن‏:‏ مناة دونك بعض عصاتك‏.‏ فضربها سعد فقتلها،وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئًا‏.‏

4 ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليهوسلم في شوال من نفس السنة 8ه إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام لا مقاتلافخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهىإليهم فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا‏:‏ أسلمنا، فجعلوايقولون‏:‏ صبأنا، صبأنا‏.‏ فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إلى كل رجل ممنكان معه أسيرًا، فأمر يومًا أن يقتل كل رجل أسيره فأبى ابن عمر وأصحابهحتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليهوسلم يديه وقال ‏:‏ ‏(‏اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدًا‏)‏ مرتين‏.‏

وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار وبعث رسولالله صلى الله عليه وسلم عليًا فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم وكان بينخالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلمفقال‏:‏ ‏(‏مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان أحد ذهبا، ثمأنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته‏)‏‏.‏

تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى علىكيان الوثنية قضاء باتًا، ولم يترك لبقائها مجالا ولا مبررا في ربوعالجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراكوالاصطدام الذي كان دائرًا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرفجيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق وكان قد تأكد لديهم هذاالاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيتفأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول‏.‏

وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس بهوكلم بعضهم بعضًا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة منإظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه كثير في الإسلام، حتىإن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاث آلاف إذاهو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف‏.‏

وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانتتحول بينها وبين الإسلام وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسيوالديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارةالدينية والزعامة الدنيوية‏.‏

فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذاالفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تمامًا، وكان لهمفيه السيطرة على الموقف تمامًا‏.‏ ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلىرسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام ويحملوا دعوته إلى العالم،وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين‏.‏

* المرحلة الثالثة :

وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ تمثل النتائجالتي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتنواضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عامًا‏.‏

وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجلهمجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حدًا فاصلا بين السابقةعليه وبين ما بعده، فإن قريشًا كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره،والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثنيفي جزيرة العرب‏.‏

ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين‏:‏

1 صفحة المجاهدة والقتال‏.‏

2 صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام‏.‏

وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهماخلال الأخرى إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي أن نأتي على ذكر كل منالصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظرًا إلى صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثرمناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب‏.

غزوة حنين



إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شَدَهَ لها العرب، وبوغتت القبائل المجاورةبالأمر الواقع، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولذلك لم تمتنع عنالاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وفي مقدمتها بطونهوازن وثقيف، واجتمعت إليها نَصْرٌ وجُشَمٌ وسعد بن بكر وناس من بني هلالوكلها من قيس عَيْلان رأت هذه البطون من نفسها عزا وأنَفَةً أن تقابل هذاالانتصار بالخضوع، فاجتمعت إلى مالك ابن عوف النَّصْري، وقررت المسير إلىحرب المسلمين‏.



* مسير العدو ونزوله بأوطاس‏ :

ولما أجمع القائد العام مالك بن عوف المسير إلى حرب المسلمين، ساق معالناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوْطَاس وهو واد في دارهَوَازِن بالقرب من حُنَيْن، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلىجنب ذي المجَاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات‏.



* مُجَرِّب الحروب يُغَلِّط رأي القائد :‏‏

ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ وهو شيخكبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً قال دريد‏:‏بأي واد أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ بأوطاس، قال‏:‏ نعم مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس، مإلى أسمع رُغَاء البعير، ونُهَاق الحمير،وبُكَاء الصبي، وثُغَاء الشاء‏؟‏ قالوا‏:‏ ساق مالك بن عوف مع الناسنساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال‏:‏أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال‏:‏ راعي ضأنواللّه، وهل يرد المنهزم شيء‏؟‏ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفهورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك، ثم سأل عن بعض البطونوالرؤساء، ثم قال‏:‏ يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحورالخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاةعلى متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلكوقد أحرزتَ أهلك ومالك‏.‏

ولكن مالكاً القائد العام رفض هذا الطلب قائلاً‏:‏ واللّه لا أفعل، إنك قدكبرت وكبر عقلك، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتىيخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا‏:‏ أطعناك‏.‏فقال دريد‏:‏ هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي‏:‏

يا ليتني فيها جَذَعْ ** أخُبُّ فيها وأضَعْ

أقود وطْفَاءَ الزَّمَعْ ** كأنها شاة صَدَعْ




يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#72

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* سلاح استكشاف العدو‏ :

وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيونوقد تفرقت أوصالهم، قال‏:‏ ويلكم، ما شأنكم‏؟‏ قالوا‏:‏ رأينا رجالاً بيضاعلى خيل بُلْق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما تري‏.



* سلاح استكشاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏ :

ونقلت الأخبار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أباحَدْرَد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثميأتيه بخبرهم، ففعل‏.



* الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين‏‏ :

وفي يوم السبت السادس من شهر شوال سنة 8 ه غادر رسول اللّه صلى الله عليهوسلم مكة وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة خرج في اثني عشرألفاً من المسلمين ؛ عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان منأهل مكة‏.‏ وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام واستعار من صفوان بن أمية مائة درعبأداتها، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد‏.‏

ولما كان عشية جاء فارس، فقال‏:‏ إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازنعلى بكرة آبائهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسمرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاءاللّه‏)‏، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي‏.‏

وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها‏:‏ ذات أنْوَاط،كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهلالجيش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذاتأنواط‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏اللّه أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قومموسي‏:‏ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال‏:‏ إنكم قوم تجهلون، إنهاالسَّنَنُ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم‏)‏‏.‏

وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش‏:‏ لن نُغْلَبَ اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏

* الجيش الإسلامي يُباغَتْ بالرماة والمهاجمين‏‏ :

انتهي الجيش الإسلامي إلى حنين، الليلة التي بين الثلاثاء والأربعاء لعشرخلون من شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلكالوادي، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق،وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدوا شدة رجلواحد‏.‏

وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألويةوالرايات، وفرقها على الناس، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون واديحنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذاالوادي، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدتعليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانتهزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام‏:‏ لاتنتهي هزيمتهم دون البحر الأحمر وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بنالحَنْبَل‏:‏ ألا بطل السِّحْر اليوم‏.‏

وانحاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول‏:‏‏(‏هَلُمُّوا إلى أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد اللّه‏)‏ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار‏.‏ تسعة على قولابن إسحاق، واثنا عشر على قول النووي، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم فيالمستدرك من حديث ابن مسعود، قال‏:‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومحنين، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاًمن المهاجرين والأنصار، فكناعلى أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر، وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسنادحسن قال‏:‏ لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول اللّه صلىالله عليه وسلممائة رجل‏.‏

وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها، فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول‏:‏

‏(‏أنا النبي لا كَذِبْ ** أنا ابن عبد المطلب‏)‏

بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه،يكفانها ألا تسرع، ثم نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستنصر ربهقائلاً‏:‏ ‏(‏اللّهم أنزل نصرك‏)‏‏.‏

* رجوع المسلمين واحتدام المعركة‏ :

وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان جَهِيَر الصوت أنينادي الصحابة، قال العباس‏:‏ فقلت بأعلى صوتي‏:‏ أين أصحاب السَّمُرَة‏؟‏قال‏:‏ فوالله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر علىأولادها، فقالوا‏:‏ يا لبيك، يا لبيك‏.‏ ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدرعليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره،ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناسواقتتلوا‏.‏

وصرفت الدعوة إلى الأنصار‏:‏ يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرتالدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخريكما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّهصلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال‏:‏ ‏(‏الآنحَمِي الوَطِيسُ‏)‏‏.‏ ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من ترابالأرض، فرمي بها في وجوه القوم وقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏، فما خلق اللّهإنساناً إلا ملأعينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاًوأمرهم مُدْبِرًا‏.‏

* انكسار حدة العدو وهزيمته الساحقة‏ :

وما هي إلا ساعات قلائل بعد رمي القبضة حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتلمن ثَقِيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاحوظُعُن‏.‏

وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَحُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًاوَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُممُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَىالْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَكَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏25، 26‏]‏

* حركة المطاردة‏‏ :

ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفةإلى أوْطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردينيقودهم أبو عامرالأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً ، ثم انهزمجيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري‏.‏

وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع‏.‏

وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم‏.‏

* الغنائم‏ :

وكانت الغنائم‏:‏ السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنمأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمروالغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف‏.‏

وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمعرفت له نفسها، فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثممنّ عليها، وردّها إلى قومها‏

*غزوة الطائف‏‏



وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هَوَازنوثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام مالك بن عوف النَّصْرِي وتحصنوابها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمعالغنائم بالجعرانة، في الشهر نفسه شوال سنة 8 ه‏.‏

وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول اللهصلىالله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على نخلة اليمانية، ثم علىقَرْنِ المنازل، ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه،ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وعسكر هناك، وفرضالحصار على أهل الحصن‏.‏

ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم‏:‏ أن مدة حصارهم كانتأربعين يوماً، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل‏:‏ عشرين يوماً، وقيل‏:‏بضعة عشر، وقيل‏:‏ ثمانية عشر، وقيل‏:‏ خمسة عشر‏.‏

ووقعت في هذه المدة مراماة، ومقاذفات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصاررماهم أهل الحصن رمياً شديداً، كأنه رِجْل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمينبجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلىمسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك‏.‏

ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف،حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة‏.‏

ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماةبالنار‏.‏ فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً‏.‏

وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلىالاستسلام أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً،فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم‏.‏

ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهوحر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة تسور حصن الطائف،وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليهوسلم ‏[‏أبا بكرة‏]‏ فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجلمنهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة‏.‏

ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبالوبسكك الحديد المحماة وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنةاستشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال‏:‏هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسولاللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطابفأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا‏:‏ نذهبولا نفتحه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اغدوا علىالقتال‏)‏، فغدوا فأصابهم جراح، فقال‏:‏ ‏(‏إنا قافلون غداً إن شاءاللّه‏)‏ فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليهوسلم يضحك‏.‏

ولما ارتحلوا واستقلوا قال‏:‏ قولوا‏:‏ ‏(‏آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون‏)‏‏.‏

وقيل‏:‏ يا رسول اللّه، ادع على ثقيف، فقال‏:‏ ‏(‏اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم‏)‏‏.‏


* قسمة الغنائم بالجِعْرَانَة‏‏ :

ولما عاد رسول اللْه صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكثبالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأني بها، يبتغي أن يقدم عليهوفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال،ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول منأعطي وحظي بالأنصبة الجزلة‏.‏

أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال‏:‏ ابني يزيد‏؟‏فأعطاه مثلها، فقال‏:‏ ابني معاوية‏؟‏ فأعطاه مثلها، وأعطي حكيم بن حزاممائة من الإبل، ثم سأله مائة أخري، فأعطاه إياها‏.‏ وأعطي صفوان بن أميةمائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة كذا في الشفاء وأعطي الحارث بن الحارث بنكَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطي رجالا من رؤساء قريش وغيرها مائة مائةمن الإبل وأعطي آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أنمحمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتىاضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، ردوا علي ردائي،فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ماألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً‏)‏‏.‏

ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها،فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس،والخمس مردود عليكم‏)‏‏.‏

وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابتبإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إماأربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أوعشرين ومائة شاة‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#73

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

الأنصار تَجِدُ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏ :

كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة، لكنها لم تُفْهَم أول الأمر، فأُطْلِقتْ ألسنة شتي بالاعتراض‏.‏

روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما أعطي رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن فيالأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهمالقَالَةُ، حتى قال قائلهم‏:‏ لقي واللّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلمقومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال‏:‏ يا رسول اللّه، إن هذا الحي منالأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت،قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي منالأنصار منها شيء‏.‏قال‏:‏ ‏(‏فأين أنت من ذلك يا سعد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ يارسول اللّه، ما أنا إلا من قومي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فاجمع لي قومك في هذهالحظيرة‏)‏‏.‏ فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال منالمهاجرين فتركهم فدخلوا‏.‏ وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعدفقال‏:‏ لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم فحمد اللّه، وأثني عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏يا معشر الأنصار، ماقَالَهٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها على في أنفسكم‏؟‏ ألم آتكم ضلالاًفهداكم اللّه‏؟‏ وعالة فأغناكم اللّه‏؟‏ وأعداء فألف اللّه بينقلوبكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلي، اللّه ورسوله أمَنُّ وأفْضَلُ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏ألا تجيبوني يا معشر الأنصار‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بماذا نجيبك يارسول اللّه‏؟‏ للّه ورسوله المن والفضل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أما واللّه لو شئتملقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ‏:‏ أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاًفنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك‏)‏‏.‏

‏(‏أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنياتَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم‏؟‏ ألا ترضونيا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه صلىالله عليه وسلم إلى رحالكم‏؟‏ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنتامرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعبالأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناءالأنصار‏)‏‏.‏

فبكي القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا‏:‏ رضينا برسول اللّه صلى اللهعليه وسلم قَسْمًا وحظاً، ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،وتفرقوا‏.‏

* قدوم وفد هوازن‏‏ :

وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهمزهير ابن صُرَد، وفيهم أبو بُرْقَان عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منالرضاعة، فأسلموا وبايعوا ثم قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، إن فيمن أصبتمالأمهات والأخوات، والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام‏:‏

فامنن علينا رسول اللّه في كرم ** فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تملؤه من محضها الدرر

وذلك في أبيات‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه،فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ ما كنا نعدلبالأحساب شيئاً‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إذا صليت الغداة أي صلاة الظهر فقوموافقولوا‏:‏ إنا نستشفع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين،ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرد إليناسبينا‏)‏، فلما صلي الغداة قاموا فقالوا ذلك‏.‏ فقال رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكمالناس‏)‏، فقال المهاجرون والأنصار‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلىالله عليه وسلم‏.‏ فقال الأقْرَع بن حابس‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا‏.‏وقال عُيَيْنَة بن حِصْن‏:‏ أما أنا وبنو فَزَارَة فلا‏.‏وقال العباس بنمِرْدَاس‏:‏ أما أنا وبنو سُلَيْم فلا‏.‏ فقالت بنو سليم‏:‏ ما كان لنافهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال العباس بن مرداس‏:‏وهنتموني‏.‏

فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هؤلاء القوم قد جاءوامسلمين، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناءوالنساء شيئاً، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومنأحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيءاللّه علينا‏)‏، فقال الناس‏:‏ قد طيبنا لرسول اللّه صلى الله عليهوسلم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفعإلينا عُرَفَاؤكم أمركم‏)‏، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهمأحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبي أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم، ثم ردهابعد ذلك، وكسا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية‏.‏

* العمرة والانصراف إلى المدينة‏ :

ولم
ا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم في الجِعْرَانةأهلَّ معتمراً منها، فأدي العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعدأن ولي على مكة عَتَّاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة ودخوله فيها لستليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 ه‏.‏

* البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح :

وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقام رسول اللّه صلى الله عليهوسلم بالمدينة يستقبل الوفود، ويبعث العمال، ويبث الدعاة، ويَكْبِتُ منبقي فيه الاستكبار عن الدخول في دين اللّه، والاستسلام للأمر الواقع الذيشاهدته العرب‏.‏ وهاك صورة مصغرة من ذلك‏.‏

* المصدقون‏ :‏

قد عرفنا مما تقدم أن رجوع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانفي أواخر أيام السنة الثامنة، فما هو إلا أن استهل هلال المحرم من سنة 9ه، وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المُصَدِّقين إلى القبائل، وهذه هيقائمتهم‏:‏

1 عُيَيْنَةُ بن حصن إلى بني تميم‏.‏

2 يزيد بن الحُصَيْن إلى أسْلَم وغِفَار‏.‏

3 عَبَّاد بن بشير الأشهلي إلى سُلَيْم ومُزَيْنَةَ‏.‏

4 رافع بن مَكِيث إلى جُهَيْنَة‏.‏

5 عمرو بن العاص إلى بني فَزَارَة‏.‏

6 الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب‏.‏

7 بشير بن سفيان إلى بني كعب‏.‏

8 ابن اللُّتِْبيَّة الأزدي إلى بني ذُبْيَان‏.‏

9 المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها‏.‏

10 زياد بن لبيد إلى حضرموت‏.‏

11 عدي بن حاتم إلى طيئ وبني أسد‏.‏

12 مالك بن نُوَيْرَة إلى بني حَنْظَلَة‏.‏

13 الزِّبْرِقَان بن بدر إلى بني سعد إلى قسم منهم‏.‏

14 قيس بن عاصم إلى بني سعد إلى قسم آخر منهم‏.‏

15 العلاء بن الحضرمي إلى البحرين‏.‏

16 علي بن أبي طالب إلى نجران لجمع الصدقة والجزية كليهما‏.‏

وليس هؤلاء العمال كلهم بعثوا في المحرم سنة 9 ه، بل تأخر بعث عدة منهمإلى اعتناق الإسلام من تلك القبائل التي بعثوا إليها‏.‏ نعم كانت بدايةبعث العمال بهذا الاهتمام البالغ في المحرم سنة 9 ه، وهذا يدل على مدينجاح الدعوة الإسلامية بعد صلح الحديبية، وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناسفي دين اللّه أفواجاً‏.

السرايا‏ :

وكما بعث المصدقون إلى القبائل، مَسَّتِ الحاجة إلى بعث عدة من السرايا معسيادة الأمن على عامة مناطق الجزيرة، وهاك لوحة تلك السرايا‏:‏

1 سرية عيينة بن حصن الفزاري في المحرم سنة 9 ه إلى بني تميم، في خمسينفارساً، لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري، وسببها‏:‏ أن بني تميم كانوا قدأغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء الجزية‏.‏

وخرج عيينة بن حصن يسير الليل، ويكمن النهار، حتى هجم عليهم في الصحراءفولي القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً وإحدي وعشرين امرأة وثلاثينصبياً، وساقهم إلى المدينة، فأنزلوا في دار رَمْلَة بنت الحارث‏.‏

وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلمفنادوا‏:‏ يا محمد، اخرج إلينا، فخرج، فتعلقوا به، وجعلوا يكلمونه، فوقفمعهم، ثم مضي حتى صلي الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فأظهروا رغبتهم فيالمفاخرة والمباهاة، وقدموا خطيبهم عُطَارِد بن حاجب فتكلم، فأمر رسولالله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شَمَّاس خطيب الإسلام فأجابهم، ثمقدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر، فأنشد مفاخراً، فأجابه شاعر الإسلام حسانبن ثابت على البديهة‏.‏



يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#74

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال الأقرع بن حابس‏:‏ خطيبه أخطب من خطيبنا،وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأقوالهم أعلى منأقوالنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأحسنجوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم‏.‏

2 سرية قُطْبَة بن عامر إلى حي من خَثْعَم بناحية تَبَالَة، بالقرب منتُرَبَة في صفر سنة 9 ه‏.‏ خرج قطبة في عشرين رجلاً على عشرة أبعرةيعتقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى فيالفريقين جميعاً، وقتل قطبة مع من قتل، وساق المسلمون النَّعَم والنساءوالشاء إلى المدينة‏.‏

3 سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كِلاَب في ربيع الأول سنة9ه‏.‏بعثت هذه السرية إلى بني كلاب ؛ لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا،فهزمهم المسلمون، وقتلوا منهم رجلاً‏.‏

4 سرية علقمة بن مُجَزِّرِ المُدْلِجي إلى سواحل جُدَّة في شهر ربيع الآخرسنة 9ه في ثلاثمائة‏.‏بعثهم إلى رجال من الحبشة، كانوا قد اجتمعوا بالقربمن سواحل جدة للقيام بأعمال القَرْصَنَة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتىانتهي إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا‏.‏

5 سرية على بن أبي طالب إلى صنم لطيئ يقال له‏:‏ الفُلْس ليهدمه في شهرربيع الأول سنة 9 ه‏.‏ بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في خمسينومائة، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنواالغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه وملأوا أيديهم من السبي والنعموالشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد المسلمون فيخزانة الفلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع، وفي الطريق قسموا الغنائم، وعزلواالصفي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولم يقسموا آل حاتم‏.‏

ولما جاءوا إلى المدينة استعطفت أخت عدي بن حاتم رسول اللّه صلى الله عليهوسلم، قائلة‏:‏ يا رسول اللّه، غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوزكبيرة، ما بي من خدمة، فمُنَّ على، منّ اللّه عليك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏منوافدك‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ عدي بن حاتم،‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الذي فر من اللّهورسوله‏؟‏‏)‏ ثم مضي، فلما كان الغد قالت مثل ذلك، وقال لها مثل ما قالأمس‏.‏ فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك، فمن عليها، وكان إلى جنبه رجل تريأنه على فقال لها‏:‏ سليه الحِمْلان فسألته فأمر لها به‏.‏

ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام، فلما لقيته قالت عن رسولالله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغباًأو راهباً، فجاءه عدي بغيرأمان ولا كتاب‏.‏ فأتي به إلى داره، فلما جلسبين يديه حمد اللّه وأثني عليه، ثم قال‏:‏ ما يُفِرُّكَ‏؟‏ أيُفِرُّك أنتقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا اللّه‏؟‏ فهل تعلم من إله سوى اللّه‏؟‏‏)‏ قال‏:‏لا‏.‏ ثم تكلم ساعة ثم قال‏:‏ ‏(‏إنما تفر أن يقال‏:‏ اللّه أكبر، فهلتعلم شيئاً أكبر من الله‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن اليهود مغضوبعليهم، وإن النصاري ضالون‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فإني حَنِيف مسلم، فانبسط وجههفرحاً، وأمر به فنزل عند رجل من الأنصار، وجعل يأتي النبي صلى الله عليهوسلم طرفي النهار‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق عن عدي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلسه بينيديه في داره قال له‏:‏ ‏(‏إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن رَكُوسِيّا‏؟‏‏)‏قال‏:‏ قلت‏:‏ بلي، قال‏:‏ ‏(‏أو لم تكن تسير في قومكبالمِرْبَاع‏؟‏‏)‏‏.� ��قال‏:‏ قلت‏:‏ بلي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن ذلك لم يحل لك فيدينك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ قلت أجل واللّه‏.‏ قال‏:‏ وعرفت أنه نبي مرسل، يعرف مايُجْهَل‏.‏

وفي رواية لأحمد‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا عدي، أسلمتسلم‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ إني من أهل دين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أنا أعلم بدينك منك‏)‏‏.‏فقلت‏:‏ أنت أعلم بديني مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، ألست من الركوسية، وأنتتأكل مرباع قومك‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ بلي، قال‏:‏ ‏(‏فإن هذا لا يحل لك فيدينك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فلم يعد أن قالها فتواضعت لها‏.‏

وروي البخاري عن عدي قال‏:‏ بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذأتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال‏:‏‏(‏يا عدي، هل رأيت الحيرة‏؟‏ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل منالحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا اللّه، ولئن طالت بك حياةلتفتحن كنوز كسري، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أوفضة، ويطلب من يقبله فلا يجد أحداً يقبله منه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث وفيآخره‏:‏ قال عدي‏:‏ فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لاتخاف إلا اللّه‏.‏ وكنت فيمن افتتح كنوز كسري بن هرمز، ولئن طالت بكم حياةلترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يخرج ملءكفه‏)‏‏.‏

غزوة تبوك في رجب سنة 9ه



إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل، لم يبق بعدها مجالللريبة والظن في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عند العرب، ولذلك انقلبالمجري تماماً، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً كما سيظهر ذلك مما نقدمهفي فصل الوفود، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع وانتهت المتاعبالداخلية، واستراح المسلمون لتعليم شرائع اللهّّ، وبث دعوة الإسلام‏.‏

* سبب الغزوة‏‏ :

إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان أكبرقوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان وقد عرفنا فيما تقدم أنبداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحارث بنعمير الأزدي على يدي شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحملرسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بُصْرَي، وأن النبي صلى اللهعليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماًعنيفاً في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلاأنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم‏.‏

ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالحالمسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهمعن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدودهخطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يري أنالقضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكنالقضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورةللرومان‏.‏

ونظراً إلى هذه المصالح، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذيهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهزلمعركة دامية فاصلة‏.‏


* الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغَسَّان‏ :

وكانت الأنباء تترامي إلى المدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حاسمة ضدالمسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلاويظنونه زحف الرومان‏.‏ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كانالنبي صلى الله عليه وسلم إلى من نسائه شهراً في هذه السنة 9ه وكان هجرهنواعتزل عنهن في مشربة له ، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته،فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، فسري فيهم الهم والحزنوالقلق‏.‏ يقول عمر بن الخطاب وهو يروي هذه القصة‏:‏ وكان لي صاحب منالأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر وكانا يسكنانفي عوالى المدينة، يتناوبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتخوفملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنامنه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال‏:‏ افتح، افتح، فقلت‏:‏ جاءالغساني‏؟‏ فقال‏:‏ بل أشد من ذلك، اعتزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلمأزواجه‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفي لفظ آخر أنه قال ‏:‏ وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزلصاحبي يوم نَوْبَتِهِ، فرجع عشاء، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال‏:‏ أنائمهو‏؟‏ ففزعت، فخرجت إليه، وقال‏:‏ حدث أمر عظيم‏.‏ فقلت‏:‏ ما هو‏؟‏ أجاءتغسان‏؟‏ قال‏:‏ لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلمنساءه‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وهذا يدل على خطورة الموقف، الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلىالرومان، ويزيد ذلك تأكداً ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينةأخبار إعداد الرومان، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول اللّهصلى الله عليه وسلم في كل الميادين، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض،بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق برغم هذا كله طفق هؤلاء المنافقونيأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم، وما كانوا يتربصونه من الشربالإسلام وأهله‏.‏ ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر،في صورة مسجد، وهو مسجد الضِّرَار، أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنينوإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى الله عليهوسلم أن يصلي فيه، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فلا يفطنوا مايؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم، ولا يلتفتوا إلى من يردهويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج، ولكنرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة فيه إلى قفوله من الغزوة لشغلهبالجهاز، ففشلوا في مرامهم وفضحهم اللّه، حتى قام الرسول صلى الله عليهوسلم بهدم المسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه‏.‏

* الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان‏‏ :

كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون، إذ بلغهممن الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاًعرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطي قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنهأجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهمبلغت إلى البلقاء، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير‏.‏

* زيادة خطورة الموقف‏ :

والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد، وكان الناسفي عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر، وكانت الثمار قد طابت، فكانوايحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذيهم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة‏.‏

* الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم‏ :

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدقوأحكم من هذا كله، إنه كان يري أنه لو تواني وتكاسل عن غزو الرومان في هذهالظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرةالإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلاميةوعلى سمعة المسلمين العسكرية، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد مالقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مرة أخري، والمنافقون الذين يتربصونالدوائر بالمسلمين، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجونبطون المسلمين بخناجرهم من الخلف، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضدالمسلمين من الأمام، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه فينشر الإسلام، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودورياتعسكرية متتابعة متواصلة‏.‏‏.‏‏.‏ تذهب هذه المكاسب بغير جدوي‏.‏

كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القياممع ما كان فيه من العسرة والشدة بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومانفي حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام‏.

*الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان‏‏ :

ولما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزواللقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم‏.‏ وكان قل مايريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلىشدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبةكاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد،وتحثهم على القتال، ورغبهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بذل الصدقات،وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللّه‏.

*المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو‏‏ :

ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعو إلىقتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة،وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد منالمسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفرحتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم‏:‏ ‏{‏لاَ أَجِدُ مَاأَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِحَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏92‏]‏‏.‏

كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قدجهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها،ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجرهصلى الله عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول‏:‏‏(‏ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم‏)‏ ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدارصدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود‏.‏

وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولميترك لأهله إلا اللّه ورسوله وكانت أربعة آلاف درهم وهو أول من جاءبصدقته‏.‏ وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بنعبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال‏.‏ وجاء عاصم بن عدي بتسعينوَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم منأنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها‏.‏ وبعثت النساء ما قدرن عليه منمَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم‏.‏

ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون ‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَالْمُطَّوِّعِي نَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَيَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏79‏]‏‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#75

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*الجيش الإسلامي إلى تبوك‏‏ :

وهكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المدينةمحمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل‏:‏ سِبَاع بن عُرْفُطَةَ، وخلف على أهله علىبن أبي طالب، وأمره بالإقامة فيهم، وغَمَصَ عليه المنافقون، فخرج فلحقبرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده إلى المدينة وقال‏:‏ ‏(‏ألا ترضى أنتكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي‏)‏‏.‏

وتحرك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك،ولكن الجيش كان كبيراً ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذاالجمع الكبير قبله قط فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أنيجهزوه تجهيزاً كاملاً، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزادوالمراكب، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيراً واحداً، وربما أكلواأوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح البعير مع قلتها ليشربواما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ‏.‏

ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ديار ثمود الذين جابواالصخر بالواد، أي وادي القُرَى فاستقي الناس من بئرها، فلما راحوا قالرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منهللصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً‏)‏،وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجرقال‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أنتكونوا باكين‏)‏، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي‏.‏

واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه، فدعااللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوي الناس، واحتملوا حاجاتهم منالماء‏.‏

ولما قرب من تبوك قال‏:‏ ‏(‏إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عينتبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائهاشيئاً حتى آتي‏)‏، قال معاذ‏:‏ فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تَبِضُّبشيء من مائها، فسألهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل مسستما منمائها شيئاً‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ نعم‏.‏ وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول‏.‏ ثمغرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ ، ثم غسل رسول اللّه صلىالله عليه وسلم فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير،فاستقي الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يوشك يا معاذ،إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد ملئ جناناً‏)‏‏.‏

