يستهل ربنا( تبارك وتعالي) سورة الطارق بقسم عظيم يقسم به( سبحانه) ـ وهو الغني عن القسم ـ بكل من السماء والطارق, ثم يثني باستفهام تفخيمي عن ماهية الطارق ويحدده بالنجم الثاقب, فيقول( عز من قائل) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين):
والسماء والطارق* وما أدراك ما الطارق* النجم الثاقب*
(الطارق:1 ـ3)
وقد اختلف المفسرون في تحديد المقصود من الطارق, فمنهم من قال إن الوصف ينطبق علي كل نجم, ولا سبيل إلي تحديد نجم بذاته, ولا ضرورة لهذا التحديد, بل إن الإطلاق أولي ليكون المعني: والسماء ونجومها الثاقبة للظلام, النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء..., كما قال صاحب الظلال( يرحمه الله رحمة واسعة)..
ومنهم من قال إنه الثريا أو النجم الذي يقال له كوكب الصباح, أو نجم آخر محدد بذاته,
ومنهم من قال إن الوصف ينطبق علي الشهب التي وصفها القرآن الكريم بأنها ثاقبة, كما في قول الحق( تبارك وتعالي):
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب*
( الصافات:10)
وذلك علي الرغم من الفروق الضخمة بين كل من النجم والكوكب والشهاب.
ولكن, الواضح من الآيات أن القسم جاء هنا بنجم خاص بذاته سماه ربنا تبارك وتعالي بـ الطارق, ووصفه بالنجم الثاقب, فما هو هذا النجم المحدد الذي استوجب هذا القسم القرآني التفخيمي, وجاء مقرونا بالسماء علي عظم شأنها؟ خاصة أن القسم في القرآن الكريم يأتي من أجل تنبيهنا إلي أهمية الأمر المقسوم به, وإلي ضرورته لاستقامة الكون ومكوناته, أو لاستقامة الحياة فيه, أو لكليهما معا, وذلك لأن الله( تعالي) غني عن القسم لعباده, كما سبق وأن أشرنا وكررنا لمرات عديدة, وعندي أن معني الطارق النجم الثاقب لا ينجلي إلا بمعرفة دقيقة لطبيعة النجوم وأنواعها ومراحل تكونها, لأن هذه قضية علمية صرفة, وكطبيعة كل الإشارات الكونية في القرآن الكريم, لابد من توظيف المعارف العلمية لفهم دلالاتها, حيث لا يمكن لتلك الدلالات أن تتضح في الإطار اللغوي وحده.
المدلول اللغوي للفظة الطارق
لفظة الطارق اسم فاعل من الطرق بمعني الضرب بشدة, وأصل الطرق الدق, ومنه سميت المطرقة التي يطرق بها, وهذا هو الأصل, ولكن استخدمت اللفظة مجازا لتدل علي الطريق أي السبيل, لأن السابلة تطرقها بأقدامها, ثم صارت اسما لسالك الطريق, باعتبار أنه يطرقها بقدميه, ولفظة الطريق تذكر وتؤنث, وجمعها أطرقة, وطرق.
كذلك استخدم لفظ الطريقة بمعني الوسيلة أو الحالة.
واستخدم الطرق والمطروق للإشارة إلي ماء السماء الذي تطرقه الإبل بعد سقوطه علي الأرض, واستخدم لفظ الطارق علي سبيل المجاز للتعبير عن كل ما جاء بليل, فسمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلي طرق الأبواب المغلقة, ثم اتسع هذا الاستعمال المجازي ليشمل كل ما ظهر بليل, ثم زيد في توسيعه حتي أطلق علي الصور الخيالية البادية لبعض الناس بالليل.
وطريقة القوم وطرائقهم أماثلهم وخيارهم, والطرائق الفرق والطرق.
والطرق أيضا الضرب بالحصي, وهو من الكهانة والتكهن, والطراق هم المتكهنون, والطوارق هن المتكهنات.
آراء المفسرين في الطارق النجم الثاقب
ذكر ابن كثير قول قتادة وغيره من متقدمي المفسرين( يرحمهم الله جميعا) مانصه: إنما سمي النجم طارقا, لأنه إنما يري بالليل, ويختفي بالنهار, ويؤيده ما جاء بالحديث إلا طارقا يطرق بخير يارحمن), وأضاف قول ابن عباس( رضي الله تبارك وتعالي عنهما( في شرح الثاقب بالمضيء, وأشار إلي قول عكرمة( رضي الله عنه): هو مضيء ومحرق للشيطان.
وذكر صاحب الظلال( يرحمه الله): أن هذا الوصف ينطبق علي جنس النجم, ولا سبيل إلي تحديد نجم بذاته من هذا النص, ولا ضرورة لهذا التحديد, بل إن الإطلاق أولي ليكون المعني: والسماء ونجومها الثاقبة للظلام, النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء...