وقفتُ أمام باب المدرسة المتوسطة الذي كان مغلقًا و بقيتُ أُحــــدِّقُ به ، ركزت نظري عليه طويلًا و أنا أستعيد ذكريات العام الماضي .. نعم ، أنا الآن طالبةٌ في المرحلة الثانوية و لم أعد مرتبطةً بهذه المدرسة الصغيرة ... حدثت نفسي قائلةً :
كم أصبح الزمن سريعا هذه الأيام .. يمر علينا و نحن لا نكاد نحس به .. و ما نلبث أن نستوعب ما يحصل إلا و يسبقنا هو
لم أشهد في حياتي سنةً أروع و أسرع من هذه السنة ، إنّها مميزة في نـــــــظري و ان لم تكن كذلك في أعين الغير ، لانني عادةً ما لا أهتم لمرور السنين ، السبب ربما يعــــــود إلى أنها كانت آخر سنةٍ لي في مدرستي ، فبعدها انتقلت إلى مستوى أعلى و هو المستوى الثانوي و ليس هذا كـ ذاك ! ودعت هذه الأم التي ربتني طول هذه الـسنوات .. وكانت تلك آخر أوقاتي فيهــــــا ..
أتذكّرُ كيف كنّا أنا و صديقاتي ، و كيف أنشأنا مجموعة أسميناها " أحلى البنات " ، كانت أروع مجموعة على الإطلاق ! كنا نشاغب كثيرًا و نُطلق طرفًا ظريفة ..
في بداية السنة الدراسية أشارت إليّ صديقتي أن أُخَصِّصَ دفترًا أكتب فيه ما يحدث معنا ، فنحن نمضي مغامرات رائـــــــعة كلّ يومٍ .. و بالطبــــع فعلتُ و دوّنت كل ما أمرُّ به في دفتر ذكرياتي هذا ..
أدخلت يدي في حقيبتي التي أحملها و أخرجتُ دفترًا صغيرًا ورديا كُتبَ عليه بخطٍّ كبير {2016} ، و بدأت أجول بين صفحاته و أقرأ بضعة سطورٍ ، و سرعان ما عادت إليَّ الذكريات بلا حاجةٍ للدفتر ، فإنّه من المستحيل عليَّ أن أنسى ذكرياتنا الجميلة ..
لا أزال أذكر كيف كانت بدايتها ، لم تشأ عائلتي الاحتفال بأوّلٍ يوم فيها قائلين {
إننا مسلمون .. لا نحتفل بأعياد الكفار }.. كان يوم مولدي يصادف اليوم الأول من الشهر الأول ، لذا فقد احتفلنا بيوم ميلادي و ليس ببداية السنة، كم كان ذلك رائعا فقد بلغت حينها سن الرابعة عشر ، و سرعان ما مر الشهر الأول علينا مرور الكرام ، فلم نستطع استيعابه و لم نقم بعملٍ يذكر فيه فقد كان أسرع منا بكثير ..
في المدرسة و مع صديقاتي كنت أساهم بشكلٍ فعَّالٍ في إزعاج الحارس المسكيــــــــن ، كان يُحذرنا من دخول القاعات الخاصة بالأساتذة و الإداريين ، لكننا غالبًا لا نطيعهُ و نقتحم غرفة اجتماعهم فنجدهم يأكلون أو يضحكون بصوتٍ مرتفعٍ ، فيشتدُّ غضبهم علينا و يعاقبونا بخصم بضعٍ من علاماتنا لكن هيهات أن نتوقف عن إزعاجهم، لن أنسى وجه أستاذي و هو يضحك ، كانت أوّل مرةٍ أراهُ يضحك فيها طوال الـ 3 سنين الماضية ..
الصفحة الخامسة .. لمحتُ كتابةً باللـــــــــون الأحمر ، لم أحتج لوقتٍ حتى أتذكرها ، نعم إنها كتابة
معلمتي الغالية ..