وفي الطريق أو لما بلغ تبوك على اختلاف الروايات قال رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم‏:‏ ‏(‏تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كانله بعير فليشد عِقَالَه‏)‏، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتىألقته بجبلي طيئ‏.‏

وكان دأب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهروالعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخيركليهما‏.‏

* الجيش الإسلامي بتبوك‏‏ :

نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسولاللّه صلى الله عليه وسلم فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أتي بجوامعالكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حتى رفعمعنوياتهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزادوالمادة والمؤنة‏.‏ وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه صلىالله عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوافي البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمينالعسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك المسلمون علىمكاسب سياسية كبيرة خطيرة، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناكاصطدام بين الجيشين‏.‏

جاء يُحَنَّةُ بن رُؤْبَةَ صاحب أيْلَةَ، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلموأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح، فأعطوه الجزية، وكتب لهمرسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباً فهو عندهم، وصالحه أهل مِينَاء علىربع ثمارها، وكتب لصاحب أيلة‏:‏ ‏(‏بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذه أمنة مناللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهمفي البر والبحر لهم ذمة اللّه وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشاموأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيبلمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونهمن بر أو بحر‏)‏‏.‏

وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَةالجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له‏:‏ ‏(‏إنك ستجده يصيدالبقر‏)‏، فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة، تحكبقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيدها وكانت ليلة مقمرة فتلقاه خالد فيخيله، فأخذه وجاء به إلى رسول اللّهصلى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحهعلى ألفي بعير، وثمانمائة رأس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاءالجزية، فقاضاه مع يُحَنَّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْلَةَ وَتَيْماء‏.‏

وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتهاالأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولةالإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلىحد كبير‏.‏

* الرجوع إلى المدينة‏‏ :

ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيداً، وكفي اللهالمؤمنين القتال، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقينالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كانمعه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة ابن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطنالوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة‏.‏ فبينما رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهمملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه ، فأرعبهم اللّه،فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلمبأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سر رسول الله صلىالله عليه وسلم، وفي ذلك يقول اللّه تعالي‏:‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْيَنَالُوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏74‏]‏‏.‏

ولما لاحت للنبي صلى الله عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال‏:‏ ‏(‏هذهطَابَةُ، وهذا أحُدٌ، جبل يحبنا ونحبه‏)‏، وتسامع الناس بمقدمه، فخرجالنساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن‏:‏

طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع

وكانت عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9ه، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً، أقام منها عشرين يوماً في تبوك،والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبًا‏.‏ وكانت هذه الغزوة آخر غزواتهصلى الله عليه وسلم‏.‏




*المُخَلَّفون‏‏ :



وكانت هذه الغزوة لظروفها الخاصة بها اختباراً شديداً من اللّه، امتاز بهالمؤمنون من غيرهم، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول‏:‏‏{‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِحَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏‏[‏ آل عمران‏:‏179‏]‏‏.‏فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة علىنفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلمقال لهم‏:‏ ‏(‏دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم، وإن يكن غير ذلكفقد أراحكم منه‏)‏، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا اللّهورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً، أو قعدواولم يستأذنوا رأسا‏.‏ نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوامن غير مبرر، وهم الذين أبلاهم اللّه، ثم تاب عليهم‏.‏



ولما دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيهركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون وهم بضعة وثمانون رجلاً فجاءوايعتذرون بأنواع شتي من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم،وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه‏.‏



وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين وهم كعب بن مالك، ومُرَارَة بنالربيع، وهلال بن أمية فاختاروا الصدق، فأمر رسول اللّه صلى الله عليهوسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعةشديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت،وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة منبداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسونليلة، ثم أنزل اللّه توبتهم‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَخُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْوَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَاللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏118‏]‏‏.‏



وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشرواواستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم‏.‏



وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَىالضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَمَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة‏:‏ ‏(‏إنبالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم،حبسهم العُذْرُ‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏‏(‏وهم بالمدينة‏)‏‏.‏



يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#76

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل


* أثر الغزوة‏‏ :



وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب،فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوي قوةالإسلام، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهليينوالمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدواآمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، واستسلموا للأمر الواقع،الذي لم يجدوا عنه محيداً ولا مناصاً‏.‏



ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر اللّهبالتشديد عليهم، حتى نهي عن قبول صدقاتهم، وعن الصلاة عليهم، والاستغفارلهم والقيام على قبرهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسمالمسجد، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً، لم يبق في معرفتهمبعدها أي خفاء، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة‏.‏



ويعرف مدي أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلىرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد غزوة فتح مكة، بل وما قبلها، إلا أنتتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة‏.‏



* نزول القرآن حول موضوع الغزوة‏ :



نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج،وبعضها بعد الخروج وهو في السفر وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة،وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة، وفضح المنافقين، وفضل المجاهدينوالمخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين منهم في الغزوةوالمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور‏.‏



* بعض الوقائع المهمة في هذه السنة :



وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ‏:‏



1 بعد قدوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بين عُوَيْمِر العَجْلاني وامرأته‏.‏



2 رجمت المرأة الغامدية، التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، رجمت بعدما فطمت ابنها‏.‏



3 توفي النجاشي أصْحَمَة، ملك الحبشة، في رجب، وصلي عليه رسول الله صلاة الغائب في المدينة‏.‏



4 توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان، فحزن عليهاحزناً شديداً، وقال لعثمان‏:‏ ‏(‏لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها‏)‏‏.‏



5 مات رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه صلىالله عليه وسلم من تبوك، فاستغفر له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وصليعليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلكبموافقة عمر‏.‏



* حج أبي بكر رضي الله عنه :



وفي ذي القعدة أو ذي الحجة من نفس السنة 9 ه بعث رسول اللّه صلى الله عليهوسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج، ليقيم بالمسلمينالمناسك‏.‏



ثم نزلت أوائل سورة براءة بنقض المواثيق ونبذها على سواء، فبعث رسول اللّهصلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب ليؤدي عنه ذلك، وذلك تمشياً منه علىعادة العرب في عهود الدماء والأموال، فالتقي على بأبي بكر بالعَرْج أوبضَجْنَان، فقال أبو بكر‏:‏ أمير أو مأمور‏؟‏ قال علي‏:‏ لا، بل مأمور‏.‏ثم مضيا، وأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام على بنأبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره رسول اللّه صلى الله عليهوسلم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأجل لهم أربعة شهور، وكذلك أجل أربعةأشهر لمن لم يكن له عهد، وأما الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً، ولميظاهروا عليهم أحداً فأبقي عهدهم إلى مدتهم‏.‏



وبعث أبو بكر رضي الله عنه رجالاً ينادون في الناس‏:‏ ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرْيَان‏.‏



وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب، وأنها لا تُبْدِئُ ولا تُعِيدُ بعد هذا العام‏.‏

نظرة على الغزوات




إذا نظرنا إلى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه، لا يمكنلنا ولا لأحد ممن ينظر في أوضاع الحروب وآثارها وخلفياتها لا يمكن لنا إلاأن نقول‏:‏

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأشدهموأعمقهم فراسة وتيقظاً، إنه صاحب عبقرية فذة في هذا الوصف، كما كان سيدالرسل وأعظمهم في صفة النبوة والرسالة، فلم يخض معركة من المعارك إلا فيالظرف ومن الجهة اللذين يقتضيهما الحزم والشجاعة والتدبير، ولذلك لم يفشلفي أي معركة من المعارك التي خاضها لغلطة في الحكمة وما إليها من تعبئةالجيش وتعيينه على المراكز الاستراتيجية، واحتلال أفضل المواضع وأوثقهاللمجابهة، واختيار أفضل خطة لإدارة دفة القتال، بل أثبت في كل ذلك أن لهنوعاً آخر من القيادة غير ما عرفتها الدنيا في القواد‏.‏ ولم يقع ما وقعفي أُحد وحنين إلا من بعض الضعف في أفراد الجيش في حنين أو من جهة معصيتهمأوامره وتركهم التقيد والالتزام بالحكمة والخطة اللتين كان أوجبهما عليهممن حيث الوجهه العسكرية‏.‏

وقد تجلت عبقريته صلى الله عليه وسلم في هاتين الغزوتين عند هزيمةالمسلمين، فقد ثبت مجابهاً للعدو، واستطاع بحكمته الفذة أن يخيبهم فيأهدافهم كما فعل في أحد أو يغير مجري الحرب حتى يبدل الهزيمة انتصاراً كمافي حنين مع أن مثل هذا التطور الخطير، ومثل هذه الهزيمة الساحقة تأخذانبمشاعر القواد، وتتركان على أعصابهم أسوأ أثر، لا يبقي لهم بعد ذلك إلا همالنجاة بأنفسهم‏.‏

هذه من ناحية القيادة العسكرية الخالصة، أما من نواح أخري، فإنه استطاعبهذه الغزوات فرض الأمن وبسط السلام، وإطفاء نار الفتنة، وكسر شوكةالأعداء في صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتخلية السبيللنشر الدعوة، كما استطاع أن يتعرف على المخلصين من أصحابه ممن هو يبطنالنفاق، ويضمر نوازع الغدر والخيانة‏.‏

وقد أنشأ طائفة كبيرة من القواد، الذين لاقوا بعده الفرس والرومان فيميادين العراق والشام، ففاقوهم في تخطيط الحروب وإدارة دفة القتال، حتىاستطاعوا إجلاءهم من أرضهم وديارهم وأموالهم من جنات وعيون وزروع ومقامكريم ونعمة كانوا فيها فاكيهن‏.‏

كما استطاع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بفضل هذه الغزوات أن يوفرالسكني والأرض والحرف والمشاغل للمسلمين، حتى تَفَصَّي من كثير من مشاكلاللاجئين الذين لم يكن لهم مال ولا دار، وهيأ السلاح والكُرَاع والعدةوالنفقات، حصل على كل ذلك من غير أن يقوم بمثقال ذرة من الظلم والطغيانوالبغي والعدوان على عباد اللّه‏.‏

وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها فيالجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب والقتل والإغارةوالظلم والبغي والعدوان، وأخذ الثأر، والفوز بالوَتَر، وكبت الضعيف،وتخريب العمران، وتدمير البنيان، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعافوالولائد والصبيان، وإهلاك الحرث والنسل، والعبث والفساد في الأرض فيالجاهلية إذ صارت هذه الحرب في الإسلام جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة ،وأغراض سامية، وغايات محمودة، يعتز بها المجتمع الإنساني في كل زمانومكان، فقد صارت الحرب جهاداً في تخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان،إلى نظام العدالة والنَّصَف، من نظام يأكل فيه القوي الضعيف، إلى نظاميصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ منه، وصارت جهاداً في تخليص‏{‏وَالْمُسْتَضْعَف� �ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِالظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَللَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏75‏]‏‏.‏ وصارت جهاداً فيتطهير أرض اللّه من الغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى بسط الأمنوالسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة‏.‏

كما شرع للحروب قواعد شريفة ألزم التقيد بها على جنوده وقوادها، ولم يسمحلهم الخروج عنها بحال‏.‏ روي سليمان بن بريدة عن أبيه قال‏:‏ كان رسولاللّه صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصتهبتقوي اللّه عز وجل، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال‏:‏ ‏(‏اغزوا بسماللّه، في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، اغزوا، فلا تغلوا،ولاتغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وكانيأمر بالتيسير ويقول‏:‏ ‏(‏يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا‏)‏‏.‏

وكان إذا جاء قوماً بِلَيْل لم يُغِرْ عليهم حتى يُصبِح، ونهي أشد النهيعن التحريق في النار، ونهي عن قتل الصبر، وقتل النساء وضربهن، ونهي عنالنهب حتى قال‏:‏ ‏(‏إن النُّهْبَى ليست بأحل من الميتة‏)‏، ونهي عن إهلاكالحرث والنسل وقطع الأشجار إلا إذا اشتدت إليها الحاجة، ولا يبقي سواهسبيل‏.‏ وقال عند فتح مكة‏:‏ ‏(‏لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن مدبراً، ولاتقتلن أسيراً‏)‏، وأمضى السنة بأن السفير لا يقتل، وشدد في النهي عن قتلالمعاهدين حتى قال‏:‏ ‏(‏من قتل معاهداً لم يُرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحه التوجد من مسيرة أربعين عاماً‏)‏، إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من أدران الجاهلية حتى جعلتها جهاداً مقدساً‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#77

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى‏:‏

كان من بيت الشعراء، ومن أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم،فلما انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف سنة 8ه ، كتبإلى كعب بن زهير أخوه بُجَيْر بن زهير أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلمقتل رجالاً بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوافي كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فَطِرْ إلى رسول اللّه صلى الله عليهوسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجاتك، ثم جري بينالأخوين مراسلات ضاقت لأجلها الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاءالمدينة، ونزل على رجل من جُهَيْنَةَ، وصلي معه الصبح، فلما انصرف أشارعليه الجهني، فقام إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضعيده في يده، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال‏:‏ يا رسولاللّه، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابلمنه إن أنا جئتك به‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أنا كعب بن زهير، فوثبعليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال‏:‏ ‏(‏دعه عنك، فإنه قد جاءتائباً نازعاً عما كان عليه‏)‏‏.‏

وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهورة التي أولها‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم مَتْبُول ** مُتَيَّمٌ إثْرَهَا، لم يُفْدَ، مَكْبُول

قال فيها وهو يعتذر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويمدحه‏:‏

نبئت أن رسول الله أوعدني ** والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال ** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذن بأقوال الوشاة ولم ** أذنب، ولو كثرت فيَّ الأقاويل

لقد أقوم مقاما ما لو يقوم به ** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظل يرعد إلا أن يكون له ** من الرسول بإذن الله تنويل

حتى وضعت يميني ما أنازعه ** في كف ذي نقمات قيله القيل

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ** وقيل‏:‏ إنك منسوب ومسئول

من ضيغم بضراء الأرض مخدرة ** في بطن عثر غيل دونه غيل

إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف الله مسلول

ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لأنهم لم يكن تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إلابخير، وعرض في أثناء مدحهم على الأنصار لاسئذان رجل منهم في ضرب عنقه،قال‏:‏

يمشون مَشْي الجمال الزُّهْرِ يعصمهم ** ضَرْبٌ إذا عَرَّد السُّودُ التَّنَابِيل

فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم، قال في تلك القصيدة‏:‏

من سره كَرَمُ الحياة فلا يَزَلْ ** في مِقْنَبٍ من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابراً عن كابر ** إن الخيار هم بنو الأخيار

6 وفد عُذْرَة‏:‏

قدم هذا الوفد في صفر سنة 9 ه، وهم اثنا عشر رجلاً فيهم حمزة بن النعمان،قال متكلمهم حين سئلوا ‏(‏من القوم‏؟‏‏)‏‏:‏ نحن بنو عُذْرَة، إخوة قُصَيلأمه، نحن الذين عضدوا قصياً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، لناقرابات وأرحام، فرحب بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بفتح الشام،ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها‏.‏ أسلمواوأقاموا أياماً ثم رجعوا‏.‏

7 وفد بَلِي‏:‏

قدم في ربيع الأول سنة 9 ه، وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثاً، وقد سأل رئيسهمأبو الضُّبَيْب عن الضيافة هل فيها أجر‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة‏)‏، وسأل عنوقت الضيافة، فقال‏:‏ ‏(‏ثلاثة أيام‏)‏، وسأل عن ضالة الغنم، فقال‏:‏‏(‏هي لك أو لأخيك أو للذنب‏)‏، وسأل عن ضالة البعير‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏مالكوله‏؟‏ دعه حتى يجده صاحبه‏)‏‏.‏

8 وفد ثقيف‏:‏

كانت وفادتهم في رمضان سنة 9 ه، وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعودالثقفي جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائففي ذي القعدة سنة 8 ه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم عروة، ورجع إلى قومه،ودعاهم إلى الإسلام وهو يظن أنهم يطيعونه ؛ لأنه كان سيدا مطاعاً في قومه،وكان أحب إليهم من أبكارهم فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجهحتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهراً، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لاطاقة لهم بحرب مَنْ حولهم من العرب الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا فأجمعواأن يرسلوا رجلاً إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فكلموا عَبْد يالِيلبن عمرو، وعرضوا عليه ذلك فأبي، وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوابعروة‏.‏ وقال‏:‏ لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فبعثوا معه رجلين منالأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي،وكان أحدثهم سناً‏.‏

فلما قدموا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحيةالمسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلىرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهمأن يكتب لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضية صلح بينه وبين ثقيف، يأذنلهم فيه بالزنا وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات، وأنيعفيهم من الصلاة، وألا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبي رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا فلم يجدوا محيصاً عنالاستسلام لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فاستسلموا وأسلموا، واشترطواأن يتولي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هدم اللات، وأن ثقيفاً لايهدمونها بأيديهم أبداً‏.‏ فقبل ذلك، وكتب لهم كتاباً، وأمر عليهم عثمانبن أبي العاص الثقفي ؛ لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدينوالقرآن‏.‏ وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يغدون إلى رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوابالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلمفاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائماً عمد إلى أبي بكر لنفسالغرض ‏(‏وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفاً لماعزمت على الردة قال لهم‏:‏ يا معشر ثقيف، كنتم آخر الناس إسلاماً، فلاتكونوا أول الناس ردة، فامتنعوا عن الردة، وثبتوا على الإسلام‏)‏‏.‏

ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزنوالكآبة، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سألهم الإسلام وترك الزناوالخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم‏.‏ فأخذت ثقيفاً نخوة الجاهلية، فمكثوايومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقي اللّه في قلوبهم الرعب، وقالواللوفد‏:‏ ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل‏.‏ وحينئذ أبدي الوفد حقيقة الأمر،وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت ثقيف‏.‏

وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجالاً لهدم اللات، أمر عليهم خالد بنالوليد، فقام المغيرة ابن شعبة، فأخذ الكُرْزِين وقال لأصحابه‏:‏ واللّهلأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف،وقالوا‏:‏ أبعد اللّه المغيرة، قتلته الرَّبَّةُ، فوثب المغيرة فقال‏:‏قبحكم اللّه، إنما هي لُكَاع حجارة ومَدَر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علاأعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها بالأرض حتى حفروا أساسها، وأخرجواحليها ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته إلى رسول اللّْه صلى اللهعليه وسلم بحليها وكسوتها، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه،وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه‏.




يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#78

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

رسالة ملوك اليمن‏:‏

وبعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حِمْيَر، وهمالحارث بن عبد كُلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان، وقَيْلُ ذي رُعَيْنوهَمْدَان ومُعَافِر، ورسولهم إليه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرةالرَّهَاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول اللهصلى الله عليه وسلم كتاباً بَيَّنَ فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطي فيهالمعاهدين ذمة اللّه وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليهم من الجزية وبعث إليهمرجالاً من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل، وجعله على الكورة العلياء من جهةعَدَن بين السَّكُون والسَّكَاسِك، وكان قاضياً وحاكماً في الحروب،وعاملاً على أخذ الصدقة والجزية، ويصلي بهم الصلوات الخمس، وبعث أبا موسيالأشعري رضي الله عنه على الكورة السفلي‏:‏ زُبَيْد ومأرب وَزَمَعوالساحل، وقال‏:‏ ‏(‏يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولاتختلفا‏)‏‏.‏ وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول اللّه صلى الله عليهوسلم‏.‏ أما أبو موسي الأشعري رضي الله عنه فقدم عليه صلى الله عليه وسلمفي حجة الوداع‏.‏

10 وفد همدان‏:‏

قدموا سنة 9ه بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول اللّهصلى الله عليه وسلم كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بنالنَّمَطَ، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليديدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث على بن أبيطالب، وأمره أن يَقْفُلَ خالداً، فجاء على إلى همدان، وقرأ عليهم كتاباًمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً،وكتب على ببشارة إسلامهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ الكتاب خرساجداً، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏السلام على همدان، السلام على همدان‏)‏‏.‏