أتذكر ذلك الـــيوم . كنت أجلس في ساحة المدرسة بعيدةً عن ضوضاء حديث الفتيات الأُخريات ، لمحتني معلمتي و قد أمسكت دفتري الصغير و بدأت الكتابة فيه ، تقدمت نحوي بهدوءٍ كي لا أحس بها و أخذت تتأمل ماذا أكتب !! و يا للمصادفة كنت أكتب عنها و عن الوقت الرائع الذي أُمضيه في حصصها .. لانني كنت أحبها و أحب اختصاصها الذي هو {
أدبٌ عربيٌّ } ..
و عندها أمسكت الدفتر و سحبته من يدي و أخذت القلم و وقعت لي في آخر الصفحة ، كان ذلك شرفًا عظيمًا لـي ، كيف لا و هي
أفضل أستاذة على الإطلاق في مدرستنا و الجميع يُقِرُّ بذلك ...
الصفحة العاشرة ...
وصلنا قرارٌ من وزارة التربية بمضاعفة الحصص التعلمية ، و بمجرد أن سمع الطلاب ذلك ثاروا ضدَّ المدرسين و لاسيما طلاب مدرستنا ، كانوا مشاغبيــــــــن جدًّا .. و بالطبع كنت و صديقاتي نتصدرهم .. في ذلك الــــــــــيوم نلنا عقابًا شديدًا و خصم منا الأساتذة كثيرًا من النقاط ، لكن حققنا مطلبنا و قرروا تخفيض عدد الحصص و صرنا فخرًا للتلاميذ في نظرنا، و صاروا يضربون بنا المثل !! .. آه على تفكير الطفولة .. (
عقل الصغر)
وقعت و دون أن أشعر ورقةٌ منه ، فسارعتُ بالتقاطها و تأمُّلها .. كانت صورة جماعيّةً لنا كصفٍّ واحدٍ مكتوب عليها 2024
هنا نزلت دموعي و انا اتذكر زملائي .. منهم من سافر للدراسة في الخارج و هم المتفوقون ، و منهم من ترك المدينة و ذهب ليقيم في مدينة أخرى .. و تذكرت مجموعتنا التي تشتت " أحلى البنات " .. فانفطر قلبي حزنًا ...
شردتُ لثوانٍ ثمّ عدت للواقع .. فتحتُ باب المدرسةِ و دخلت ..
يا إلهي .. تغيّر كلّ شيءٍ تقريبًــــــــا .. لم يدعوا شيئا في مكانهِ ، غيرت إدارة المدرسة لون الطلاء و لون الطاولات و ترتيب الصفوف .. هدموا مساحاتٍ منها و أعادوا بناء أخرى ..
تقدم مني المدير و خاطبني قائلًا : أهلا و سهلا يا ابنتي .. كيف حال دراستك في الثانوية ؟
أجبته بحسرةٍ :
تالله ما يمنعي من العودة إلى هذه المدرسة غيرُ القوانين ... و يا ليتني أستطيع الــــــــــعودة بالزمن إلى الوراء لأعيد السنة الماضية ..
واصلت الكلام و دموعي تنزل : حتى هيكل المدرسة الذي بقيَ يذكرني بالعام الماضي مع صديقاتي الرائعات قد تغيّر .. فماذا بقي لي كـ ذكرى منهنَّ؟ لا شيء سوى هذا الدفتـــــــــرِ ..
و ما إن أخرجتُهُ من حقيبتي حتى وقع منّي على الأرض و تبلل .. لم أدرِ ماذا أفعــــــل فقد صدمت حينها جدًا
لكنني أدركتُ أيضا و بعد مدةٍ أن الأوقات الجميلة
لا تُمحى
بل إنها لا تحتاج لدفتر ذكرياتٍ كي تُـدوَّنَ فيهِ .. لأنها
محفورة و مكتوبة في
قلوبنا قبل كلِّ شيء
و هكــذا لم يعُد يهمني "دفتر الذكريات" .. لأن
قلبي هو مخزن ذكرياتي ...
بقلمـي