11 وفد بني فَزَارَة‏:‏

قدم هذا الوفد سنة 9ه بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعةعشر رجلاً جاءوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول الله صلىالله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقي، وقال‏:‏ ‏(‏اللهم اسق بلادكوبهائمك، وانشر رحمتك، وأحْي بلدك الميت، اللهم اسقنا غَيْثاً مُغِيثاً،مريئًا مَرِيعاً، طَبَقاً واسعاً، عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار، اللّهمسقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولاهَدْم ولا غَرَق ولا مَحْق، اللّهم اسقناالغيث، وانصرنا على الأعداء‏)‏‏.‏

12 وفد نجران‏:‏

‏[‏نجران‏]‏ بفتح النون وسكون الجيم‏:‏ بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلىجهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع ،وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا يدينون بالنصرانية‏.‏

وكانت وفادة أهل نجران سنة 9ه، وقوام الوفد ستون رجلاً منهم أربعة وعشرونمن الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران‏.‏ أحدهمْ‏:‏العَاقِب، كانت إليه الإمارة والحكومة، واسمه عبد المسيح‏.‏ والثاني‏:‏السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية، واسمه الأيْهَم أوشُرَحِْبيل‏.‏ والثالث‏:‏ الأسْقف، وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادةالروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة‏.‏

ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثمدعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسيعليه السلام، فمكث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزلعليه‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنتُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَتَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَمِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْوَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْفَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏59:61‏]‏‏.‏

ولما أصبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بقوله في عيسي ابن مريمفي ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم ؛ ليفكروا في أمرهم، فأبوا أنيقروا بما قال في عيسي‏.‏ فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم منقوله في عيسي، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلىالمباهلة، وأقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خَمِيل له، وفاطمة تمشي عندظهره، فلما رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقبوالسيد للآخر‏:‏ لا تفعل، فو اللّه لئن كان نبياً فَلاَعَنَنَا لا نفلحنحن ولا عقبنا من بعدنا ، فلا يبقي على وجه الأرض منا شعرة ولا ظُفْر إلاهلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أمرهم،فجاءوا وقالوا‏:‏ إنا نعطيك ما سألتنا‏.‏ فقبل رسول اللّه صلى الله عليهوسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حُلَّة‏:‏ ألف في رجب، وألف في صفر،ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة اللّه وذمة رسوله‏.‏ وترك لهم الحريةالكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلاًأميناً، فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح؛ ليقبض مالالصلح‏.‏

ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعاإلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عليّا ؛ ليأتيهبصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين‏.‏

13 وفد بني حنيفة‏:‏

كانت وفادتهم سنة 9 ه، وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مُسَيْلِمة الكذاب وهومُسَيْلِمة بن ثُمَامَة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة نزل هذاالوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلمفأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد النظر في جميعهاأن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإمارة،وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأن النبيصلى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولا، فلما رأيأن ذلك لا يجدي فيه نفعاً تفرس فيه الشر‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أري قبل ذلك في المنام أنه أتي بخزائنالأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحي إليه أنانفخهما فنفخهما فذهبا، فأوَّلَهُمَا كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر منمسيلمة ما صدر من الاستنكاف وقد كان يقول‏:‏ إن جعل لي محمد الأمر من بعدهتبعته جاءه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعهخطيبه ثابت بن قيس بن شَمَّاس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه، فقالله مسيلمة‏:‏ إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال‏:‏‏(‏لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر اللّه فيك، ولئنأدبرتَ ليعقرنك اللّه، واللّه إني لأراك الذي أرِيتُ فيه ما رأيتُ، وهذاثابت يجيبك عني‏)‏، ثم انصرف‏.‏

وأخيراً وقع ما تَفَرَّسَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن مسيلمة لمارجع إلى اليَمَامة بقي يفكر في أمره، حتى ادعي أنه أشرك في الأمر مع النبيصلى الله عليه وسلم، فادعي النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمروالزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتنبه قومه فتبعوه وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له‏:‏ رحماناليمامة لعظم قدره فيهم، وكتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباًقال فيه‏:‏ إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر،فرد عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه‏:‏ ‏(‏إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين‏)‏‏.‏

وعن ابن مسعود‏:‏ جاء ابن النَّوَّاحَة، وابن أُثَال رسولا مسيلمة إلىالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما‏:‏ ‏(‏أتشهدان أني رسول اللّّه‏؟‏‏)‏فقالا‏:‏ نشهد أن مسيلمة رسول اللّه‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏آمنت باللّه ورسوله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما‏)‏‏.‏

كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكرالصديق رضي الله عنه في ربيع الأول سنة 21ه، قتله وَحْشِي قاتلحمزة‏.‏وأما المتنبئ الثاني، وهو الأسود العَنْسِي الذي كان باليمن، فقتله فَيْرُوز، واحتز رأسه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة،فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي الله عنه‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#79

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

وفد بني عامر بن صَعْصَعَة‏:‏



كان فيهم عامر بن الطُّفَيْل عدو اللّه وأرْبَد بن قيس أخو لَبِيد لأمهوخالد بن جعفر، وجَبَّار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم، وكانعامر هو الذي غدر بأصحاب بئر مَعُونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدمالمدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم،فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، ودار أربد خلفه،واخترط سيفه شبراً، ثم حبس اللّه يده فلم يقدر على سله، وعصم اللّه نبيه،ودعا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجعا أرسل اللّه على أربدوجمله صاعقة فأحرقته، وأما عامر فنزل على امرأة سَلُولِيَّةٍ، فأصيببغُدَّةٍ في عنقه فمات وهو يقول‏:‏ أغدة كغدة البعير، وموتا في بيتالسلولية‏.‏



وفي صحيح البخاري‏:‏ أن عامراً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏أُخَيِّرُكَ بين خصال ثلاث‏:‏ يكون لك أهل السَّهْلِ ولي أهل المَدَرَ، أوأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغَطَفَان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن فيبيت امرأة، فقال‏:‏ أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان ‏!‏ايتوني بفرسي، فركب، فمات على فرسه‏.‏



15 وفد تُجِيب‏:‏



قدم هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم، وكان الوفد ثلاثة عشررجلاً، وكانوا يسألون عن القرآن والسنن يتعلمونها، وسألوا رسول اللّه صلىالله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها، ولم يطيلوا اللبث، ولما أجازهم رسولاللّه صلى الله عليه وسلم بعثوا إليه غلاماً كانوا خلفوه في رحالهم، فجاءالغلام، وقال‏:‏ واللّه ما أعْمَلَنِي من بلادي إلا أن تسأل اللّه عز وجلأن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فدعا له بذلك‏.‏ فكان أقنعالناس، وثبت في الردة على الإسلام، وذكر قومه ووعظهم فثبتوا عليه، والتقيأهل الوفد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخري في حجة الوداع سنة 01 ه‏.‏



16 وفد طيِّئ‏:‏



قدم هذا الوفد وفيهم زَيْدُ الخَيْلِ ، فلما كلموا النبي صلى الله عليهوسلم، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم عن زيد‏:‏ ‏(‏ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيتهدون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه‏)‏، وسماه زيدالخير‏.‏



وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر أهل المغازيوالسير منها وفود أهل اليمن، والأزْد وبني سعد هُذَيْم من قُضَاعَة، وبنيعامر بن قَيْس، وبني أسد، وبَهْرَاء وخَوْلان ومُحَارِب وبني الحارث بنكعب وغَامِد وبني المُنْتَفِق، وسَلامان، وبني عَبْس، ومُزَيْنَة،ومُرَاد، وزُبَيْد، وكِنْدَة، وذي مُرَّة، وغَسَّان، وبني عِيش، ونَخْعوهو آخر الوفود، توافد في منتصف محرم سنة 11ه في مائتي رجل وكانت وفادةالأغلبية من هذه الوفود سنة 9 و 01 ه، وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة 11ه‏.‏



وتَتَابُع هذه الوفود يدل على مدي ما نالت الدعوة الإسلامية من القبولالتام، وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العربكانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن تري محيصاً عنالاستسلام أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرفالنظر عنها، إلا أننا لا يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاءبأسرهم ؛ لأنه كان وسطهم كثير من الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعاًلسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد عما تأصل فيها من الميل إلى الغارات،ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب‏.‏



وقد وصف القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة‏:‏ ‏{‏الأَعْرَابُ أَشَدُّكُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَاللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَعَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏97، 98‏]‏



وأثنى على آخرين منهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُبِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَاللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْسَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏[‏ التوبة:99]‏‏.‏



أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن والبحرين، فقدكان الإسلام فيهم قوياً، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين‏.

نجاح الدعوة وأثرها



وقبل أن نتقدم خطوة أخري إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى الله عليهوسلم، ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكةحياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين، حتى توج اللّّه هامتهبسيادة الأولين والآخرين‏.‏

إنه صلى الله عليه وسلم قيل له‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِاللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ الآيات ‏[‏المزمل‏:‏1، 2‏]‏‏.‏ و‏{‏ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏1، 2‏]‏ الآيات،فقام وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبريفي هذه الأرض، عبء البشرية كلها وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهادفي ميادين شتى‏.‏

حمل عبء الكفاح والجهاد في ميادين الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهليةوتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهاق الشهواتوأغلالها‏.‏ حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركامالجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخري في ميدان آخر، بل معاركمتلاحقة‏.‏‏.‏‏.‏ مع أعداء دعوة اللّه المتألبين عليها، وعلى المؤمنينبها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمدجذورها في التربة، وفروعها في الفضاء، وتظلل مساحات أخرى‏.‏‏.‏‏.‏ ولم يكديفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة،وتتهيأ للبطش بها على تُخُومِها الشمالية‏.‏

وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولي معركة الضمير قد انتهت، فهيمعركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يَنِي لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماقالضمير الإنساني، ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة اللّه هناك،وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيامقبلة عليه وفي جهد وكَدٍّ، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمنوالراحة، وفي نُصُب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيامالليل، وفي عبادة لربه وترتيل لقرآنه، وتَبَتُّل إليه كما أمره أن يفعل‏.‏

وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأنعن شأن في خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحيرله العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها،وصحت العقول العليلة حتى تركت الأصنام بل كسرت، أخذ الجو يرتج بأصواتالتوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياهاالإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالاً وجنوباً، يتلون آيات الكتاب،ويقيمون أحكام اللّه‏.‏

وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلىعبادة اللّه، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالمومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد اللّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه،أذهب اللّه عنهم عُبِّيَّةَ الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبقهناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلابالتقوي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب‏.‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#80

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل


وهكذا تحققت بفضل هذه الدعوة الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية، والعدالةالاجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلهاالأخروية، فتقلب مجري الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، تبدلتالعقلية‏.‏

إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية قبل هذه الدعوة ويتعفن ضميره،وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحهموجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلالوالظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف،وسري فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة، لاحياة فيها ولا روح‏.‏

فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية، خلصت روح البشر من الوهموالخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارةوالانحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفككوالانهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان، وقامتببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحريةوالتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان، والعدالة والكرامة، ومنالعمل الدائب لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه فيالحياة‏.‏

وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذنشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة منعمرها‏.

حجة الوداع


تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثباتالألوهية للّه، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم،وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يشعره أنمقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذا على اليمنسنة 01ه قال له فيما قال‏:‏ ‏(‏يا معاذ، إنك عسي ألا تلقاني بعد عامي هذا،ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري‏)‏، فبكي معاذا خشعاً لفراق رسول اللّه صلىالله عليه وسلم‏.‏

وشاء اللّه أن يري رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عاني فيسبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً، فيجتمع في أطراف مكةبأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذمنهم الشهادة على أنه أدي الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة‏.‏

أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدمالمدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏وفي يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلمللرحيل ، فتَرَجَّل وادَّهَنَ ولبس إزاره ورداءه وقَلَّد بُدْنَه، وانطلقبعد الظهر، حتى بلغ ذا الحُلَيْفَة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين،وبات هناك حتى أصبح‏.‏ فلما أصبح قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة آت منربي فقال‏:‏ صَلِّ في هذا الوادي المبارك وقل‏:‏ عمرة في حجة‏)‏‏.‏

وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذَرِيَرة وطيبفيه مِسْك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبَيِصُ الطيب يري في مفارقه ولحيته،ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلي الظهر ركعتين، ثم أهلبالحج والعمرة في مُصَلاَّه، وقَرَن بينهما، ثم خرج، فركب القَصْوَاءَ،فأهَلَّ أيضاً، ثم أهَلَّ لما استقلت به على البَيْدَاء‏.‏

ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طُوَي، ثم دخل مكة بعد أن صليالفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 01ه وقدقضي في الطريق ثماني ليال، وهي المسافة الوسطي فلما دخل المسجد الحرام طافبالبيت، وسعي بين الصفا والمروة، ولم يَحِلَّ ؛لأنه كان قارناً قد ساق معهالهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحَجُون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غيرطواف الحج‏.‏

وأمر من لم يكن معه هَدْي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوابالبيت وبين الصفا المروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال‏:‏ ‏(‏لواستقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت‏)‏، فحلمن لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا‏.‏

وفي اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التَّرْوِيَة توجه إلى مني، فصليبها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر خمس صلوات ثم مكث قليلاً حتىطلعت الشمس، فأجاز حتى أتي عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بَنَمِرَة، فنزلبها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له، فأتي بطن الوادي، وقداجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقامفيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة‏:‏

‏(‏أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً‏)‏‏.‏

‏(‏إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، فيبلدكم هذا‏.‏ ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهليةموضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وكان مسترضعاًفي بني سعد فقتلته هُذَيْل وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من رباناربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله‏)‏‏.‏

‏(‏فاتقوا اللّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتمفروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلنذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهنبالمعروف‏)‏‏.‏

‏(‏وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب اللّه‏)‏‏.‏

‏(‏أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلواخمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيتربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم‏)‏‏.‏

‏(‏وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت‏.‏

فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس‏:‏ ‏(‏اللهم اشهد‏)‏ ثلاث مرات‏.‏

وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة ربيعة بن أمية ابن خَلَف‏.‏

وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قولهتعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُعَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، ولما نزلت بكي عمر، فقال له النبي صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏ما يبكيك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأماإذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏

وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالناسالظهر، ثم أقام فصلي العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتي الموقف،فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَات ، وجعل حَبْل المشاة بين يديه،واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتىغاب القُرْص‏.‏

وأردف أسامة، ودفع حتى أتي المُزْدَلِفَة، فصلي بها المغرب والعشاء بأذانواحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلي الفجرحين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتي المَشْعَرَالحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلّله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتىأسْفَر جِدّا‏.‏

فَدَفَع من المزدلفة إلى مني قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتىأتي بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطي التي تخرجعلى الجمرة الكبري، حتى أتي الجمرة التي عند الشجرة وهي الجمرة الكبرينفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمي بجمرة العَقَبَة وبالجمرةالأولي فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصي الخَذْف، رمي منبطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطيعلياً فنحر ما غَبَرَ وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة وأشركه في هديه،ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قِدْر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربامن مَرَقِها‏.‏

ثم ركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلي بمكة الظهر،فأتي على بني المطلب يَسْقُون على زمزم، فقال‏:‏ ‏(‏انزعوا بني عبدالمطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم‏)‏، فناولوه دلواًفشرب منه‏.‏

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر عاشر ذي الحجة أيضاً حين ارتفعالضحي، وهو على بغلة شَهْبَاء، وعلى يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد ،وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روي الشيخان عن أبي بكرةقال‏:‏ خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال‏:‏ ‏(‏إن الزمان قداستدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منهاأربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذيبين جمادي وشعبان‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏أي شهر هذا‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنهسيسميه بغير اسمه، قال‏:‏ ‏(‏أليس ذا الحجة‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ بلي‏؟‏ قال‏:‏‏(‏أي بلد هذا‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميهبغير اسمه، قال‏:‏ ‏(‏أليست البلدة‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ بلي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فأييوم هذا‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ فسكت حتى ظننا أنه سيسمية بغيراسمه، قال‏:‏ ‏(‏أليس يوم النحر‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ بلي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإندماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، فيشهركم هذا‏)‏‏.‏

‏(‏وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏‏.‏

‏(‏ألا هل بلغت‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوعي من سامع‏)‏‏.‏

وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة‏:‏ ‏(‏ألا لا يجني جَانٍ إلا على نفسه،ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أنيُعْبَد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم،فسيرضى به‏)‏‏.‏

وأقام أيام التشريق بمني يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها‏.‏

وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً، فقد روي أبو داود بإسناد حسن عنسَرَّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومالرءوس، فقال‏:‏ ‏(‏أليس هذا أوسط أيام التشريق‏)‏‏.‏ وكانت خطبته في هذااليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر‏.‏

وفي يوم النَّفْر الثاني الثالث عشر من ذي الحجة نفر النبي صلى الله عليهوسلم من مني، فنزل بخِيف بني كِنَانة من الأبْطَح، وأقام هناك بقية يومهذلك، وليلته، وصلي هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثمركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع، وأمر به الناس‏.‏

ولما قضي مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله‏.

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#81

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

*آخر البعوث‏

كانت كبرياء دولة الرم قد جعلتها تأبي حق الحياة على من آمن بالله ورسوله،وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل في الإسلام، كما فعلت بفَرْوَة بنعمرو الجُذَامِي، الذي كان والياً على مَعَان من قبل الروم‏.‏

ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهزجيشاً كبيراً في صفر سنة 11ه، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أنيوطئ الخيل تُخُوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروموإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أنبطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوففحسب‏.‏

وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارةأبيه من قبل، وايم الله، إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحب الناسإلى، و إن هذا من أحب الناس إلى بعده‏)‏‏.‏

وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشة، حتى خرجوا ونزلواالجُرْف، على فَرْسَخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسولالله صلى الله عليه وسلم ألزمتهم التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقدقضي الله أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق‏
.‏



إلى الرفيق الأعلي



* طلائع التوديع‏ :

ولما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياةوالأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله‏.‏

إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلاعشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع‏:‏‏(‏إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً‏)‏، وقالوهو عند جمرة العقبة‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عاميهذا‏)‏، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداعوأنه نعيت إليه نفسه‏.‏

وفي أوائل صفر سنة 11 ه خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلي علىالشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال‏:‏ ‏(‏إنيفرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيتمفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوابعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها‏)‏‏.‏

وخرج ليلة في منتصفها إلى البَقِيع، فاستغفر لهم، وقال‏:‏ ‏(‏السلام عليكميا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلتالفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولي‏)‏،وبشرهم قائلاً‏:‏ ‏(‏إنا بكم للاحقون‏)‏‏.‏

* بداية المرض‏‏ :

وفي اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة11ه وكان يوم الاثنينشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع، وهو فيالطريق أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدونسَوْرَتَها فوق العِصَابة التي تعصب بها رأسه‏.‏

وقد صلي النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 31، أو 41 يوماً‏.



* الأسبوع الأخير‏‏ :

وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه‏:‏ ‏(‏أينأنا غداً‏؟‏ أين أنا غداً‏؟‏‏)‏ ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء،فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلى بن أبي طالب، عاصباًرأسه، تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضي عندها آخر أسبوع من حياته‏.‏

وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة‏.‏

* قبل الوفاة بخمسة أيام‏‏ :

ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتدبه الوجع وغمي، فقال‏:‏ ‏(‏هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرجإلى الناس، فأعهد إليهم‏)‏، فأقعدوه في مِخَضَبٍ ، وصبوا عليه الماء حتىطفق يقول‏:‏ ‏(‏حسبكم، حسبكم‏)‏‏.‏

وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسهبعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثنيعليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إلي‏)‏، فثابوا إليه، فقال فيما قال‏:‏‏(‏لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ وفيرواية‏:‏ ‏(‏قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏وقال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري وثناً يعبد‏)‏‏.‏

وعرض نفسه للقصاص قائلاً‏:‏ ‏(‏من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه‏)‏‏.‏

ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي فيالشحناء وغيرها‏.‏ فقال رجل‏:‏ إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال‏:‏ ‏(‏أعطهيا فضل‏)‏، ثم أوصي بالأنصار قائلاً‏:‏

‏(‏أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقيالذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم‏)‏، وفي رواية أنهقال‏:‏ ‏(‏إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح فيالطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم،ويتجاوز عن مسيئهم‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء،وبين ما عنده، فاختار ما عنده‏)‏‏.‏ قال أبو سعيد الخدري‏:‏ فبكي أبوبكر‏.‏ قال‏:‏ فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس‏:‏ انظرواإلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بينأن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول‏:‏ فديناك بآبائناوأمهاتنا‏.‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكرأعلمنا‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من أمنّ الناس على في صحبتهوماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً،ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبيبكر‏)‏‏.

*قبل أربعة أيام‏

ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال وقد اشتد به الوجع‏:‏ ‏(‏هلمواأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده‏)‏ وفي البيت رجال فيهم عمر فقال عمر‏:‏ قدغلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيتواختصموا، فمنهم من يقول‏:‏ قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم،ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قوموا عني‏)‏‏.‏

وأوصى ذلك اليوم بثلاث‏:‏ أوصي بإخراج اليهود والنصاري والمشركين من جزيرةالعرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيهالراوي‏.‏ ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أوهي‏:‏ ‏(‏الصلاة وما ملكت أيمانكم‏)‏‏.‏


يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#82

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل


والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناسجميع صلواته حتى ذلك اليوم يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام وقد صليبالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً‏.‏

وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد‏.‏ قالتعائشة‏:‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصَلَّى الناس‏؟‏‏)‏قلنا‏:‏ لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ضعوا لي ماء فيالمِخْضَب‏)‏، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه‏.‏ ثم أفاق، فقال‏:‏‏(‏أصلى الناس‏؟‏‏)‏ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولي منالاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء فأرسل إلى أبي بكر أن يصليبالناس، فصلي أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم،وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الإثنين، وخمس عشرةصلاة فيما بينها‏.‏

وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات ؛ ليصرف الإمامةعن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس ، فأبي وقال‏:‏ ‏(‏إنكن لأنتن صواحبيوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس‏)‏‏.‏

* قبل ثلاثة أيام‏ :

قال جابر‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول‏:‏ ‏(‏ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله‏)
‏‏.‏


* قبل يوم أو يومين‏‏ :

ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بينرجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر،فأومأ إليه بألا يتأخر، قال‏:‏ ‏(‏أجلساني إلى جنبه‏)‏، فأجلساه إلى يسارأبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعالناس التكبير‏.‏

* قبل يوم‏ :

وقبل يوم من الوفاة يوم الأحد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه،وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده ، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليلأرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت‏:‏ أقطري لنا في مصباحنا منعُكَّتِك السمن ، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثينصاعاً من الشعير‏.‏


* آخر يوم من الحياة‏ :

روي أنس بن مالك‏:‏ أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنينوأبو بكر يصلي بهم لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف سترحجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكرعلى عقبيه ؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرجإلى الصلاة‏.‏ فقال أنس‏:‏ وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فَرَحًابرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليهوسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخي الستر‏.‏

ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى‏.‏

ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسَارَّها بشيءفبكت، ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة‏:‏ فسألنا عن ذلك أي فيمابعد فقالت‏:‏ سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفيفيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت‏.‏

وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين‏.‏

ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه‏.‏

فقالت‏:‏ وا كرب أباه‏.‏ فقال لها‏:‏ ‏(‏ليس على أبيك كرب بعد اليوم‏)‏‏.‏

ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصي بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن‏.‏

وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول‏:‏‏(‏يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدتانقطاع أبْهَرِي من ذلك السم‏)‏‏.‏

وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهوكذلك وكان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس‏:‏ ‏(‏لعنة الله على اليهودوالنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا لا يبقين دينان بأرضالعرب‏)‏‏.‏

وأوصى الناس فقال‏:‏ ‏(‏الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم‏)‏، كرر ذلك مراراً‏.‏

* الاحتضار‏ :

وبدأ الاختصار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول‏:‏ إن من نعم الله على أنرسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِيونَحْرِي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته‏.‏ دخل عبد الرحمن بن أبيبكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظرإليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت‏:‏ آخذه لك‏؟‏ فأشار برأسه أن نعم‏.‏فتناولته فاشتد عليه، وقلت‏:‏ ألينه لك‏؟‏ فأشار برأسه أن نعم‏.‏ فلينته،فأمره وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا وبين يديه رَكْوَة فيهاماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه، يقول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله،إن للموت سكرات‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره نحو السقف،وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول‏:‏ ‏(‏مع الذين أنعمت عليهم منالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقنيبالرفيق الأعلي‏.‏ اللهم، الرفيق الأعلي‏)‏‏.‏

كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلي‏.‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحي من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11ه،وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام‏.‏


* تفاقم الأحزان على الصحابة‏‏ :

وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها‏.‏ قالأنس‏:‏ ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسولالله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيهرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما مات قالت فاطمة‏:‏ يا أبتاه، أجاب ربا دعاه‏.‏ يا أبتاه، مَنْ جنة الفردوس مأواه‏.‏ يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه‏.‏



* موقف عمر‏ :

ووقف عمر بن الخطاب يقول‏:‏ إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكنذهب إلى ربه كما ذهب موسي بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجعإليهم بعد أن قيل‏:‏ قد مات‏.‏

ووالله، ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات‏.‏


* موقف أبي بكر‏‏ :

وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلمالناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغشيبثوب حِبَرَة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله وبكي، ثم قال‏:‏ بأبي أنتوأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقدمِتَّهَا‏.‏

ثم خرج أبو بكر، وعمر يكلم الناس، فقال‏:‏ اجلس يا عمر، فأبي عمر أن يجلس،فتشهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر‏:‏

أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات،ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله‏:‏ ‏{‏وَمَامُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنمَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْعَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُالشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتىتلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلايتلوها‏.‏

قال ابن المسيب‏:‏ قال عمر‏:‏ والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها،فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تُقُلِّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حينسمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات‏.‏


* التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض‏‏ :

ووقع الخلاف في أمرالخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم،فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سَقِيفة بنيساعدة، وأخيرًا اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومضي في ذلك بقيةيوم الاثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله صلى الله عليهوسلم حتى كان آخر الليل ليلة الثلاثاء مع الصبح، وبقي جسده المبارك علىفراشه مغشي بثوب حِبَرَة، قد أغلق دونه الباب أهله‏.‏

ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه منثيابه، وكان القائمون بالغسل‏:‏ العباس وعليّا، والفضل وقُثَم ابنيالعباس، وشُقْرَان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد،وأوس بن خَوْلي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبانالماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره‏.‏

وقد غسل ثلاث غسلات بماء وسِدْر، وغسل من بئر يقال لها‏:‏ الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب منها‏.‏

ثم كفنوه في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة من كُرْسُف، ليس فيها قميص ولا عمامة‏.‏ أدرجوه فيها إدراجًا‏.‏

واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر‏:‏ إني سمعت رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض‏)‏، فرفع أبو طلحةفراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً‏.‏

ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم أفذاذاً، لا يؤمهم أحد، وصلي عليه أولاً أهل عشيرته، ثمالمهاجرون، ثم الأنصار، ثم الصبيان، ثم النساء، أو النساء ثم الصبيان‏.‏

ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، ومعظم ليلة الأربعاء، قالت عائشة‏:‏ ماعلمنا بدفن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المسَاحِي من جوفالليل وفي رواية‏:‏ من آخر الليل ليلة الأربعاء‏.‏

يتبع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#83

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

* المصادر والمراجع :

1- البداية والنهاية ( للحافظ ابن كثير , إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقى )

2- التاريخ الصغير ( للإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري )

3- السيرة النبوية ( لأبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري )

4- السيرة النبوية ( لأبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد التيمى البستى )

5-الرحيق المختوم ( صفى الرحمن المباركفورى )

6- الكامل في التاريخ ( لعز الدين بن الأثير أبو الحسن على بن محمد الجزرى )

7- مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ( لشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدى )

إنتهى

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#84

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حَميد مجيد‏.‏
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد‏.

اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد صاحب التاج والمعراج والبراق والعلم
اللهم أحشرنا في زمرته الكريمة وأسقنا من يديه الكريمتين شربة هنيئة لانظمأ بعدها أبدا


منقووووول



إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#85

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد
بارك الله فيكى يا امانى

#86

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

تم التثبيت لفترة
#87

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

شكرا ع المجهود الرائع
إظهار التوقيع
توقيع : بوحة
#88

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

شكرا على المرور الرائع

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#89

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

[IMG]https://**- /alfrasha/ups/u/26978/31670/395854.gif[/IMG]
إظهار التوقيع
توقيع : صمت الورود
#90

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسل

نورتـــــــــــِ
شكرا لكِ

إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#91

افتراضي رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم

رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم
رد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلمرد: (السيرة النبوية) كامله بدءاً من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم


إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5
أدوات الموضوع


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
تغريدات الشيخ موسى بن راشد العازمي عن السِّيرَةِ النَّبَويِّة طُمُوحي الجنّة السنة النبوية الشريفة
دستور المدينة.. مفخرة الحضارة الإسلامية توتى 1 المنتدي الاسلامي العام
من فوائد دراسة السيرة النبوية نسيم آڸدکَريآت السنة النبوية الشريفة
كيف نخدم السنة النبوية؟ نسيم آڸدکَريآت السنة النبوية الشريفة
شمولية السيرة النبوية نسيم آڸدکَريآت السنة النبوية الشريفة


الساعة الآن 02:40 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل